لبنان والدَور الثقافي والحضاري في عمق التاريخ

ميني الزعنّيِ كِلنْكْلبنان والدَور الثقافي والحضاري في عمق التاريخ

 

لا بدّ لنا من أن نستهلّ هذا العدد من "المجلة التربوية" بقول للمفكر اللبناني ميشال شيحا بشأن علاقة اللبناني باللغات جميعها:
"العربية لغة رائعة، وهي لغة الملايين من الناس. ولا نكون نحن أنفسنا إن تخلّينا عن طموحنا إلى أن نظلَّ سادَتها. ولكن لا بدّ لبِلادنا أن تنطُق بلُغتين بل بثلاث انسجامًا مع تاريخها لأن لبنان حتى قبل اكتشاف ألالفباء نَطَقَ بِلغاتٍ عدّة. وإنه لمظهرٌ من مظاهر التفوّق".
ولا بدّ لنا أيضًا من العودة إلى تاريخ لبنان القديم فنذكّر بأن سكان جبيل (Byblos) كانوا يتقنون لغات عدّة. فالمِسَلاّت الفينيقية (Les stèles phéniciennes) التي كانت تُسَجّلَ عليها العقود التجارية كانت تُكتب باللغة الفينيقية وبلغة البلد المتعاقِد: اليونانية، المصرية... إلخ.
والسكان الأصليون (Autochtones) تكلّموا تباعًا أو تزامنًا: الآرامية، السريانية، اليونانية، الإيطالية، الفرنسية والإنكليزية. ثم تحوّلت هذه الظاهرة إلى واقع وضرورة. وأصبحت التعدّدية اللغوية تميّز الهُوية اللبنانية والنظام التربوي والتعليمي في لبنان. إنّه قَدَرُ لبنان، ليس فقط انسجامًا مع التاريخ بل انطلاقًا من الموقع الجغرافي كوننا نعيش على طريق بل على مفترق طرق أوروبا وآسيا وإفريقيا. ويقول ميشال شيحا "نحن مستقرّون عند ملتقى قارات ثلاث، لا نكوّنِ رأس جسر مثاليّاً وحسب فهذا أمرٌ بديهيّ بل نكوّنِ أيضًا واحدًا من مَراقبِ العالَم".
في العام 1966 زار الرئيس السنغالي ليوبولد سيدار سنغور (Léopold Sédar Senghor) لبنان (وهو شاعرٌ في الوقت عينه) وقال في خطاب ألقاه في حضور فخامة الرئيس شارل حلو "لعِبَ لبنان دورًا كبيرًا في إعداد الثقافة المتوسطية... ولا ننسى الدَور الذي يلعبه اللبنانيون في الشرق الأوسط : أنتم الشعب الأكثر عروبَةً وأنتم في الوقت نفسه ذوو الفِكر الأكثر عالميّةَ وشُموليّة" ويضيف سنغور: "الجميع  يتوسَّلون لبنان: من الصحراء والجبل، من الجبل والسهل والبحر، من البحّار والتاجِر، من الفلاح والراعي، من الشّاعِر والفيلسوف، من الشرق والغرب. فكيف للبنان أن يختار إلا أن يكون هو نفسُه؟ أن يبقى على مُلتقى طُرُق التوسُّلات جميعها وأن يجيب عن كل النداءات: للذهاب إلى غَزو كل ثروات العالم". شهادة سنغور محقّة. فالفكر اللبناني فكرٌ كونيّ وقد حمل المهاجِر اللبناني وطنه إلى أقاصي المعمورة لاسيما مصر وأوروبا والأميركيتين، كما حمل إلى بلادِه ثَروات العالم الفكريّة والأدبية والفنية، فكان الإحتكاك بين الشرق والغرب الذي خرَج عنه ضوءٌ  أنار العالم.ويقول سعيد عقل في "قدموس":
"جاء قدموسُ بالكتابَةِ، بالعِلمِ
                              إليهم، إلى الأواتي العصورِ
وغدًا يعرفون أنّا على السُفُنِ
                             حَمَلنا الهُدى إلى المَعمورِ"

فبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى أقبلت ريحٌ طيّبة من المهجر الذي استشرف فيه الأدب العربي المُهاجر آفاقًا بعيدة حرّة. فاللبنانيون المهاجرون حملوا تراثهم إلى كثير من بقاع الدنيا وأغنوا هذا التراث بإبداعاتهم من نثر وشعر لهما طابعهما الخاص المتأثر بالعالم الجديد. فوجب علينا التنويه بفضل الآداب العالمية على الأدب اللبناني.
وفي معرض حَديثنا عن تعدّد اللغات يجب أن نركّز على أن اللبناني لم يتقن لغات عدة (Polyglotte) فقط من أجل العمل في التجارة والصناعة بل إن اللغات التي تعلّمها ودَرَس أصولَها أحبّهَا وأبدَع فيها. وكثرٌ هم الأدباء اللبنانيون (الفرنكوفون والأنكلوفون) الذين حازوا على جوائز عالمية. ولا بدّ لنا من ذِكرِ حدثٍ ثقافي مهمّ بالنسبة للبنان: فالكاتب (الفرنكوفوني) اللبناني أمين معلوف أصبح عضوًا في الأكاديمية الفرنسية في العام 2011.
في هذا العدد الخاص من "المجلة التربوية" نقدّم  ملفّاً تربويّاً عن الشّاعر اللبناني جودت حيدر الذي كتب دواوين شعرية ثلاثة باللغة الإنكليزية وهي: "Voices" و "Echoes" و"Shadows". جودت حيدر هو من نسل أولئك اللبنانيين الأوائل الذين اقتحموا البحار. سافر إلى الولايات المتحدة الأميركية ولكنه بقي يحنّ إلى لبنان وإلى مسقط رأسه بعلبك بالذات. الحنين الذي عبّرَ عنه الشّاعِر العباسي أبو تمام حين قال:
"نقّلِ فؤادَك حيث شئت من الهوى
                                   ما الحبُّ إِلا للحبيب الأولِ
كَم منزلٍ في الأرضِ يألفُهُ الفتى
                                   وحنينُهُ أبدًا لأوَّل منزِلِ"

جودت حيدر شاعِرُ الحنين والرقة، شاعر السلاسة والإيحاء. تميّزت قصائده بأناقة البيان وكان منبعها القلب والعاطفة والوجدان.
عرف جودت حيدر النفي وعايش زمن الحكم الظالم في لبنان وذاق مرارة فقدان الأحبة فكان الشِّعر بمثابة ملاذٍ له فيلجأ إلى الكتابة للهروب من الواقع المرير.
وقد تميّز شعره بتنوّع المواضيع. فكتب قصائد في الحب واحتلّت المرأة مكانة كبيرة في شعره. فكانت الحبيبة والزوجة والمُلهِمَة كما تميّزَ حبّهُ لها بالإخلاص والوفاء.
ولم يقتصر شعره على الوجدانيات والتأملات والوطنية بل تعدّاها إلى مواضيع أكثر إنسانية وشمولية كالعدالة والحرية ورفض الظلم والعنف كما نادى بالديمقراطية .
خاطب جودت حيدر الشعراء اللبنانيين والغربيين كجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وبايرون كما توجّهَ إلى كبار حكام العالم أمثال نابوليون بونابارت وغاندي وقد انطلق من نفسية الإنسان اللبناني إلى الإنسان العربي ليصل إلى جوهر الإنسان بشكل عام. فأصبح شِعرُه إنسانيّاً عالميّاً. وهو القائل: " شِعري باللغة الإنكليزية تأثر بكوني إنسانًا عربيًا وشرقيًا يحسّ بتجارب أمته ويعاني معاناتها وكتب كثيرًا وكثيرًا لها وعنها".
أما الطبيعة وبخاصة البحر فلم تَغِب عن قصائده وقد ألبَسَ جودت حيدر الشِّعر الإنكليزي وشاحًا مشرقيًا أنيقًا لوّنه بألوان طبيعة لبنان.
باقةٌ من الأشعار امتَزَجَت فيها الثقافتان الأميركية والمشرقية. إذ أضاف حيدر وترًا لبنانيًا جديدًا إلى قيثارة الشِّعر الغربي.
"المجلة التربوية" تنصح معلّمَي اللغة الإنكليزية والأدب الإنكليزي بأن يختاروا من دواوينه الثلاثة القصائد التي تناسب مستوى تلامذتهم.
تحيّة إلى أدباء المهجر وبخاصة جودت حيدر الذي نعتبره سفيرًا فخريًا من سفراء لبنان إلى كل البلدان الناطقة باللغة الإ
نكليزية.

لبنان والدَور الثقافي والحضاري في عمق التاريخ

ميني الزعنّيِ كِلنْكْلبنان والدَور الثقافي والحضاري في عمق التاريخ

 

لا بدّ لنا من أن نستهلّ هذا العدد من "المجلة التربوية" بقول للمفكر اللبناني ميشال شيحا بشأن علاقة اللبناني باللغات جميعها:
"العربية لغة رائعة، وهي لغة الملايين من الناس. ولا نكون نحن أنفسنا إن تخلّينا عن طموحنا إلى أن نظلَّ سادَتها. ولكن لا بدّ لبِلادنا أن تنطُق بلُغتين بل بثلاث انسجامًا مع تاريخها لأن لبنان حتى قبل اكتشاف ألالفباء نَطَقَ بِلغاتٍ عدّة. وإنه لمظهرٌ من مظاهر التفوّق".
ولا بدّ لنا أيضًا من العودة إلى تاريخ لبنان القديم فنذكّر بأن سكان جبيل (Byblos) كانوا يتقنون لغات عدّة. فالمِسَلاّت الفينيقية (Les stèles phéniciennes) التي كانت تُسَجّلَ عليها العقود التجارية كانت تُكتب باللغة الفينيقية وبلغة البلد المتعاقِد: اليونانية، المصرية... إلخ.
والسكان الأصليون (Autochtones) تكلّموا تباعًا أو تزامنًا: الآرامية، السريانية، اليونانية، الإيطالية، الفرنسية والإنكليزية. ثم تحوّلت هذه الظاهرة إلى واقع وضرورة. وأصبحت التعدّدية اللغوية تميّز الهُوية اللبنانية والنظام التربوي والتعليمي في لبنان. إنّه قَدَرُ لبنان، ليس فقط انسجامًا مع التاريخ بل انطلاقًا من الموقع الجغرافي كوننا نعيش على طريق بل على مفترق طرق أوروبا وآسيا وإفريقيا. ويقول ميشال شيحا "نحن مستقرّون عند ملتقى قارات ثلاث، لا نكوّنِ رأس جسر مثاليّاً وحسب فهذا أمرٌ بديهيّ بل نكوّنِ أيضًا واحدًا من مَراقبِ العالَم".
في العام 1966 زار الرئيس السنغالي ليوبولد سيدار سنغور (Léopold Sédar Senghor) لبنان (وهو شاعرٌ في الوقت عينه) وقال في خطاب ألقاه في حضور فخامة الرئيس شارل حلو "لعِبَ لبنان دورًا كبيرًا في إعداد الثقافة المتوسطية... ولا ننسى الدَور الذي يلعبه اللبنانيون في الشرق الأوسط : أنتم الشعب الأكثر عروبَةً وأنتم في الوقت نفسه ذوو الفِكر الأكثر عالميّةَ وشُموليّة" ويضيف سنغور: "الجميع  يتوسَّلون لبنان: من الصحراء والجبل، من الجبل والسهل والبحر، من البحّار والتاجِر، من الفلاح والراعي، من الشّاعِر والفيلسوف، من الشرق والغرب. فكيف للبنان أن يختار إلا أن يكون هو نفسُه؟ أن يبقى على مُلتقى طُرُق التوسُّلات جميعها وأن يجيب عن كل النداءات: للذهاب إلى غَزو كل ثروات العالم". شهادة سنغور محقّة. فالفكر اللبناني فكرٌ كونيّ وقد حمل المهاجِر اللبناني وطنه إلى أقاصي المعمورة لاسيما مصر وأوروبا والأميركيتين، كما حمل إلى بلادِه ثَروات العالم الفكريّة والأدبية والفنية، فكان الإحتكاك بين الشرق والغرب الذي خرَج عنه ضوءٌ  أنار العالم.ويقول سعيد عقل في "قدموس":
"جاء قدموسُ بالكتابَةِ، بالعِلمِ
                              إليهم، إلى الأواتي العصورِ
وغدًا يعرفون أنّا على السُفُنِ
                             حَمَلنا الهُدى إلى المَعمورِ"

فبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى أقبلت ريحٌ طيّبة من المهجر الذي استشرف فيه الأدب العربي المُهاجر آفاقًا بعيدة حرّة. فاللبنانيون المهاجرون حملوا تراثهم إلى كثير من بقاع الدنيا وأغنوا هذا التراث بإبداعاتهم من نثر وشعر لهما طابعهما الخاص المتأثر بالعالم الجديد. فوجب علينا التنويه بفضل الآداب العالمية على الأدب اللبناني.
وفي معرض حَديثنا عن تعدّد اللغات يجب أن نركّز على أن اللبناني لم يتقن لغات عدة (Polyglotte) فقط من أجل العمل في التجارة والصناعة بل إن اللغات التي تعلّمها ودَرَس أصولَها أحبّهَا وأبدَع فيها. وكثرٌ هم الأدباء اللبنانيون (الفرنكوفون والأنكلوفون) الذين حازوا على جوائز عالمية. ولا بدّ لنا من ذِكرِ حدثٍ ثقافي مهمّ بالنسبة للبنان: فالكاتب (الفرنكوفوني) اللبناني أمين معلوف أصبح عضوًا في الأكاديمية الفرنسية في العام 2011.
في هذا العدد الخاص من "المجلة التربوية" نقدّم  ملفّاً تربويّاً عن الشّاعر اللبناني جودت حيدر الذي كتب دواوين شعرية ثلاثة باللغة الإنكليزية وهي: "Voices" و "Echoes" و"Shadows". جودت حيدر هو من نسل أولئك اللبنانيين الأوائل الذين اقتحموا البحار. سافر إلى الولايات المتحدة الأميركية ولكنه بقي يحنّ إلى لبنان وإلى مسقط رأسه بعلبك بالذات. الحنين الذي عبّرَ عنه الشّاعِر العباسي أبو تمام حين قال:
"نقّلِ فؤادَك حيث شئت من الهوى
                                   ما الحبُّ إِلا للحبيب الأولِ
كَم منزلٍ في الأرضِ يألفُهُ الفتى
                                   وحنينُهُ أبدًا لأوَّل منزِلِ"

جودت حيدر شاعِرُ الحنين والرقة، شاعر السلاسة والإيحاء. تميّزت قصائده بأناقة البيان وكان منبعها القلب والعاطفة والوجدان.
عرف جودت حيدر النفي وعايش زمن الحكم الظالم في لبنان وذاق مرارة فقدان الأحبة فكان الشِّعر بمثابة ملاذٍ له فيلجأ إلى الكتابة للهروب من الواقع المرير.
وقد تميّز شعره بتنوّع المواضيع. فكتب قصائد في الحب واحتلّت المرأة مكانة كبيرة في شعره. فكانت الحبيبة والزوجة والمُلهِمَة كما تميّزَ حبّهُ لها بالإخلاص والوفاء.
ولم يقتصر شعره على الوجدانيات والتأملات والوطنية بل تعدّاها إلى مواضيع أكثر إنسانية وشمولية كالعدالة والحرية ورفض الظلم والعنف كما نادى بالديمقراطية .
خاطب جودت حيدر الشعراء اللبنانيين والغربيين كجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وبايرون كما توجّهَ إلى كبار حكام العالم أمثال نابوليون بونابارت وغاندي وقد انطلق من نفسية الإنسان اللبناني إلى الإنسان العربي ليصل إلى جوهر الإنسان بشكل عام. فأصبح شِعرُه إنسانيّاً عالميّاً. وهو القائل: " شِعري باللغة الإنكليزية تأثر بكوني إنسانًا عربيًا وشرقيًا يحسّ بتجارب أمته ويعاني معاناتها وكتب كثيرًا وكثيرًا لها وعنها".
أما الطبيعة وبخاصة البحر فلم تَغِب عن قصائده وقد ألبَسَ جودت حيدر الشِّعر الإنكليزي وشاحًا مشرقيًا أنيقًا لوّنه بألوان طبيعة لبنان.
باقةٌ من الأشعار امتَزَجَت فيها الثقافتان الأميركية والمشرقية. إذ أضاف حيدر وترًا لبنانيًا جديدًا إلى قيثارة الشِّعر الغربي.
"المجلة التربوية" تنصح معلّمَي اللغة الإنكليزية والأدب الإنكليزي بأن يختاروا من دواوينه الثلاثة القصائد التي تناسب مستوى تلامذتهم.
تحيّة إلى أدباء المهجر وبخاصة جودت حيدر الذي نعتبره سفيرًا فخريًا من سفراء لبنان إلى كل البلدان الناطقة باللغة الإ
نكليزية.

لبنان والدَور الثقافي والحضاري في عمق التاريخ

ميني الزعنّيِ كِلنْكْلبنان والدَور الثقافي والحضاري في عمق التاريخ

 

لا بدّ لنا من أن نستهلّ هذا العدد من "المجلة التربوية" بقول للمفكر اللبناني ميشال شيحا بشأن علاقة اللبناني باللغات جميعها:
"العربية لغة رائعة، وهي لغة الملايين من الناس. ولا نكون نحن أنفسنا إن تخلّينا عن طموحنا إلى أن نظلَّ سادَتها. ولكن لا بدّ لبِلادنا أن تنطُق بلُغتين بل بثلاث انسجامًا مع تاريخها لأن لبنان حتى قبل اكتشاف ألالفباء نَطَقَ بِلغاتٍ عدّة. وإنه لمظهرٌ من مظاهر التفوّق".
ولا بدّ لنا أيضًا من العودة إلى تاريخ لبنان القديم فنذكّر بأن سكان جبيل (Byblos) كانوا يتقنون لغات عدّة. فالمِسَلاّت الفينيقية (Les stèles phéniciennes) التي كانت تُسَجّلَ عليها العقود التجارية كانت تُكتب باللغة الفينيقية وبلغة البلد المتعاقِد: اليونانية، المصرية... إلخ.
والسكان الأصليون (Autochtones) تكلّموا تباعًا أو تزامنًا: الآرامية، السريانية، اليونانية، الإيطالية، الفرنسية والإنكليزية. ثم تحوّلت هذه الظاهرة إلى واقع وضرورة. وأصبحت التعدّدية اللغوية تميّز الهُوية اللبنانية والنظام التربوي والتعليمي في لبنان. إنّه قَدَرُ لبنان، ليس فقط انسجامًا مع التاريخ بل انطلاقًا من الموقع الجغرافي كوننا نعيش على طريق بل على مفترق طرق أوروبا وآسيا وإفريقيا. ويقول ميشال شيحا "نحن مستقرّون عند ملتقى قارات ثلاث، لا نكوّنِ رأس جسر مثاليّاً وحسب فهذا أمرٌ بديهيّ بل نكوّنِ أيضًا واحدًا من مَراقبِ العالَم".
في العام 1966 زار الرئيس السنغالي ليوبولد سيدار سنغور (Léopold Sédar Senghor) لبنان (وهو شاعرٌ في الوقت عينه) وقال في خطاب ألقاه في حضور فخامة الرئيس شارل حلو "لعِبَ لبنان دورًا كبيرًا في إعداد الثقافة المتوسطية... ولا ننسى الدَور الذي يلعبه اللبنانيون في الشرق الأوسط : أنتم الشعب الأكثر عروبَةً وأنتم في الوقت نفسه ذوو الفِكر الأكثر عالميّةَ وشُموليّة" ويضيف سنغور: "الجميع  يتوسَّلون لبنان: من الصحراء والجبل، من الجبل والسهل والبحر، من البحّار والتاجِر، من الفلاح والراعي، من الشّاعِر والفيلسوف، من الشرق والغرب. فكيف للبنان أن يختار إلا أن يكون هو نفسُه؟ أن يبقى على مُلتقى طُرُق التوسُّلات جميعها وأن يجيب عن كل النداءات: للذهاب إلى غَزو كل ثروات العالم". شهادة سنغور محقّة. فالفكر اللبناني فكرٌ كونيّ وقد حمل المهاجِر اللبناني وطنه إلى أقاصي المعمورة لاسيما مصر وأوروبا والأميركيتين، كما حمل إلى بلادِه ثَروات العالم الفكريّة والأدبية والفنية، فكان الإحتكاك بين الشرق والغرب الذي خرَج عنه ضوءٌ  أنار العالم.ويقول سعيد عقل في "قدموس":
"جاء قدموسُ بالكتابَةِ، بالعِلمِ
                              إليهم، إلى الأواتي العصورِ
وغدًا يعرفون أنّا على السُفُنِ
                             حَمَلنا الهُدى إلى المَعمورِ"

فبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى أقبلت ريحٌ طيّبة من المهجر الذي استشرف فيه الأدب العربي المُهاجر آفاقًا بعيدة حرّة. فاللبنانيون المهاجرون حملوا تراثهم إلى كثير من بقاع الدنيا وأغنوا هذا التراث بإبداعاتهم من نثر وشعر لهما طابعهما الخاص المتأثر بالعالم الجديد. فوجب علينا التنويه بفضل الآداب العالمية على الأدب اللبناني.
وفي معرض حَديثنا عن تعدّد اللغات يجب أن نركّز على أن اللبناني لم يتقن لغات عدة (Polyglotte) فقط من أجل العمل في التجارة والصناعة بل إن اللغات التي تعلّمها ودَرَس أصولَها أحبّهَا وأبدَع فيها. وكثرٌ هم الأدباء اللبنانيون (الفرنكوفون والأنكلوفون) الذين حازوا على جوائز عالمية. ولا بدّ لنا من ذِكرِ حدثٍ ثقافي مهمّ بالنسبة للبنان: فالكاتب (الفرنكوفوني) اللبناني أمين معلوف أصبح عضوًا في الأكاديمية الفرنسية في العام 2011.
في هذا العدد الخاص من "المجلة التربوية" نقدّم  ملفّاً تربويّاً عن الشّاعر اللبناني جودت حيدر الذي كتب دواوين شعرية ثلاثة باللغة الإنكليزية وهي: "Voices" و "Echoes" و"Shadows". جودت حيدر هو من نسل أولئك اللبنانيين الأوائل الذين اقتحموا البحار. سافر إلى الولايات المتحدة الأميركية ولكنه بقي يحنّ إلى لبنان وإلى مسقط رأسه بعلبك بالذات. الحنين الذي عبّرَ عنه الشّاعِر العباسي أبو تمام حين قال:
"نقّلِ فؤادَك حيث شئت من الهوى
                                   ما الحبُّ إِلا للحبيب الأولِ
كَم منزلٍ في الأرضِ يألفُهُ الفتى
                                   وحنينُهُ أبدًا لأوَّل منزِلِ"

جودت حيدر شاعِرُ الحنين والرقة، شاعر السلاسة والإيحاء. تميّزت قصائده بأناقة البيان وكان منبعها القلب والعاطفة والوجدان.
عرف جودت حيدر النفي وعايش زمن الحكم الظالم في لبنان وذاق مرارة فقدان الأحبة فكان الشِّعر بمثابة ملاذٍ له فيلجأ إلى الكتابة للهروب من الواقع المرير.
وقد تميّز شعره بتنوّع المواضيع. فكتب قصائد في الحب واحتلّت المرأة مكانة كبيرة في شعره. فكانت الحبيبة والزوجة والمُلهِمَة كما تميّزَ حبّهُ لها بالإخلاص والوفاء.
ولم يقتصر شعره على الوجدانيات والتأملات والوطنية بل تعدّاها إلى مواضيع أكثر إنسانية وشمولية كالعدالة والحرية ورفض الظلم والعنف كما نادى بالديمقراطية .
خاطب جودت حيدر الشعراء اللبنانيين والغربيين كجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وبايرون كما توجّهَ إلى كبار حكام العالم أمثال نابوليون بونابارت وغاندي وقد انطلق من نفسية الإنسان اللبناني إلى الإنسان العربي ليصل إلى جوهر الإنسان بشكل عام. فأصبح شِعرُه إنسانيّاً عالميّاً. وهو القائل: " شِعري باللغة الإنكليزية تأثر بكوني إنسانًا عربيًا وشرقيًا يحسّ بتجارب أمته ويعاني معاناتها وكتب كثيرًا وكثيرًا لها وعنها".
أما الطبيعة وبخاصة البحر فلم تَغِب عن قصائده وقد ألبَسَ جودت حيدر الشِّعر الإنكليزي وشاحًا مشرقيًا أنيقًا لوّنه بألوان طبيعة لبنان.
باقةٌ من الأشعار امتَزَجَت فيها الثقافتان الأميركية والمشرقية. إذ أضاف حيدر وترًا لبنانيًا جديدًا إلى قيثارة الشِّعر الغربي.
"المجلة التربوية" تنصح معلّمَي اللغة الإنكليزية والأدب الإنكليزي بأن يختاروا من دواوينه الثلاثة القصائد التي تناسب مستوى تلامذتهم.
تحيّة إلى أدباء المهجر وبخاصة جودت حيدر الذي نعتبره سفيرًا فخريًا من سفراء لبنان إلى كل البلدان الناطقة باللغة الإ
نكليزية.