آن ينذر ''الشَّيخ''... في عثرات الأقلام والمفردات
آن ينذر ''الشَّيخ''... في عثرات الأقلام والمفردات
''كتابُ المنذر'' ... وكيف أجرؤُ على ولوجِ ذيّاكَ الكتابِ ولو لنقدِ دُرّ ؟! لا ''يجرؤ '' الأستاذ أمين زيدان، الكاتب والمعرّبِ والباحث القدير ''أن يتدخَّل في شؤون وشجون اللّغُة واللّغُويين''! لكنّهَ يعترف بفائدة كتاب المنذر ''عثرات الأقلام والمفردات''على الأدباء والكتّاب والمدرّسين والمترجمين. إنها أمثولة في التواضع واعتراف جريء بدور وأهمية اللّغويين.
اعترافاتٌ صاغَها أمين زيدان بأسلوبٍ شيّقِ ٍمُبْتَكر. والمبتكرون في هذا المجال قلّةَ!
لا نعرِف كاتبًا يُجيدُ نَسْجَ الاستعارة على طريقته: فللأقلامِ ثغورٌ، للكلماتِ مقالعُ وللحروفِ ضفائر. الحاجةُ الى المعرفةِ جوعٌ وظمأ والباحثُ صيّاد... نكتفي بهذا القدر.
''سبحةٌ '' من الصوَر الجميلة، سلسلةٌ من التشابيه الرائعة لا تنقطع. إنّهَ النثرُ الفنيّ.
أسرة التحرير
كرُمت يدٌ أَغمدت في صدأ النسيان أنملاتٍ، قناديلَ عذارى حكيمات، تحاكي بسمات على ثغرها تشعّ ولا تُبهر، ولهبًا في ناظريها يشتعل ولا يُحرق، يدٌ تستلُّ كتابًا... تجلوه... تكسوه بريق ماضيه، معتّقَ جودةٍ... تُثبتُ راهنَ حقيقةٍ أنّ مثله لا ماضٍ له ولا حاضر، وله دوامُ قابلٍ وحسبُ، طالما هنالك من إليهِ أبدًا يحتاجُ تقويمًا لملكة، وصقلاً لذائقةِ، وضفرًا لأكاليلَ فخارٍ تزيّنِ جبينَ منَ بركب الحضارات يلحق، وتطوُّرَ لغةٍ فتطوُّرَ أمّةٍ يواكب.
وأكرمُ منها، يدٌ أخيّةٌ أهدتِ الكتاب، إرثَ معطاءٍ نصعتْ يداه على جيلٍ، على وطنٍ، على لسانٍ، يدُ الآنسة عفاف صبّاغ، حفيدةِ ذيالك الجوّاد، صاحبِ الكتابِ، أليفةِ العمل في الصّمت يدوّي في أغوارِ رهيفِ أحاسيس، خدينةِ الخفاءِ يرفعُ مَن تجلْبَبَ اتّضِاعا... أيّ كتاب؟!
''كتابُ المنذر''
فِلذةٌ من تُحَفِ ابراهيم المنذر،
الشّيخِ الذي يشوّهُ ألقَ اسمِه وبريقَ ما به يوحي أيّ لقبٍ إليه يُضافُ ما عَظُمَ اللّقبُ!
فلن ألقّبَ!
... وكيف أجرؤُ على ولوجِ ذيّاكَ الكتابِ ولو لنقدِ دُرّ!؟ٍ
لا وألفُ لا! لن ألجَ، فَمِنْ أين لي أن أُبديَ فيه رأيًا، ناقدًا أو باحثًا أو مشاركًا، وأنا لست سوى مُتَلقّ في شؤونِ اللّغُةِ،أغرِفُ ما أغرِفُ ممّا يجودُ عليّ به علماؤُها والفقهاءُ،وأتَلقّفُ على ضوء إنذاراتِ الشَّيخ الّرفيقةِ وإرشاداتِهالقويمةِ،ما به أُصوّبِ ُرشدي. وكلُّ ما لا أُحجِمُ عنه، هو إشباعُ ماأمكنَ من نهمي، ولو كان فُتاتًا يتناثرُ عن موائدِه الشهيّةِالفائقةِ الغِنى ألوانًا ومذاقاتٍ، وأنا أحاولُ مقاربةَ الأثرِ هذاعلى مذهبٍ بالمناسبةِ خاصّ
مذهبي هنا، مذهبُ مَن يقاربُ قُدسَ أقداسٍ. فَبَدَلَ الانزلاق مع دَفْق الينبوعِ صوبَ المصبّ،ِ تدفع ُ''زورقي/الذائقةَ''ريشتي، وإن وَهَتْ، عكسَ هوى التيارِ، من المَصَب ّصوب َالينبوعِ، علّنَي، عندالينبوعِ أُلقي المجاذيف َوأترصَّدُ لَمْحَ لآلىء في مخابئَ تومِضُ، فأرميَ الشّباكَ فأصيدَ من جوفِه ما قد يُحرَم سواي من صيدِه، إن هو أَحَبَّ الغطسَ مزاحمةً لآخرينَ على امتلاكِ دررٍ، حلالٌ اقتناؤُها لمن بها يظفَرُ.
يا لمُلْكٍ يقتنيه الجميعُ، وكلٌّ يعتبرُه ملكَه الخاصَّ، لأنّ مثل هذا المُلْكَ المشاعَ لا ينقصُ ولا هو ينفذُ ولا هو يبيتُ في خزانةِ أحدٍ. أَوَلَيسَ هذا هو سرُّ خالد الثقافاتِ وسرُّ المحسنين بمثلِه يجودون؟!
...ورمَيتُ شباكي هناك!
يا سعدي بقليلِ صيدٍ، ولو لم يمزّقِ الصيدُ الشباكَ.
ويا متعتي باقتسامِ ما تخيّرتُ من صيدي أُقاسمُه صحبًا من بني لغتي، علَّ جوعَنا إلى معرفةِ بعضِ خصالِ صاحبِ الأثرِ عَضُّه يخِفّ،ُ وربَّ عطشٍ إلى تبيّنِ بعضِ معالمِ عبقريّته يَبِلُّ له غليلٌ. أوليسَ الغوصُ في غياهبِ أعماقِ صاحبِ الأثرِ خيرًا، أحايينَا، من التلهّيِ بما منها يبدو على ذؤاباتِ الحروفِ؟ بلى! بلى! خاصّةً إذا كان الكثيرُ من كنوزِ الأثرِ على جودةٍ نَدَرَتْ، سختْ بها ثغورُ أقلامٍ لها تدينُ اللّغُةُ ويدينُ بنوها بشيءٍ من أسبابِ بقائِها حيةً، فيؤمَلُ أن تواكبَ ركبَ الحضاراتِ إن هبَّ من يتناولُ المشاعلَ من سابقيهم، فبنورِها يهتدون، وقِدمًا بها يسيرون، وما يدهمُ من عَتَمَاتٍ يكشحون، فلا تُصابُ بما أُصيبتْ به عريقُ لغاتٍ خَمُلَ بنوها فماتتْ ولا أملَ ببعثِها لتلحقَ بِسَبْقِ حضاراتٍ ولغاتٍ حيّةٍ فرضتْها همّةُ أبنائها ووعيُهم على أبناءِ كثيرٍ من الأمم واللّغُاتِ.
وبعد،
أليس من حُرمةِ القارئ أن ندعَه مِرارًا، يَنعُمَ وهو يجني حلاواتِ كفاحٍ، أعذبُها ما يُنالُ بُعَيْدَ إيقادِ عيونٍ خُلِقَتْ لتذوبَ بحثًا عن مغاني جمالٍ يُكْمِلُ جلاءَ صورةِ من شاءَ أن يكونَ مِنْ حَمَلَةِ تيكَ العيونِ، على مثاله، خلاّقين، مبدعين؟!
وكيف إذا كانت محاولةُ الجني من مقلعٍ، كلّما صُغْتَ منه ماسًا، جادَ عليك بأنقى وأغلى، مقلعٍ ''منذرٍ'' بتأمينِ الكَفافِ لأجيالٍ، وربّما لآبادٍ، وليس لمعدودِ أيّامٍ.
أمِن مقلعٍ أغنى وأبقى من مقالعِ الكلمةِ؟ لا! فما استُخرِجَ من مقالعِ العبقريّةِ، بَدْعًا وجِدّةً، وبالحروف صِيْغَ وجُسّدِ،َ يستحيلُ أن يموتَ مهما عليه طالتِ الأيّامُ، ومهما فوقَه تكدّسَ الغبارُ، أكانَ على الرّفوفِ أو في الخزائنِ نَسْيَا. تكفي نُسَيْمَةُ حاجةٍ إلى أثرٍ من آثارِه لتتمزّقَ الأكفانُ...
عالِمٌ لغويّ حقّ،ٌ ينقّبُُ، يبحثُ، يقارنُ، يستنبطُ، يحاورُ، يستلهمُ... فيُقِرُّ رأيًا أو هو يعدّلِهُ أو يَعْدِلُ عنه. ويا له من عالِمٍ! ندرَ من كان على مكانتِه إنِ اتّضحَ فِعْلاً له شأنٌ في تاريخ.
ولم يكفِه ما به تواضعَ، فأقرَّ بعجزٍ عن القيامِ بمثلِ ما رمى إلى إصلاحه وحدَه، فدعا إلى قيامِ مجمعٍ علميّ لبنانيّ ٍ يُشرِك فيه جميع القادرين على تشخيصِ داءٍ لم يَشْفِه علاجٌ بدأتْ بوصفِه مجالسُ سبقتْ. وأفلحَ إلى حدّ ! وسرعانَ ما عادَ وباءٌ وضعفٌ يعيثانِ في لغةِ العرب، وعادَ المفسدون الأدعياءُ، يعملون هدمًا في بنيانها الفريدِ، وهُمْ على قناعةٍ بأنّهم يرفِدونها غنًى وتطوُّرًا بتبنّي صِيَغٍ، ومفرداتٍ، وتعابيرَ، لا أصالةَ فيها ولا ذوقَ، ويتّهمون مَن سبقوا وأصلحوا بعضًا من هَناتِ بالرجعيّةِ والبدائيّةِ!؟ يا ويحَهم!عاشقٌ، راءٍ، تشوّفَ في مطلعِ نهضةٍ، إضافةً إلى ما تشوّفَه بعضٌ من كبارِ عاشقين، معاصرين، أو سابقين، ما تحتاجُ إليه عروسُ بيانِهم السّاحرِ، لغتُهم الأمّ،ُ من فائق عنايةٍ، لتعكِسَ نقيّةً، أنيقةً، فريدةً، صورةَ حضارةِ أمّة بها تنطقُ - وبعضُ بنيها يَرَوْن الله بها نطقَ فيأبى عليهم شغفُهم ب ''ضادِها''، وتأبى كرامتُهم أن ينخُرَها سوسٌ، أو أنتشوبَها عيوبٌ، أو هي يهدّدها مواتٌ أرجفَ فؤادَ شيخِنا فهتفَ ناهِرًا، متحدّيا، مؤمّلِاً، لسانَ كلِّ يعربيّ : ''ما ماتتْ لغةٌ في صدورِ رجالِها هِمّة، وفي قلوبِهم شعورٌ، وفي رؤوسِهم أدمغةٌ تفكّرُ في مصيرِ الشّعوبِ وفي مجاري الأمور''.
جريءٌ، عذبُ اللسانِ، فصيحُه فضحَ الكثيرينَ من المسيئينَ، وسعى إلى إصلاح ما منهم تفشَّى، عِللاً وخللاً، مع صحْبٍ له أسهموا في دَرْءِ أخطارٍ، إلى معالجةِ عثراتِ الأقلامِ ومفرداتِ اللّغُةِ، كرام الأفئدةِ والعقولِ والألسنةِ تنطُقُ بأمّ اللّغُاتِ، شعراً ونثرًا... وكَدّ وإيّاهُم في مداواةِ ما أصابَ المسؤولين عن مصيرِ اللّغُةِ فمصيرِ الأمّةَِ، من تعصّبٍ أعماهُم عن رؤيةِ خيوطٍ رَثّتَْ في نَسْجِ اللّغُةِ، فأبقَوا عليها كأنّمَا مسُّها مسُّ ما قدّسَ الله،َُ وقعدوا عن السّيرِ في رِكَابِ التّقَدّمِ... وجَدّ في العمل على سلامةِ أُسسٍ جديدةٍ، فوقَها يتواصلُ بناءٌ متينٌ، قشيبٌ، اشتقاقًا، وتعريبًا، واستنباطًا، وتَبَنّيِ كلماتٍ لا تخدِشُ الذّوقَ والسّمعَ من عالميّ لغاتٍ حيةٍَّ، هي أيضًا تلهثُ لاحِقَةً بسرعةِ تطوّرِ العلومِ والتقنياتِ كي لا يُحْرَمَ''البشرُ'' من التنعّمِ بما يتيحُ لهم الله أن يكتشفوه ومنه يُفيدون، علَّ جسدَه الكونيّ يتجلّى كاملاً في أَبدٍ هو سيّدُه، وبيدِه أن يُحدّدَ له ساعةَ التّمَامِ، مهتديًا بنورِ الفنّ والجمالِ والموسيقى والرّقصِ والمَنطق!... مِمّا جنى شيخُنا ثمارَه، وفيرةً، في أشعارِهِ وخُطَبِهِ، أكانتْ سياسيةً أو اجتماعيةً أو ما عداها من مواضيعَ غَدتْ مثالاً لا يُحتَذى وبها تُرَصَّعُ خُطَبٌ وأبحاثٌ ومقالاتٌ وُبنيّاَت أُخَرُمن بنيّاتِ مفكّرين كبارٍ.
... وحُبَيْباتُ سبحةِ خصالِ الشَّيخ ابراهيم المنذر تكادُ لا تُحصى، ومآتيه لا تُعَدّ،ُ وحسبُه أنّ قصيّاً من أحلامِه تحقّقَ:
''عاشَ وماتَ بين المحابرِ والأقلامِ وقرَّرَ حقائقَ ونوَّرَ إفهاما''. والحقّ يُقالُ: ''عاشَ وماتَ ليُبعثَ بين المحابرِ والأقلامِ'' طالما هنالك لغةُ ضادٍ وأناسٌ بها ينطِقون، أيّاً كان مجالُ نُطقهم، كتابةً، أو مشافَهةً، وإلى أمثالهِ يحتاجون ليجدّدِوا أبدًا شبابَها، فلا تبيتُ في عدادِ اللّغُاتِ الميّتةِ، فمعها يموتُ مكانةٌ وقدرٌ وأفضالٌ لهم على الكونِ سبقتْ، وعلى يقظَةِ الوعيِ العالميّ جلُّتَ عبرَ الأندلسِ، فليحكمِ التاريخُ!