مُدَرّسِون يُعايشون أَديمَ اللغة - الثقافة الجاهلية لغة وأدب

مُدَرّ سِون يُعايشون أَديمَ اللغة(1)

 

إن التضلّع من اللغة واجب على من يقرأ أو يكتب حتى يحسن التصرّف بمفردها ومشتقّهِا، ولا يتوارد الخلل إلى تعبيره من سوء الفهم، فيتملّكه الشطَطْ2 في ما يريده ولا يستطيعه، ولا يلبث أن يعتاد الخطأ صوابًا باستعمال الكلمة أو بناء الجملة، وخصوصًا الطالب في مدرسته. لأن من يشرف عليه عاجزُ عن تقويم أدائِه، فإذا إنشاؤه في صفّهِ الأول مَشوبٌ بالرَكاكة التي عابَته في الصف الخامس مثلاً. إنّ كل واقف على دخيلة التعليم يتيقّن هذه الحقيقة المُمِضَّة.

وهل التفرّغ إلى الأدب في الصفوف العالية يصرف عن العناية بالصرف والنحو؟ إن الإعراض عن هذه المسألة اللغوية في الصفوف العليا حتمًا أو طواعِية أمرٌ مرذولُ المغبّة. ومما يعظم سوؤه ويجب التنبّه له انصراف نفرٍ من المدرّسين الذين عايشوا أديم اللغة لا كُنهَها إلى الاجتزاء بتعليم القواعد من خلال تطبيقها، أي ان تحفظ أساليب اللغة بمماشاة استعمالها حفظًا سقيمًا لا يوقظ في التلميذ إلاّ سطحية الذهن فيضطر إلى مُجانَبة الوعي الصحيح، كأنّمِا القاعدة شيء لا وَعْيَ فيه، مع أنها تعتمد المنطق اعتمادًا فعليّاً.

وكم أكبّ قدامى الأئمة على تعليلها (القاعِدة) وإيضاح شأنها في ما هي منوطة به من المستند العقلي، حتى عني البعض بما سمّوُه فلسفة النحو، وأراني في غنيّةَ عن سرد أسماء البناة والمشتغلين في هذا العِلم منذ العصور الأولى حتى القرن التاسع عشر، لأنهم ذوو ذكرٍ نابِه، ولم يعمل هؤلاء في إحياء عَظم رَميم، إنما كان أمرهم يراوح في إسهاب الحياة اللغوية وإظهار علاقتها بعضها ببعض ورضى الفهم السليم عنها، حتى تفصَّل جزءًا جزءًا، فإذا هي متماسكة الأعضاء في وحدة فكرية رصينة تُعجبُ الباحثَ فيها. ولا يحسب البعض أن ما أهَدَف إليه حشو رأس الطالب حشوًا مرهقًا، فيكتظّ بكل ما أقرّه سيبويه والكسائي وابن جَني وابن مالِك وسواهم، كلا إنما يحسن الاقتناع بالقليل الكافي شريطة أن يوفّق إلى تأديته بالطريقة العلمّية المغرية، فلا حاجة بنا إلى استقصاء أسس القواعد كلها وضم سواعدها العديدة ما دمنا نفتلذ من صميمها ما يقوت الطالب ولا يشوّه المصدر، فالقضية إذًا محصورة في كيفية العطاء لأنها وحدها تجعل اللغة ممّا يتفرد منه أو يُتَهالك عليه، وكادت اللغة العربية تصبح في مفهوم البعض مشكلة، وكاد تدريسها يمحوها ولا يجلوها، وكادت القواعد تُحسَب عقدًا متراصّة لا انفتاح لمغلقاتها، حتى أوسعت ذمّاً فإذا أبناؤها أعداؤها.

وأشد بلايا هذه اللغة أحيانًا أن يوكل أمرُها إلى من لا يُحسِنُ معرفتها ولا يجتهِدُ في تحصيلها بل يكتفي بأن يعايش سَطحها حتى أصبح عددٌ وافر من معلّميها حَفظَة للقاعدة لا شرّاحًا لها لأنهم لا يفهمونها، فيقدّمونها للتلامذة مبتورة مشوّهة، ويتذمّرون من صعوبتها فيزيدون طالب العلم جهلاً، ولا يلبث أن يكرهَها ويُحِسَّ ثِقلَها فيعدِل عنها إلى سواها من اللغات، وقد كُثرت كتب الصرف والنحو إلاّ انها لا تبسيط فيها للقواعد، فلا يعلم سببها ومعناها وغايتها. إنما هي تُفرَض على التلميذ فرضًا لا لذة للعقل فيه. إذ على المؤلف أن يكبَّ على مطالعة المصادر القديمة والحديثة لائمّة اللغة واعيًا إياها مفيدًا منها حتى يكتملَ تمثيلها عنده ثم يعتمد أسلوبًا جديدًا قد يكون جديدًا بين مؤلّفات القواعد المدرسية التي بين أيدي التلامذة، فيعالِج تحديد القاعدة معالجة وافية باذلاً جهده لِسَكْبِها في عقل التلميذ مع مراعاة سِنّهِ وقَبولِه للفهم، فلا يترك غموضًا يعلَق في ذهنه فيزعجه إلأ حاول المؤلف إزالته، مع المبالغة في شرح القاعدة شرحًا منطقيّاً، لا يستظهرها معه استظهارًا بل يستوعبها متبصّرًِا، مع العناية القصوى بالأمثال والتمارين التي يذكر منها ما يشوّقِ التلميذ فيحبه، ويقرّبِ منه الإنسانية والطبيعة والجمال، وإلى جانب هذا يجب أن تختار الأبواب والفصول المذكورة اختيارًا يلائم الصف الذي تُدَرَّسُ فيه. والهدف الأول هو خدمة اللغة وخدمة التلميذ وعون المعلّم على إكمال رسالته التعليمية واللغوية.

الحواشي:
"الثقافة الجاهلية لغة وأدب"

1 - مُتساوِقٍ: من الاتّسِاق، من اتّسَقَ أي مُتَناغِمٍ وَمُتَلائِمٍ مَعَهُ.
2 - فهو مؤثّرٌِ أكثرَ منه ملهيًا: مأساة =≠ومَلْهاة.
3- أصبح الفنّ غَيْرِيًا: غَيْرِيّاً =≠أنانِيّاً.
الحواشي:
1- "مدرسِون يُعايشون أَديمَ اللغة"
1- يُعايشون أَديمَ اللغة: يُدَرّسِون اللغة دون الغَوصِ في أَعماقِها وكُنهِها ومَنطِقِها.
2- الشطَطْ: الضَياع.

 

الثقافة الجاهلية لغة وأدب

د. فردريك نجيم أستاذ ثانوي وجامعي  اللغة أحد مظاهر الثقافة الجاهلية أما المظهر الثقافي الثاني فهو الأدب. هذا الفنّ الذي يسمو به الإنسان  من الكلام العادي إلى الكلام الفنّي الجميل عن الفكر البشري والوجداني ولهذا الأدب المعبّرِ وسائل عديدة مختلفة. فمن يعرف القراءة والكتابة يستطيع أن يَملِك ويختزِن أشياء كثيرة، أمّا إذا انتقلنا إلى عصر يجهل فيه الإنسان الأديب والسامعون أدوات الكتابة، تساءلنا كيف يَسمون إلى منزلةٍ أدبيّةٍ في العطاءِ والأخذ.

 

لا مندوحة في هذا المجال عن الذاكرة التي تدفع إلى تذويق العبارات على لسان الأديب البدائي بشرط ان يحفظها ويلقيها على مسامع الجمهور الذي يشترط عليه أن يحفظ. وهو مضطرُّ في حفظ الدرس أو المقال إلى الاستِعانَةِ بأشياءَ أو أدواتٍ تمكِّن الذاكِرَة من حفظها. فإذا تمكنّا أن نستعمل أسلوبًا مشجّعًِا وعبارات تثير العاطفة وتبدع الصور الخيالية، استطعنا حفظ القطعة المَقولَةِ وتوفيرِ سهولَةِ حفظها للسامعين بأسلوب مُتَساوِقٍ1 مع النغم الموسيقي. وهذا أهم عناصر الشِّعر. وهذا ما دَرَجَ على تسميته العرب الأقدمون، لأنهم اعتمدوه في مظاهر حياتهم التعبيرية الأدبية دون النثر. وفي ذا الشِّعر دخل كثير من التآليف الأدبية التي لا تدخل فيه اليوم، كالخطب وأسجاع الكهان والأمثال، وفي كلامنا على شِّعر الجاهلي شمَلنا هذه الأبواب ولم نتطرّق إلى النثر لأنه كان مظهرًا أدبيًا ضيّقًا بعيدًا عن الخصائص الفنيَة المنشودة.

وقد عُرف الشعر الجاهلي بالإنشاد، وتتناول هذه الكلمة القصائد وبعض الفنون الأدبيّة يومذاك الأسجاع والأمثال والخطب، إلا أن هذه الفنون الثلاثة بعد تحرُّرها وتحوُّلِها، إنتهت إلى ما نسميه اليوم النثر وتكاد مِيزات الشعر الجاهلي تنحصر في المعلّقات، مع الاعتراف بان هناك شعرًا جاهليّاً لا يقلّ قَدره عن المعلّقة. فالأعشى مثلاً في لاميّتِهِ المشهورة التي تعتبر من القصائد العشر ومطلعها: قالَت هُرَيرَةُ... وفيها معرفة بأخلاق البشر لا نجدها في سائر المعلّقات:

قالَت هُرَيرَةُ لمّا جِئتُ قائِلَها                          وَيلي عَلَيكَ ووَيلي مِنكَ يا رَجُلُ

وهي ناحيةٌ قلّمَا نَراها في الشعر الجاهليّ. كما يتناول الشعر الجاهلي الخُلُق، كمثل عنترة وعفّته عن اقتسام السَلب:

يُخبِرْكِ من شَهِدَ الوقيعَةَ أنّني                        أغَشى الوغى وأعِفّ عند المَغْنَمِ

وكذلك الحفاظ على الجوار وغيره مما يتناول تصوير أخلاق البشر. كما نجد أيضًا شيئًا من وصف المسؤولية المعنويّة، حتى في قول رجلٍ لصّ صعلوكٍ كالشنفرى  وعُروَة بن الوَرْد، وهو ما يتناول ناحية من التوسُّع في آداب الصُعلوك الحق.

وقد عالج الجاهلي في أقواله بعض النواحي الاجتماعية كما نرى في الشِّعر والأمثال التي هي خلاصة حكمةِ الشعب. وقد حاول العرب ككلّ شعبٍ شفهيّ بدائيّ أن يغلّفِوا الأمثال غِلافَ الشِّعرِ موزونَةً مُسَجّعَةً فأتت الأمثال على نَغَم: وإنَّ غدًا لِناظِرِهِ قَريبُ...

إن البلاء موكّل بالمنطق، وهو تكلّف غير مقصود. أما في القصائد فيبلُغ السَّجْعُ أقصى حدّهَُ، إلى جانِبِ تعدّدُ القافِيةِ والأبياتِ بفضل غنى اللغة العربية. وأبرز العناصر التي يستند إليها الشِّعر هوالخيال والعاطفة من حيث التكوين والموسيقى من حيث الإخراج.  وقد لا نراها عند اللاتين لأنهم عرفوا الكتابة قبل الأدب، فهم شعب كتابيّ أما اليونان فهم كالعرب لم يعرفوا نهضةً كتابيّةًَ، وغَلَبَ على الشِّعر العربي الجاهلي اسم الشِّعر الغنائي. أما الملحمة فلم تَعٍرف إلا شَذَراتٍ قليلة.  فالشعر الجاهليّ مقصّ رِ عن السرد الذي يولّدِ الفنون الكبرى: القصة – الملحمة – المسرح. ومن النقّاَد من ردّ هذا الأمر إلى ضيق المخيّلَة البدويّةَ، غير المستقِرة للمسرح، ومنهم من قال بِعَدَم وجود نظام للآلهة، مع العلم أن البدوي كان يؤمن بالجِنّ بدون نِظام. أما السبب الراهن فهو أن البدويّ خطيبٌ قبل أن يكون قصَّاصًا فهو مؤثّرٌِ أكثر منه ملهيًا2. ولهذا نرى أن القِصَصَ الوارِدَة في الشِّعر الجاهلي وسائِلُ لا غايةَ كقِصَصِ البطشِ في شِعرِ عَنترَةَ، فهذه اللمَحات الَملحميّةَ يسرُدُها واسِطةً لإظهار بطشه: ومدجّجٍَ كَرِهَ الكُمَاةُ نِزَالَهُ.

فإذا كانت غايةُ الشِّعر السرد اختفت شخصية الشَّاعر وراء الستار وأصبح الفن غيريّاً3 لا أنانيّاً كما نجِدُ في عَنتَرةَ الشَّاعِر الذي يمّ ثِل البطلَ والراويَة. ولذلك لم نرَ قصَّةً ولا ملحمَةً ولا مسرحًا في الشِّعر العربي الجاهلي بالاستناد إلى الأسباب الاجتماعية والعوامل النفسية.

مُدَرّسِون يُعايشون أَديمَ اللغة - الثقافة الجاهلية لغة وأدب

مُدَرّ سِون يُعايشون أَديمَ اللغة(1)

 

إن التضلّع من اللغة واجب على من يقرأ أو يكتب حتى يحسن التصرّف بمفردها ومشتقّهِا، ولا يتوارد الخلل إلى تعبيره من سوء الفهم، فيتملّكه الشطَطْ2 في ما يريده ولا يستطيعه، ولا يلبث أن يعتاد الخطأ صوابًا باستعمال الكلمة أو بناء الجملة، وخصوصًا الطالب في مدرسته. لأن من يشرف عليه عاجزُ عن تقويم أدائِه، فإذا إنشاؤه في صفّهِ الأول مَشوبٌ بالرَكاكة التي عابَته في الصف الخامس مثلاً. إنّ كل واقف على دخيلة التعليم يتيقّن هذه الحقيقة المُمِضَّة.

وهل التفرّغ إلى الأدب في الصفوف العالية يصرف عن العناية بالصرف والنحو؟ إن الإعراض عن هذه المسألة اللغوية في الصفوف العليا حتمًا أو طواعِية أمرٌ مرذولُ المغبّة. ومما يعظم سوؤه ويجب التنبّه له انصراف نفرٍ من المدرّسين الذين عايشوا أديم اللغة لا كُنهَها إلى الاجتزاء بتعليم القواعد من خلال تطبيقها، أي ان تحفظ أساليب اللغة بمماشاة استعمالها حفظًا سقيمًا لا يوقظ في التلميذ إلاّ سطحية الذهن فيضطر إلى مُجانَبة الوعي الصحيح، كأنّمِا القاعدة شيء لا وَعْيَ فيه، مع أنها تعتمد المنطق اعتمادًا فعليّاً.

وكم أكبّ قدامى الأئمة على تعليلها (القاعِدة) وإيضاح شأنها في ما هي منوطة به من المستند العقلي، حتى عني البعض بما سمّوُه فلسفة النحو، وأراني في غنيّةَ عن سرد أسماء البناة والمشتغلين في هذا العِلم منذ العصور الأولى حتى القرن التاسع عشر، لأنهم ذوو ذكرٍ نابِه، ولم يعمل هؤلاء في إحياء عَظم رَميم، إنما كان أمرهم يراوح في إسهاب الحياة اللغوية وإظهار علاقتها بعضها ببعض ورضى الفهم السليم عنها، حتى تفصَّل جزءًا جزءًا، فإذا هي متماسكة الأعضاء في وحدة فكرية رصينة تُعجبُ الباحثَ فيها. ولا يحسب البعض أن ما أهَدَف إليه حشو رأس الطالب حشوًا مرهقًا، فيكتظّ بكل ما أقرّه سيبويه والكسائي وابن جَني وابن مالِك وسواهم، كلا إنما يحسن الاقتناع بالقليل الكافي شريطة أن يوفّق إلى تأديته بالطريقة العلمّية المغرية، فلا حاجة بنا إلى استقصاء أسس القواعد كلها وضم سواعدها العديدة ما دمنا نفتلذ من صميمها ما يقوت الطالب ولا يشوّه المصدر، فالقضية إذًا محصورة في كيفية العطاء لأنها وحدها تجعل اللغة ممّا يتفرد منه أو يُتَهالك عليه، وكادت اللغة العربية تصبح في مفهوم البعض مشكلة، وكاد تدريسها يمحوها ولا يجلوها، وكادت القواعد تُحسَب عقدًا متراصّة لا انفتاح لمغلقاتها، حتى أوسعت ذمّاً فإذا أبناؤها أعداؤها.

وأشد بلايا هذه اللغة أحيانًا أن يوكل أمرُها إلى من لا يُحسِنُ معرفتها ولا يجتهِدُ في تحصيلها بل يكتفي بأن يعايش سَطحها حتى أصبح عددٌ وافر من معلّميها حَفظَة للقاعدة لا شرّاحًا لها لأنهم لا يفهمونها، فيقدّمونها للتلامذة مبتورة مشوّهة، ويتذمّرون من صعوبتها فيزيدون طالب العلم جهلاً، ولا يلبث أن يكرهَها ويُحِسَّ ثِقلَها فيعدِل عنها إلى سواها من اللغات، وقد كُثرت كتب الصرف والنحو إلاّ انها لا تبسيط فيها للقواعد، فلا يعلم سببها ومعناها وغايتها. إنما هي تُفرَض على التلميذ فرضًا لا لذة للعقل فيه. إذ على المؤلف أن يكبَّ على مطالعة المصادر القديمة والحديثة لائمّة اللغة واعيًا إياها مفيدًا منها حتى يكتملَ تمثيلها عنده ثم يعتمد أسلوبًا جديدًا قد يكون جديدًا بين مؤلّفات القواعد المدرسية التي بين أيدي التلامذة، فيعالِج تحديد القاعدة معالجة وافية باذلاً جهده لِسَكْبِها في عقل التلميذ مع مراعاة سِنّهِ وقَبولِه للفهم، فلا يترك غموضًا يعلَق في ذهنه فيزعجه إلأ حاول المؤلف إزالته، مع المبالغة في شرح القاعدة شرحًا منطقيّاً، لا يستظهرها معه استظهارًا بل يستوعبها متبصّرًِا، مع العناية القصوى بالأمثال والتمارين التي يذكر منها ما يشوّقِ التلميذ فيحبه، ويقرّبِ منه الإنسانية والطبيعة والجمال، وإلى جانب هذا يجب أن تختار الأبواب والفصول المذكورة اختيارًا يلائم الصف الذي تُدَرَّسُ فيه. والهدف الأول هو خدمة اللغة وخدمة التلميذ وعون المعلّم على إكمال رسالته التعليمية واللغوية.

الحواشي:
"الثقافة الجاهلية لغة وأدب"

1 - مُتساوِقٍ: من الاتّسِاق، من اتّسَقَ أي مُتَناغِمٍ وَمُتَلائِمٍ مَعَهُ.
2 - فهو مؤثّرٌِ أكثرَ منه ملهيًا: مأساة =≠ومَلْهاة.
3- أصبح الفنّ غَيْرِيًا: غَيْرِيّاً =≠أنانِيّاً.
الحواشي:
1- "مدرسِون يُعايشون أَديمَ اللغة"
1- يُعايشون أَديمَ اللغة: يُدَرّسِون اللغة دون الغَوصِ في أَعماقِها وكُنهِها ومَنطِقِها.
2- الشطَطْ: الضَياع.

 

الثقافة الجاهلية لغة وأدب

د. فردريك نجيم أستاذ ثانوي وجامعي  اللغة أحد مظاهر الثقافة الجاهلية أما المظهر الثقافي الثاني فهو الأدب. هذا الفنّ الذي يسمو به الإنسان  من الكلام العادي إلى الكلام الفنّي الجميل عن الفكر البشري والوجداني ولهذا الأدب المعبّرِ وسائل عديدة مختلفة. فمن يعرف القراءة والكتابة يستطيع أن يَملِك ويختزِن أشياء كثيرة، أمّا إذا انتقلنا إلى عصر يجهل فيه الإنسان الأديب والسامعون أدوات الكتابة، تساءلنا كيف يَسمون إلى منزلةٍ أدبيّةٍ في العطاءِ والأخذ.

 

لا مندوحة في هذا المجال عن الذاكرة التي تدفع إلى تذويق العبارات على لسان الأديب البدائي بشرط ان يحفظها ويلقيها على مسامع الجمهور الذي يشترط عليه أن يحفظ. وهو مضطرُّ في حفظ الدرس أو المقال إلى الاستِعانَةِ بأشياءَ أو أدواتٍ تمكِّن الذاكِرَة من حفظها. فإذا تمكنّا أن نستعمل أسلوبًا مشجّعًِا وعبارات تثير العاطفة وتبدع الصور الخيالية، استطعنا حفظ القطعة المَقولَةِ وتوفيرِ سهولَةِ حفظها للسامعين بأسلوب مُتَساوِقٍ1 مع النغم الموسيقي. وهذا أهم عناصر الشِّعر. وهذا ما دَرَجَ على تسميته العرب الأقدمون، لأنهم اعتمدوه في مظاهر حياتهم التعبيرية الأدبية دون النثر. وفي ذا الشِّعر دخل كثير من التآليف الأدبية التي لا تدخل فيه اليوم، كالخطب وأسجاع الكهان والأمثال، وفي كلامنا على شِّعر الجاهلي شمَلنا هذه الأبواب ولم نتطرّق إلى النثر لأنه كان مظهرًا أدبيًا ضيّقًا بعيدًا عن الخصائص الفنيَة المنشودة.

وقد عُرف الشعر الجاهلي بالإنشاد، وتتناول هذه الكلمة القصائد وبعض الفنون الأدبيّة يومذاك الأسجاع والأمثال والخطب، إلا أن هذه الفنون الثلاثة بعد تحرُّرها وتحوُّلِها، إنتهت إلى ما نسميه اليوم النثر وتكاد مِيزات الشعر الجاهلي تنحصر في المعلّقات، مع الاعتراف بان هناك شعرًا جاهليّاً لا يقلّ قَدره عن المعلّقة. فالأعشى مثلاً في لاميّتِهِ المشهورة التي تعتبر من القصائد العشر ومطلعها: قالَت هُرَيرَةُ... وفيها معرفة بأخلاق البشر لا نجدها في سائر المعلّقات:

قالَت هُرَيرَةُ لمّا جِئتُ قائِلَها                          وَيلي عَلَيكَ ووَيلي مِنكَ يا رَجُلُ

وهي ناحيةٌ قلّمَا نَراها في الشعر الجاهليّ. كما يتناول الشعر الجاهلي الخُلُق، كمثل عنترة وعفّته عن اقتسام السَلب:

يُخبِرْكِ من شَهِدَ الوقيعَةَ أنّني                        أغَشى الوغى وأعِفّ عند المَغْنَمِ

وكذلك الحفاظ على الجوار وغيره مما يتناول تصوير أخلاق البشر. كما نجد أيضًا شيئًا من وصف المسؤولية المعنويّة، حتى في قول رجلٍ لصّ صعلوكٍ كالشنفرى  وعُروَة بن الوَرْد، وهو ما يتناول ناحية من التوسُّع في آداب الصُعلوك الحق.

وقد عالج الجاهلي في أقواله بعض النواحي الاجتماعية كما نرى في الشِّعر والأمثال التي هي خلاصة حكمةِ الشعب. وقد حاول العرب ككلّ شعبٍ شفهيّ بدائيّ أن يغلّفِوا الأمثال غِلافَ الشِّعرِ موزونَةً مُسَجّعَةً فأتت الأمثال على نَغَم: وإنَّ غدًا لِناظِرِهِ قَريبُ...

إن البلاء موكّل بالمنطق، وهو تكلّف غير مقصود. أما في القصائد فيبلُغ السَّجْعُ أقصى حدّهَُ، إلى جانِبِ تعدّدُ القافِيةِ والأبياتِ بفضل غنى اللغة العربية. وأبرز العناصر التي يستند إليها الشِّعر هوالخيال والعاطفة من حيث التكوين والموسيقى من حيث الإخراج.  وقد لا نراها عند اللاتين لأنهم عرفوا الكتابة قبل الأدب، فهم شعب كتابيّ أما اليونان فهم كالعرب لم يعرفوا نهضةً كتابيّةًَ، وغَلَبَ على الشِّعر العربي الجاهلي اسم الشِّعر الغنائي. أما الملحمة فلم تَعٍرف إلا شَذَراتٍ قليلة.  فالشعر الجاهليّ مقصّ رِ عن السرد الذي يولّدِ الفنون الكبرى: القصة – الملحمة – المسرح. ومن النقّاَد من ردّ هذا الأمر إلى ضيق المخيّلَة البدويّةَ، غير المستقِرة للمسرح، ومنهم من قال بِعَدَم وجود نظام للآلهة، مع العلم أن البدوي كان يؤمن بالجِنّ بدون نِظام. أما السبب الراهن فهو أن البدويّ خطيبٌ قبل أن يكون قصَّاصًا فهو مؤثّرٌِ أكثر منه ملهيًا2. ولهذا نرى أن القِصَصَ الوارِدَة في الشِّعر الجاهلي وسائِلُ لا غايةَ كقِصَصِ البطشِ في شِعرِ عَنترَةَ، فهذه اللمَحات الَملحميّةَ يسرُدُها واسِطةً لإظهار بطشه: ومدجّجٍَ كَرِهَ الكُمَاةُ نِزَالَهُ.

فإذا كانت غايةُ الشِّعر السرد اختفت شخصية الشَّاعر وراء الستار وأصبح الفن غيريّاً3 لا أنانيّاً كما نجِدُ في عَنتَرةَ الشَّاعِر الذي يمّ ثِل البطلَ والراويَة. ولذلك لم نرَ قصَّةً ولا ملحمَةً ولا مسرحًا في الشِّعر العربي الجاهلي بالاستناد إلى الأسباب الاجتماعية والعوامل النفسية.

مُدَرّسِون يُعايشون أَديمَ اللغة - الثقافة الجاهلية لغة وأدب

مُدَرّ سِون يُعايشون أَديمَ اللغة(1)

 

إن التضلّع من اللغة واجب على من يقرأ أو يكتب حتى يحسن التصرّف بمفردها ومشتقّهِا، ولا يتوارد الخلل إلى تعبيره من سوء الفهم، فيتملّكه الشطَطْ2 في ما يريده ولا يستطيعه، ولا يلبث أن يعتاد الخطأ صوابًا باستعمال الكلمة أو بناء الجملة، وخصوصًا الطالب في مدرسته. لأن من يشرف عليه عاجزُ عن تقويم أدائِه، فإذا إنشاؤه في صفّهِ الأول مَشوبٌ بالرَكاكة التي عابَته في الصف الخامس مثلاً. إنّ كل واقف على دخيلة التعليم يتيقّن هذه الحقيقة المُمِضَّة.

وهل التفرّغ إلى الأدب في الصفوف العالية يصرف عن العناية بالصرف والنحو؟ إن الإعراض عن هذه المسألة اللغوية في الصفوف العليا حتمًا أو طواعِية أمرٌ مرذولُ المغبّة. ومما يعظم سوؤه ويجب التنبّه له انصراف نفرٍ من المدرّسين الذين عايشوا أديم اللغة لا كُنهَها إلى الاجتزاء بتعليم القواعد من خلال تطبيقها، أي ان تحفظ أساليب اللغة بمماشاة استعمالها حفظًا سقيمًا لا يوقظ في التلميذ إلاّ سطحية الذهن فيضطر إلى مُجانَبة الوعي الصحيح، كأنّمِا القاعدة شيء لا وَعْيَ فيه، مع أنها تعتمد المنطق اعتمادًا فعليّاً.

وكم أكبّ قدامى الأئمة على تعليلها (القاعِدة) وإيضاح شأنها في ما هي منوطة به من المستند العقلي، حتى عني البعض بما سمّوُه فلسفة النحو، وأراني في غنيّةَ عن سرد أسماء البناة والمشتغلين في هذا العِلم منذ العصور الأولى حتى القرن التاسع عشر، لأنهم ذوو ذكرٍ نابِه، ولم يعمل هؤلاء في إحياء عَظم رَميم، إنما كان أمرهم يراوح في إسهاب الحياة اللغوية وإظهار علاقتها بعضها ببعض ورضى الفهم السليم عنها، حتى تفصَّل جزءًا جزءًا، فإذا هي متماسكة الأعضاء في وحدة فكرية رصينة تُعجبُ الباحثَ فيها. ولا يحسب البعض أن ما أهَدَف إليه حشو رأس الطالب حشوًا مرهقًا، فيكتظّ بكل ما أقرّه سيبويه والكسائي وابن جَني وابن مالِك وسواهم، كلا إنما يحسن الاقتناع بالقليل الكافي شريطة أن يوفّق إلى تأديته بالطريقة العلمّية المغرية، فلا حاجة بنا إلى استقصاء أسس القواعد كلها وضم سواعدها العديدة ما دمنا نفتلذ من صميمها ما يقوت الطالب ولا يشوّه المصدر، فالقضية إذًا محصورة في كيفية العطاء لأنها وحدها تجعل اللغة ممّا يتفرد منه أو يُتَهالك عليه، وكادت اللغة العربية تصبح في مفهوم البعض مشكلة، وكاد تدريسها يمحوها ولا يجلوها، وكادت القواعد تُحسَب عقدًا متراصّة لا انفتاح لمغلقاتها، حتى أوسعت ذمّاً فإذا أبناؤها أعداؤها.

وأشد بلايا هذه اللغة أحيانًا أن يوكل أمرُها إلى من لا يُحسِنُ معرفتها ولا يجتهِدُ في تحصيلها بل يكتفي بأن يعايش سَطحها حتى أصبح عددٌ وافر من معلّميها حَفظَة للقاعدة لا شرّاحًا لها لأنهم لا يفهمونها، فيقدّمونها للتلامذة مبتورة مشوّهة، ويتذمّرون من صعوبتها فيزيدون طالب العلم جهلاً، ولا يلبث أن يكرهَها ويُحِسَّ ثِقلَها فيعدِل عنها إلى سواها من اللغات، وقد كُثرت كتب الصرف والنحو إلاّ انها لا تبسيط فيها للقواعد، فلا يعلم سببها ومعناها وغايتها. إنما هي تُفرَض على التلميذ فرضًا لا لذة للعقل فيه. إذ على المؤلف أن يكبَّ على مطالعة المصادر القديمة والحديثة لائمّة اللغة واعيًا إياها مفيدًا منها حتى يكتملَ تمثيلها عنده ثم يعتمد أسلوبًا جديدًا قد يكون جديدًا بين مؤلّفات القواعد المدرسية التي بين أيدي التلامذة، فيعالِج تحديد القاعدة معالجة وافية باذلاً جهده لِسَكْبِها في عقل التلميذ مع مراعاة سِنّهِ وقَبولِه للفهم، فلا يترك غموضًا يعلَق في ذهنه فيزعجه إلأ حاول المؤلف إزالته، مع المبالغة في شرح القاعدة شرحًا منطقيّاً، لا يستظهرها معه استظهارًا بل يستوعبها متبصّرًِا، مع العناية القصوى بالأمثال والتمارين التي يذكر منها ما يشوّقِ التلميذ فيحبه، ويقرّبِ منه الإنسانية والطبيعة والجمال، وإلى جانب هذا يجب أن تختار الأبواب والفصول المذكورة اختيارًا يلائم الصف الذي تُدَرَّسُ فيه. والهدف الأول هو خدمة اللغة وخدمة التلميذ وعون المعلّم على إكمال رسالته التعليمية واللغوية.

الحواشي:
"الثقافة الجاهلية لغة وأدب"

1 - مُتساوِقٍ: من الاتّسِاق، من اتّسَقَ أي مُتَناغِمٍ وَمُتَلائِمٍ مَعَهُ.
2 - فهو مؤثّرٌِ أكثرَ منه ملهيًا: مأساة =≠ومَلْهاة.
3- أصبح الفنّ غَيْرِيًا: غَيْرِيّاً =≠أنانِيّاً.
الحواشي:
1- "مدرسِون يُعايشون أَديمَ اللغة"
1- يُعايشون أَديمَ اللغة: يُدَرّسِون اللغة دون الغَوصِ في أَعماقِها وكُنهِها ومَنطِقِها.
2- الشطَطْ: الضَياع.

 

الثقافة الجاهلية لغة وأدب

د. فردريك نجيم أستاذ ثانوي وجامعي  اللغة أحد مظاهر الثقافة الجاهلية أما المظهر الثقافي الثاني فهو الأدب. هذا الفنّ الذي يسمو به الإنسان  من الكلام العادي إلى الكلام الفنّي الجميل عن الفكر البشري والوجداني ولهذا الأدب المعبّرِ وسائل عديدة مختلفة. فمن يعرف القراءة والكتابة يستطيع أن يَملِك ويختزِن أشياء كثيرة، أمّا إذا انتقلنا إلى عصر يجهل فيه الإنسان الأديب والسامعون أدوات الكتابة، تساءلنا كيف يَسمون إلى منزلةٍ أدبيّةٍ في العطاءِ والأخذ.

 

لا مندوحة في هذا المجال عن الذاكرة التي تدفع إلى تذويق العبارات على لسان الأديب البدائي بشرط ان يحفظها ويلقيها على مسامع الجمهور الذي يشترط عليه أن يحفظ. وهو مضطرُّ في حفظ الدرس أو المقال إلى الاستِعانَةِ بأشياءَ أو أدواتٍ تمكِّن الذاكِرَة من حفظها. فإذا تمكنّا أن نستعمل أسلوبًا مشجّعًِا وعبارات تثير العاطفة وتبدع الصور الخيالية، استطعنا حفظ القطعة المَقولَةِ وتوفيرِ سهولَةِ حفظها للسامعين بأسلوب مُتَساوِقٍ1 مع النغم الموسيقي. وهذا أهم عناصر الشِّعر. وهذا ما دَرَجَ على تسميته العرب الأقدمون، لأنهم اعتمدوه في مظاهر حياتهم التعبيرية الأدبية دون النثر. وفي ذا الشِّعر دخل كثير من التآليف الأدبية التي لا تدخل فيه اليوم، كالخطب وأسجاع الكهان والأمثال، وفي كلامنا على شِّعر الجاهلي شمَلنا هذه الأبواب ولم نتطرّق إلى النثر لأنه كان مظهرًا أدبيًا ضيّقًا بعيدًا عن الخصائص الفنيَة المنشودة.

وقد عُرف الشعر الجاهلي بالإنشاد، وتتناول هذه الكلمة القصائد وبعض الفنون الأدبيّة يومذاك الأسجاع والأمثال والخطب، إلا أن هذه الفنون الثلاثة بعد تحرُّرها وتحوُّلِها، إنتهت إلى ما نسميه اليوم النثر وتكاد مِيزات الشعر الجاهلي تنحصر في المعلّقات، مع الاعتراف بان هناك شعرًا جاهليّاً لا يقلّ قَدره عن المعلّقة. فالأعشى مثلاً في لاميّتِهِ المشهورة التي تعتبر من القصائد العشر ومطلعها: قالَت هُرَيرَةُ... وفيها معرفة بأخلاق البشر لا نجدها في سائر المعلّقات:

قالَت هُرَيرَةُ لمّا جِئتُ قائِلَها                          وَيلي عَلَيكَ ووَيلي مِنكَ يا رَجُلُ

وهي ناحيةٌ قلّمَا نَراها في الشعر الجاهليّ. كما يتناول الشعر الجاهلي الخُلُق، كمثل عنترة وعفّته عن اقتسام السَلب:

يُخبِرْكِ من شَهِدَ الوقيعَةَ أنّني                        أغَشى الوغى وأعِفّ عند المَغْنَمِ

وكذلك الحفاظ على الجوار وغيره مما يتناول تصوير أخلاق البشر. كما نجد أيضًا شيئًا من وصف المسؤولية المعنويّة، حتى في قول رجلٍ لصّ صعلوكٍ كالشنفرى  وعُروَة بن الوَرْد، وهو ما يتناول ناحية من التوسُّع في آداب الصُعلوك الحق.

وقد عالج الجاهلي في أقواله بعض النواحي الاجتماعية كما نرى في الشِّعر والأمثال التي هي خلاصة حكمةِ الشعب. وقد حاول العرب ككلّ شعبٍ شفهيّ بدائيّ أن يغلّفِوا الأمثال غِلافَ الشِّعرِ موزونَةً مُسَجّعَةً فأتت الأمثال على نَغَم: وإنَّ غدًا لِناظِرِهِ قَريبُ...

إن البلاء موكّل بالمنطق، وهو تكلّف غير مقصود. أما في القصائد فيبلُغ السَّجْعُ أقصى حدّهَُ، إلى جانِبِ تعدّدُ القافِيةِ والأبياتِ بفضل غنى اللغة العربية. وأبرز العناصر التي يستند إليها الشِّعر هوالخيال والعاطفة من حيث التكوين والموسيقى من حيث الإخراج.  وقد لا نراها عند اللاتين لأنهم عرفوا الكتابة قبل الأدب، فهم شعب كتابيّ أما اليونان فهم كالعرب لم يعرفوا نهضةً كتابيّةًَ، وغَلَبَ على الشِّعر العربي الجاهلي اسم الشِّعر الغنائي. أما الملحمة فلم تَعٍرف إلا شَذَراتٍ قليلة.  فالشعر الجاهليّ مقصّ رِ عن السرد الذي يولّدِ الفنون الكبرى: القصة – الملحمة – المسرح. ومن النقّاَد من ردّ هذا الأمر إلى ضيق المخيّلَة البدويّةَ، غير المستقِرة للمسرح، ومنهم من قال بِعَدَم وجود نظام للآلهة، مع العلم أن البدوي كان يؤمن بالجِنّ بدون نِظام. أما السبب الراهن فهو أن البدويّ خطيبٌ قبل أن يكون قصَّاصًا فهو مؤثّرٌِ أكثر منه ملهيًا2. ولهذا نرى أن القِصَصَ الوارِدَة في الشِّعر الجاهلي وسائِلُ لا غايةَ كقِصَصِ البطشِ في شِعرِ عَنترَةَ، فهذه اللمَحات الَملحميّةَ يسرُدُها واسِطةً لإظهار بطشه: ومدجّجٍَ كَرِهَ الكُمَاةُ نِزَالَهُ.

فإذا كانت غايةُ الشِّعر السرد اختفت شخصية الشَّاعر وراء الستار وأصبح الفن غيريّاً3 لا أنانيّاً كما نجِدُ في عَنتَرةَ الشَّاعِر الذي يمّ ثِل البطلَ والراويَة. ولذلك لم نرَ قصَّةً ولا ملحمَةً ولا مسرحًا في الشِّعر العربي الجاهلي بالاستناد إلى الأسباب الاجتماعية والعوامل النفسية.