جودت حيدر طائر القِمَمِ الشَّامِخَة
جودت حيدر
طائرَُ القِمَمِ الشَّامِخَة
علاقةُ الشعراءِ بالطبيعةِ قديمةٌ قِدمَ الشِّعْرِ. كانت نَجِيَّهم ومِرْآتهم ومَلجأهم آنَ تعزُّ الملاجئ. وجودت حيدر، على غرارِ كبارِ الرومانسيين، رأى في الطبيعةِ واحةً يهرعُ إليها من جورِ الحياةِ، حينًا، ومن إشكاليَّاتِ المدنيَّة وتعقيداتِها حينًا، وغالبّا، كانَ يَلْمحُ فيها تجلِّياتِ الخالِقِ في بعضِ بهائِهِ وسمُوِّ أسرارِهِ. أحبَّ اللُّغةَ الإنكليزيَّةِ وأتقَنها، وبها صاغَ مُعْظَمَ دواوينِهِ. فلنَسْمَعْهُ يُنْشِدُ بلُغةِ شكسبير أرقَّ أبياتِهِ.
I have heard what I hear now, around
The shores of eternity,
The echo of a voice in the sound
Of the living age in me.
تأثَّرَ، كمواطِنِهِ خليل مطران، بالرومانسيين الفرنسيين الكبار، أمثال ألفونس ده لامرتين وشاتوبريان، فوجدَ في الطبيعةِ ملاذًا يخِفُّ إليهِ طلبًا للراحةِ والسَّلامِ والتَّحَرُّرِ من قيودِ المُجتمع ؛على أنَّهُ أضافَ إلى الجوِّ البَعْلَبكِّيِّ والنكهةِ الفرنسيَّةِ مذاقًا أمريكيًّا تَمَيَّزَ بالعفويَّةِ وبساطةِ التعبيرِ ورحابةِ الأفقِ.
نسلكُ الدربَ مَعًا، لنبلُغَ غابةَ السنديان الخضراء
حيثُ يداعِبُ العَنْدَليبُ الطبيعةَ بتغريدِهِ
فيستمعُ ذاكَ العالمُ إلى اللحنِ العذبِ
يستمتعُ بتلكَ الميلوديا على مدى السنين.
[Echoes، أصداء، صفحة 41]
Lined up marching to reach the oak forest green
Where the nightingales hallo nature by song
That world would be listening than the charm serene
Of a breath living melody the years all along.
ولعلَّ حِسَّ جودت حيدر الرهيفَ، الشفيفَ، جمعهُ بجان جاك روسُّو النَّاقمِ على انعكاسات الثورة الصناعيَّة السيِّئةِ في أوروبَّا، فوجَدَ، مِثلهُ، في الطبيعةِ رَمْزًا إلى الحريَّةِ والصَّفاءِ، فاصطفاها، دونَ الرِّفاقِ والأنسباء، صديقةًً، أصيلةً، عريقةً، يبوحُ لها بأسرارِهِ، ويستعينُ بأجوائها الرضِيَّةِ السَّليمةِ على حملِ الهمومِ والتَّغلُّبِ على مصاعِبِ الحياةِ.
بعدَ أن فقدتُ ربيعَ العُمرِ
ولم يبق سوى ورقة خضراء على شجرتي
ولكن معَ همَّةٍ لا تُفارقني
استرجعتُ فترات المجدِ وأنا أتسلَّقُ بُرْجَ العُمر.
[ أصداء Echoesصفحة 33]
Having lost the spring would I in the fall
Find a lone green leaf still hung on my tree
When the stem drying core dried all in all
Leaving but the fiber of will in me.
ومعَ مرورِ السنينَ، أمست الطبيعةُ، في نظرِهِ، تَجْسيدًا حقيقيًّا، ملموسًا، مرنًا ومُقنعًا لوجودِ الله وتجلِّياتِ آياتِهِ. ففي شِعرِهِ كما في شعرِ لامرتين وخليل مطران وإيليَّا أبي ماضي تعكِسُ روعَةُ الطبيعةِ، جبالاً ومُنعطفاتٍ وغابات، ينابيعَ وأنهرٍ وبحور، زُهورًا وثمارًا وفراشات، عَظَمةَ الخالِقِ. بيدَ أنَّهُ لم يبلُغْ مرتبة رقيَ إليها فكتور هوغو وطاغور وريما الفارسي، الذين رأُوْا فيها الخالقَ عينه؛ في حُلوليَّةٍ مُطيَّبةٍ بأرَجِ الشعرِ ونسمِ الحنين.
"كُنْ سريعًا" كلحظِ العينِ ارتفاعًا
وانظُر منَ الأفقِ إلى الهوادي في البحرِ
أبدًا عَطْشى إلى الحُرِّيَّةِ
تسجدُ، وبقُدْرةِ قادِرٍ تنهضُ
كالمُصلِّين ما بين المدِّ والجَزر
اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، أللهُ أكبر
لقد أيقنتُ أنَّ الهوادي آمنت بالإنجيلِ والقرآن دينًا
وأنا أنظرُ إليها تركعُ بخشوعٍ وتُعمِّدُ الشواطئَ
وتُصلِّي صلاةَ الغروبِ والفجرِ على الرمال.
[جودت حيدر، مشوار العمر، صفحة 228]
مِنْ أجملِ ما كُتِبَ في هذا السياقِ، ما خطَّهُ الأديبُ السويسريُّ آمْيل: Amiel "الطبيعةُ مَظْهَرٌ من مظاهِرِ ألذاتِ الإلهية، والشُّعراءُ يُخاطبونها، عادةً، على وَقعِ دقات قلوبهم". المشهَدُ، في الطبيعةِ، يَبْدأُ حالةً نفسيَّةً ثُمَّ يأخُذُ على أقلامِ الأفذاذِ، بُعدًا كونيًّا. والشعراءُ، من فرجيل إلى طاغور، مرورًا بامرئ القيس وابن الرومي والصَّنَوْبَريّ وشعراء الأندلس، بشكسبير وسرفانتس ودانته وغوته وهوغو وأحمد شوقي وخليل مطران وأمين نخلة، وبولس سلامه وصلاح لبكي، شغلتهم الطبيعةًُ فوقفوا أمامها مُتسائلين، مُتأمِّلين، بائحين بمكنوناتِ صدورِهم، مُتبحِّرين في بساطةِ مُدْهِشاتها. يلقون بأحزانهم وبكُلِّ ما يُرهِقُ قلوبهم وعقولهم في أحضانها.
خُذْ منَ البحرِ عبرةً وامش يا صاح
على دروبِ الحياةِ حكيمًا في الوجود
وخُذْ منَ الطبيعةِ أخرى
الشتاءُ معَ قَسوتِهِ يُعطي الحياةَ عيشَها
والربيعُ وردة خلقت لتموت
لولا قطرة الشتاءِ لا حياة لا ربيع لا وجود.
[جودت حيدر، مشوار العُمر، صفحة 140-141]
كانَ جودت حيدر طائرَ الأرضِ وطائرَ البحرِ الغرِّيد؛ غنَّاهما، على مدى تجوالِهِ. منَ الأولى تعلَّمَ الوفاءَ والكرمَ وعرفانَ الجميلِ، ومن البحرِ استوحى الجزالةَ والأصالةَ ورحابة الصدر. مذاقُ السَّفرِ لمْ يبرحْ شعرَهُ؛ إنَّهُ يسكبُ عليهِ عبيرَ المُغامرةِ وحِسَّ الترحال.
يا بَحرُ ارفع أمواجَكَ
واغسل سواحِلنا المُغريةَ
وارفض الموتَ والاستسلامَ
كما المُناضلُ فِيَّ.
[جودت حيدر، مشوار العمر، صفحة 230]
Wash, Wash, Wash
Thy sedulous shores, O Sea!
In waves rising and ebbing to die
Like the countless in me
البحرُ يَحْلُمُ ويغضبُ ويستكين. العصافيرُ لا تُزقزقُ وحسبُ، بل تُغنِّي وتُحاور. وجودت حيدر يُخاطبها، يقيمُ معها علاقةً عاطفيَّةً وأحيانًا روحية. وفي ذلكَ ما يذكِّرنا ببُحيرة لامرتين النَّجيَّةِ الصديقةِ الرحبةِ الصدر وكاتمةِ الأسرار. إنَّهُ يتأمَّلُ كيفَ تفتَّحت الوردةُ في حديقتِهِ ونسيت أن تجمعَ بتلاتِها، وكيفَ تستغرقُ أختها في متعةِ النُّعاس في ضوءِ القمر.
I sat late in my garden last night
One rosebud opened and forgot to close
Others were still sleeping in the moon light
One fuchsia drooping down tickling the rose.
[أصداء Echoes، صفحة 6]
رَأى جودت حيدر، عبرَ تأمُّلاتِهِ، في إيقاع الأيامِ وتوالي الفصولِ ما يشيرُ إلى مَهْربِ الزمنِ، وإدبارِ السنين وثبات الكونِ كوَحْدَةٍ دائمة التجدُّد. وهذا ما يطرحُ على كُلٍّ منَّا إشكاليَّة المعادلة: أبديَّة الكونِ وقصر عمر الإنسان. الطبيعة لا تشيخ، تتجدَّدُ معَ كُلِّ فصلٍ فيما الإنسانُ عابرٌ زائل.
ليسَ مِنْ شيءٍ أكيدٍ في حركةِ المدِّ والجزرِ
في عالمٍ يتبدَّلُ معَ الأيامِ
الحياةُ والموتُ يترافقانِ جَنْبًا إلى جَنْبٍ
نأتي ولكن لا لنقيمَ طويلاً
[أصداء، Echoes ، صفحة 59]
There is nothing sure in a moving tide
Of a world changing faces day by day
For life and death are always side by side
And we come here but not for long to stay
الطبيعةُ تُؤمِّنُ للإنسانِ إطارًا مُميَّزًا لتجارِبِهِ العاطفيَّةِ والذِّهنيَّةِ، وتفتحُ آفاقًا لمُختلِفِ أحاسيسِهِ وأحلامِهِ. ولعلَّ هذه الأبيات التي نقلها إلى العربيَّةِ إبراهيم نجيب حيدر تَشي ببعضِ ما رآهُ جودت حيدر في الطبيعة:
وجلستُ في حديقةِ الحبِّ جَنْبَ الورود
فإذا بالقَمَرِ برزَ، وإذا بالليلِ انتصفَ
وإذا بي غارقٌ في التفكيرِ
فيكِ وفي حظِّي
إذًا لا تنسي.
[جودت حيدر، مشوار العُمر، صفحة 167]
تثيرُ الطبيعةُ بعضَ الحالات النفسيَّة أو تُيسِّرُ بروزَ الكامِنِ منها كالشُّوْقِ والكآبة والحُزنِ والفرحِ والذَّكْرى والحنين. وهذا ما لاحظه الدكتور روحي بعلبكي لمَّا قال:
"بنى علاقة خاصَّة بالبحرِ، فأحبَّهُ وناجاهُ؛ ألفهُ فغدا لَهُ أنيسًا. استوحى منهُ قصائد كثيرةٍ. أُغرمَ بِهِ لأنَّهُ يُشْبِهُهُ. كلاهما يحمِلُ همومَ السنين وذكرياتِ العابرين (..) أحبَّ لبنانَ فحملَ معهُ شهامةَ اللبنانيين وسائرَ الشيمِ والحسنات من نُبلٍ ومروءةٍ وكرم "
[جودت حيدر، مشوار العُمْر، صفحة 220]
لم يتغنَّ جودت حيدر بالطبيعة، شجرًا وزهرًا وفراشات، وحسبُ بل دافعَ عنها، وكم دعا الناسَ إلى احترامها وعدمِ الإساءةِ إليها. كتبَ في التلَوُّثِ وأضرارِهِ قبلَ أن يُصبحَ التلوُّثُ همَّ الغربِ؛ لنسمعه:
التلوُّثُ ليسَ مُجرَّدَ كلِمَةٍ، بل مُصيبة
نَشْعُرُ بهِ في تنفُّسِنا، إنَّهُ يبلغُ قلوبَنا
الدُّخانُ والضجيجُ والغازاتُ كُلُّها تحملُ السُّقَمَ
السُّمُّ هنا وهناك الترياقُ.
[أصوات، Voices التَّلوث، صفحة 10]
Pollution is not a word uttered, but bane
We feel it in our breath way down to our heart
The smoke, the sound, the burning gas all contain
Venom, yet we cry here and there that we are smart.
لُبنانُ لم يَبْرَحْ لا قلبَ جودت حيدر ولا قَلَمَهُ. أقامِهُ الشاعِرُ في فؤادِهِ. رآهُ، دَوْمًا، حُرًّا، أبيًّا، وإنْ في حالاتِ الألمِ المأسويِّ. هوَ، في عينيهِ، أبديَّ الطموحِ، عاليا القمَّةِ والهمَّة؛ لا تخفقُ راياتُهُ فوقَ روابيهِ وحسبُ، بل في أرجاءِ المعمورة كافَّة. وقد توسَّلَ الطبيعَةَ، في أروعِ ما هيَ، كي يُشيدَ بديموقراطيَّةٍ فعليَّةٍ قامت ولا عرشَ لها ولا صولجان.
هو ذا لبنانُ قلبُ العالمِ
حيثُ يُعمِّرُ الأرزُ سنواتٍ لا تُحصى
ورايةُ الحُرِّيَّةِ تخفُقُ أبدًا
في ديموقراطيَّةٍ تمْلِكُ دونِ عرش.
[أصوات، Voices, صفحة 26]
That’s the Lebanon the heart of the world
Where the cedars living for ages unknown
And the flag of liberty always unfurled
In a democracy without a throne.
ثُمَّ يُحدِّثُنا كيفَ قَرَّرَ تسلُّقَ الجبلِ مرورًا بضريحِ جبران، والأرزاتِ المُعمِّراتِ بلوغًا إلى القرنةِ السوداءِ.
[أصداء Shedowsصفحة 14]
I decided to climb up the mountain
Passing by the grave of gibran
And the old cedars on my way
To the Black Corner.
هذا الشَّاعِرُ البعلبكِّيُّ الجوَّالُ، أبديُّ العودَةِ إلى الوطنِ. وهوَ لا يستطيبُ رَشْفَ الكأسِ إلاَّ بمُشاركةِ الذينَ مِثْلَهُ، "كانوا وعذارى العُلى على ميعادِ" كما وصفهم شفيق معلوف في ديوانِهِ: "نداءُ المجاذيف".
عودوا لنشربَ عصيرَ الكرمةِ
ونطيرَ مدفوعينَ صوبَ السَّماء
نُراقِبُ الأرضَ ونتأمَّلُ شَكلَها
وذاكَ العِشَّ الذي بنيناهُ هُناك
عودوا، نحتضِنِ الفضاء الذي سلبكم.
[ظلال، Shadowsعودوا، صفحة 42]
Come and let us have a drink of the grape
And wing up in a vision into the sky
To look at the earth and study its shape
And build a bigger lov’ly nest ere you fly
And leave me hugg’ng the air with your escape.
وها الشيخُ الوقورُ، المُشرِفُ على القرنِ الواحد والعشرين، يتذَكَّرُ أمارةَ شبابِهِ، فخورًا بشيخوخَتِهِ، غيرَ ناكِرٍ جبروتَ الزمنِ، مُتحدِّيًا طغيانهُ بشموخِ الكبارِ، يكبرون على الدهرِ كما على ذاتهم.
بالأمسِ كنتُ أميرَ شبابي
واليومَ أنا إمبراطور سني
وإمبراطوريتي ما هيَ إلاَّ ميدان الحقيقة
بسمةٌ في الربيعِ وفي الشتاءِ دموع.
[جودت حيدر، أصداء، صفحة 22]
Yesterday I was the prince of my youth
To day I ‘me the emperor of my years
My empire but a domain of the truth
A smile in the spring in winter but tears
ظلَّ جودت حيدر، حتَّى مُنتهى حياتِهِ، فتيًّا، وفيًّا للطبيعةِ؛ يَسْكُنُ في أحضانها الخضراءِ، بالقربِ من هياكِلِ بعلبَكَّ. ودرجَ على جمعِ الأصدقاءِ، في بيتِهِ العامرِ، أقلّهُ مرَّةً في السنةِ؛ يلتقونَ في ظلالِ صنوبرا ته الدَّهْرِيَّةِ، يُكرِّمونَ شاعِرًا أو يحتفلونَ بحدثٍ أدبيٍّ.
عافاكَ اللهُ يا صديقنا الكبيرِ، تَطلُّ، اليومَ، من عليائِكَ على شاطِئِ الأبدِ، مُرَدِّدًا ما كُنت َتَسْمعهُ يتردَّدُ في أعماقِكَ:
أَصْداءَ عُمْرٍ لن يَفْنى .