جَودَت حَيدَر: فكرٌ وأدَب

                                  جَودَت حَيدَر:
د. فردريك نجيم أستاذ ثانوي وجامعي سابقًا                          فكرٌ وأدَب

 

رَوعَةَ الكلمة الأدبيّة في أشيائها الحبيبة الغالية أنتُقيمَ في الجِوار الأحَبّ إليها، جوار القلب تنعم به النعماء التي تهنأ بها وتلتذّها وترتاح إليها.

ولهذه الكلمة عند صاحبها شوقٌ مثل الصبابة في الضلوع التي تحسُّها حاجةً ملحاحًا إلى الذهاب والحلول في ضيافة تُستطاب وتُحبّ حتى تُصبح إقامةً مانعة لا عودة منها. وأجمل ما في الكلمة أن تنقل ما ادّخرته العقول من معارف وعِبَر، وعَمَرت به القلوب من لواعج وخوالج. هكذا تُطِلُّ علينا الكلمة عند جودَت حيدر في سِعةٍ لا تحدّها مسافات الطول والعرض، ولا تبلغها حواجز وقيود، لأن للكاتب فيها مذاهب يذهب بها في نواح مختلفة، وعلى دروبٍ متفاوِتة، لأنّ له من بحبوحة الدنيا ما يمدّه ببحبوحة الكلام عليها.

جَودت حيدر أحد الفرسان الكبار المجيد واللامع في الإبداع والمعرفة اللذين هما حَوزة الأطراف المترفة عنده. فما دَخَل بابًا منذ  صِغَرِه إلا كان مَدخَلاً إلى شاهقٍ من بناء ووسيعٍ من فناء بعيد يُتَمنى أن يُدرِك أثره. فكأنّ لا شيء في الدنيا يعسر عليه، إنّما اليُسْرُ فيما تُنافِس به يُمناهُ يُسراهُ. وكأنّه بات لا يقلقه إلا أن يُقصّرِ الآخرون عن تناول ما يدفَعُهُ إليهم بلا منّة.

بعلَبَك قمّةُ الشموخ ومنبسطات الدَعَة، شموخُ التاريخ في أمجاد قلعتِها، ومُنبسَطات البقاع التي تترامى عند أطراف هذه المدينة  التاريخية لتكدّس الغِلال الوافرة على بيادِرها مواسِم خيرٍ وبركة. من هذه الجنّية المشرقيّة، التي تتسامى بها الأجيال والعهود منارَةً حضاريةً تُشعّ في الفيافي والوِهاد لتكشِّحَ الغياهِبَ والظلمات وتنعم الأبصار بمفاتن الطبيعة وسِحْرِها، وتغتني البصائر بالمآثر والروائع، وإذا لبنان في توق الأرض إلى السماء ما تشهدُه الدنيا وطنًا خالدًا، أطلَّ جودَت حَيدَر مَولودًا وناشئًا، فاتحًا في ذاته المدى الذي تنطلق منه إعوامُه فَتراتٍ وساعاتٍ وأعوامًا تَختَزِنُ فيها مجالات السَعي الجادّ والخَلق والإبداع. وكأن العيش تحت وطأة الأحداث والظروف، تضيق عليه فيها أجواؤه، فينطلق إلى خارج لبنان يعاني ويَقسو على نفسه في معاناته حتى يقهَرَ الحوائل، ويُزِلّ الشدائد ويحقق الظفر بما يتوق إليه في مطامحه معرفةً وحضارةً. وهو أبدًا الرجل المؤثَّل الذي يدرك ما يتوخّى، حتى كادت الثقافة عنده تكون الوالهة به، فكأنّها الحسناء التي تنتظرغُلوان شَبابِها لتُفَوِّضَ أمرَها إلى سلطان يفعل بالألباب ما يفعل، وينزل بالقلوب ما ينزل. حَمَلَ رسالةَ المعرفة فكان الباحث في أمورها والعامل في إنمائها وتغويص الفكر في أعماقها، فإذا هو مِن عليَةّ العاملين فيها الذين وُصِفوا بالصَفوة التي يُشكَرُ لها ذوقٌ ورأيٌ متعافِيان.

كان جَودَت حيدر في نطقه ما يقصر سماعَه ويَطول إمتاعه، ويحفظه الزمن حفظ الذي يَحلو ويَعلو وينتهي إلى القرار. وهو أبدًا اللبنانيّ البعَلبَكيّ الذي تضحك عنده التضحية ويُحَمّ الوفاء صِدقًا وإخلاصًا لمبادِئه الوطنية وعقيدَتِه القوميّة. وأيًا كان المنحى الذي ينحوه في أفكاره وأقواله التي يملكها، إنّما هو المنحى الذي يذهب به المذهب الذي يستَهويه في دقَةّ المرمى وسَدادِ الرماية.

جَودَت حيدر المفكر الذي عمرت بتعاليمه وآرائه وأبحاثه المنابر والندوات ودَوَّت في أرجاء الجامعات معلّمًا وباحثًا. وهو الأديب الذي يقيم هو على حروفها، وينشرها ويُحِسُّ معها أنّ ما في الدنيا يُنشر. فكأن لا هنيهة، إلاّ الحاضِرة عندَه، ولا باقِية إلا هذه الفانية. فقد تثقل عليه وطَأة القدر، ويُضيقُ صَدرُه بالشجيّ، إلاّ أنّه يأبى إلاّ للجِراح التئامًا. وقد تغتسِلُ عيناه ببريقٍ بعضُه حَنانٍ وبعضُهُ نارٌ تأتَكِلُ إلا أننا في دُنوِّنا من عطاءاته الأدبية دُنوَّ ممّا يُشتهى ويُحَبّ. إن فضاءه فضاءٌ وسيع يذهب فيه ويَجيء إلا أنه يؤثر الأرض منزلاً، لأن لها مع اللحم والدم ما يطيب معه أن الإنسان ابنُ الحياة. تتلقّى كلماته بالصميم وتَلوي عليها الجوانح ونُبَرّدُِ بها الأحداق بأعذب ما فيها. هذا الأدب الذي ينسكِبُ على الأوراق فتنسَكِبُ معه الأبصار التي تتودّد إليه، فكأن الحياة تبدأ معه ولكنّها لا تودّ أن تنتهي معها لئلاّ يكون له هو انتهاء.

من أثار مدينة بعلبك

وهذه التأمّلات الوجدانية عنده مع ما فيها من دلائلَ وموحيات تحمل من دافئات الصميم ما تُحَمّ به كلَّ مُهجَةٍ. وإذا أعماقه المنفتحة للعطاء الذي يُصانُ به هذا الوجود الذي يتعاظم قدرًا ويتسامى إيمانًا بوطنِه لبنان. وهذه المشاهد التي يعرضها في أدبه، تتجلّى فيها الرشاقة في رَوائع التعبير عن أشياء تنتقل من صَدرِه لتستقرّ في صدور الآخرين. إن هذه المشاهد في إطارها القرويّ والاجتماعيّ تحلو فيها الذكريات التي يحبُّ الارتماء عليها ويطيب الطواف فيها، الطوافُ الذي يخلَعُ على الوجود وجودًا جديدًا. وكلّما غاص جَودَت حيدر في أدبه شعرًا ونثرًا فاضت منه أشياء لأنّ بينهما صِلةٌ هي دَورةُ الدم في العروق، فتَرشَحُ كلِماتُهُ بِما يَخلَعُ عليها من الحسّ ِ ولذَةّ الواقعِ. إنّه حَريصٌ على أن يؤثِرَ طريقها، فإذا عطاؤها المُطلَق لذّةٌ مُطلقَة، يلتذّ انصرافُه إليها في تذويبه القلم أحرفًا مجيدة وألفاظًا أنيقة، وهناك نسجٌ وثمّةَ ما يحلو معه التأمل الذي يظن فيه أن الدنيا طيّبة لأنها كلمةٌ فقط فيها من الطَرافَةِ والغرابةِ والجمال ما يعظُمُ الشَغَفُ به ويَصعُبُ الامتناع عنه.

جَودَت حَيدَر: فكرٌ وأدَب

                                  جَودَت حَيدَر:
د. فردريك نجيم أستاذ ثانوي وجامعي سابقًا                          فكرٌ وأدَب

 

رَوعَةَ الكلمة الأدبيّة في أشيائها الحبيبة الغالية أنتُقيمَ في الجِوار الأحَبّ إليها، جوار القلب تنعم به النعماء التي تهنأ بها وتلتذّها وترتاح إليها.

ولهذه الكلمة عند صاحبها شوقٌ مثل الصبابة في الضلوع التي تحسُّها حاجةً ملحاحًا إلى الذهاب والحلول في ضيافة تُستطاب وتُحبّ حتى تُصبح إقامةً مانعة لا عودة منها. وأجمل ما في الكلمة أن تنقل ما ادّخرته العقول من معارف وعِبَر، وعَمَرت به القلوب من لواعج وخوالج. هكذا تُطِلُّ علينا الكلمة عند جودَت حيدر في سِعةٍ لا تحدّها مسافات الطول والعرض، ولا تبلغها حواجز وقيود، لأن للكاتب فيها مذاهب يذهب بها في نواح مختلفة، وعلى دروبٍ متفاوِتة، لأنّ له من بحبوحة الدنيا ما يمدّه ببحبوحة الكلام عليها.

جَودت حيدر أحد الفرسان الكبار المجيد واللامع في الإبداع والمعرفة اللذين هما حَوزة الأطراف المترفة عنده. فما دَخَل بابًا منذ  صِغَرِه إلا كان مَدخَلاً إلى شاهقٍ من بناء ووسيعٍ من فناء بعيد يُتَمنى أن يُدرِك أثره. فكأنّ لا شيء في الدنيا يعسر عليه، إنّما اليُسْرُ فيما تُنافِس به يُمناهُ يُسراهُ. وكأنّه بات لا يقلقه إلا أن يُقصّرِ الآخرون عن تناول ما يدفَعُهُ إليهم بلا منّة.

بعلَبَك قمّةُ الشموخ ومنبسطات الدَعَة، شموخُ التاريخ في أمجاد قلعتِها، ومُنبسَطات البقاع التي تترامى عند أطراف هذه المدينة  التاريخية لتكدّس الغِلال الوافرة على بيادِرها مواسِم خيرٍ وبركة. من هذه الجنّية المشرقيّة، التي تتسامى بها الأجيال والعهود منارَةً حضاريةً تُشعّ في الفيافي والوِهاد لتكشِّحَ الغياهِبَ والظلمات وتنعم الأبصار بمفاتن الطبيعة وسِحْرِها، وتغتني البصائر بالمآثر والروائع، وإذا لبنان في توق الأرض إلى السماء ما تشهدُه الدنيا وطنًا خالدًا، أطلَّ جودَت حَيدَر مَولودًا وناشئًا، فاتحًا في ذاته المدى الذي تنطلق منه إعوامُه فَتراتٍ وساعاتٍ وأعوامًا تَختَزِنُ فيها مجالات السَعي الجادّ والخَلق والإبداع. وكأن العيش تحت وطأة الأحداث والظروف، تضيق عليه فيها أجواؤه، فينطلق إلى خارج لبنان يعاني ويَقسو على نفسه في معاناته حتى يقهَرَ الحوائل، ويُزِلّ الشدائد ويحقق الظفر بما يتوق إليه في مطامحه معرفةً وحضارةً. وهو أبدًا الرجل المؤثَّل الذي يدرك ما يتوخّى، حتى كادت الثقافة عنده تكون الوالهة به، فكأنّها الحسناء التي تنتظرغُلوان شَبابِها لتُفَوِّضَ أمرَها إلى سلطان يفعل بالألباب ما يفعل، وينزل بالقلوب ما ينزل. حَمَلَ رسالةَ المعرفة فكان الباحث في أمورها والعامل في إنمائها وتغويص الفكر في أعماقها، فإذا هو مِن عليَةّ العاملين فيها الذين وُصِفوا بالصَفوة التي يُشكَرُ لها ذوقٌ ورأيٌ متعافِيان.

كان جَودَت حيدر في نطقه ما يقصر سماعَه ويَطول إمتاعه، ويحفظه الزمن حفظ الذي يَحلو ويَعلو وينتهي إلى القرار. وهو أبدًا اللبنانيّ البعَلبَكيّ الذي تضحك عنده التضحية ويُحَمّ الوفاء صِدقًا وإخلاصًا لمبادِئه الوطنية وعقيدَتِه القوميّة. وأيًا كان المنحى الذي ينحوه في أفكاره وأقواله التي يملكها، إنّما هو المنحى الذي يذهب به المذهب الذي يستَهويه في دقَةّ المرمى وسَدادِ الرماية.

جَودَت حيدر المفكر الذي عمرت بتعاليمه وآرائه وأبحاثه المنابر والندوات ودَوَّت في أرجاء الجامعات معلّمًا وباحثًا. وهو الأديب الذي يقيم هو على حروفها، وينشرها ويُحِسُّ معها أنّ ما في الدنيا يُنشر. فكأن لا هنيهة، إلاّ الحاضِرة عندَه، ولا باقِية إلا هذه الفانية. فقد تثقل عليه وطَأة القدر، ويُضيقُ صَدرُه بالشجيّ، إلاّ أنّه يأبى إلاّ للجِراح التئامًا. وقد تغتسِلُ عيناه ببريقٍ بعضُه حَنانٍ وبعضُهُ نارٌ تأتَكِلُ إلا أننا في دُنوِّنا من عطاءاته الأدبية دُنوَّ ممّا يُشتهى ويُحَبّ. إن فضاءه فضاءٌ وسيع يذهب فيه ويَجيء إلا أنه يؤثر الأرض منزلاً، لأن لها مع اللحم والدم ما يطيب معه أن الإنسان ابنُ الحياة. تتلقّى كلماته بالصميم وتَلوي عليها الجوانح ونُبَرّدُِ بها الأحداق بأعذب ما فيها. هذا الأدب الذي ينسكِبُ على الأوراق فتنسَكِبُ معه الأبصار التي تتودّد إليه، فكأن الحياة تبدأ معه ولكنّها لا تودّ أن تنتهي معها لئلاّ يكون له هو انتهاء.

من أثار مدينة بعلبك

وهذه التأمّلات الوجدانية عنده مع ما فيها من دلائلَ وموحيات تحمل من دافئات الصميم ما تُحَمّ به كلَّ مُهجَةٍ. وإذا أعماقه المنفتحة للعطاء الذي يُصانُ به هذا الوجود الذي يتعاظم قدرًا ويتسامى إيمانًا بوطنِه لبنان. وهذه المشاهد التي يعرضها في أدبه، تتجلّى فيها الرشاقة في رَوائع التعبير عن أشياء تنتقل من صَدرِه لتستقرّ في صدور الآخرين. إن هذه المشاهد في إطارها القرويّ والاجتماعيّ تحلو فيها الذكريات التي يحبُّ الارتماء عليها ويطيب الطواف فيها، الطوافُ الذي يخلَعُ على الوجود وجودًا جديدًا. وكلّما غاص جَودَت حيدر في أدبه شعرًا ونثرًا فاضت منه أشياء لأنّ بينهما صِلةٌ هي دَورةُ الدم في العروق، فتَرشَحُ كلِماتُهُ بِما يَخلَعُ عليها من الحسّ ِ ولذَةّ الواقعِ. إنّه حَريصٌ على أن يؤثِرَ طريقها، فإذا عطاؤها المُطلَق لذّةٌ مُطلقَة، يلتذّ انصرافُه إليها في تذويبه القلم أحرفًا مجيدة وألفاظًا أنيقة، وهناك نسجٌ وثمّةَ ما يحلو معه التأمل الذي يظن فيه أن الدنيا طيّبة لأنها كلمةٌ فقط فيها من الطَرافَةِ والغرابةِ والجمال ما يعظُمُ الشَغَفُ به ويَصعُبُ الامتناع عنه.

جَودَت حَيدَر: فكرٌ وأدَب

                                  جَودَت حَيدَر:
د. فردريك نجيم أستاذ ثانوي وجامعي سابقًا                          فكرٌ وأدَب

 

رَوعَةَ الكلمة الأدبيّة في أشيائها الحبيبة الغالية أنتُقيمَ في الجِوار الأحَبّ إليها، جوار القلب تنعم به النعماء التي تهنأ بها وتلتذّها وترتاح إليها.

ولهذه الكلمة عند صاحبها شوقٌ مثل الصبابة في الضلوع التي تحسُّها حاجةً ملحاحًا إلى الذهاب والحلول في ضيافة تُستطاب وتُحبّ حتى تُصبح إقامةً مانعة لا عودة منها. وأجمل ما في الكلمة أن تنقل ما ادّخرته العقول من معارف وعِبَر، وعَمَرت به القلوب من لواعج وخوالج. هكذا تُطِلُّ علينا الكلمة عند جودَت حيدر في سِعةٍ لا تحدّها مسافات الطول والعرض، ولا تبلغها حواجز وقيود، لأن للكاتب فيها مذاهب يذهب بها في نواح مختلفة، وعلى دروبٍ متفاوِتة، لأنّ له من بحبوحة الدنيا ما يمدّه ببحبوحة الكلام عليها.

جَودت حيدر أحد الفرسان الكبار المجيد واللامع في الإبداع والمعرفة اللذين هما حَوزة الأطراف المترفة عنده. فما دَخَل بابًا منذ  صِغَرِه إلا كان مَدخَلاً إلى شاهقٍ من بناء ووسيعٍ من فناء بعيد يُتَمنى أن يُدرِك أثره. فكأنّ لا شيء في الدنيا يعسر عليه، إنّما اليُسْرُ فيما تُنافِس به يُمناهُ يُسراهُ. وكأنّه بات لا يقلقه إلا أن يُقصّرِ الآخرون عن تناول ما يدفَعُهُ إليهم بلا منّة.

بعلَبَك قمّةُ الشموخ ومنبسطات الدَعَة، شموخُ التاريخ في أمجاد قلعتِها، ومُنبسَطات البقاع التي تترامى عند أطراف هذه المدينة  التاريخية لتكدّس الغِلال الوافرة على بيادِرها مواسِم خيرٍ وبركة. من هذه الجنّية المشرقيّة، التي تتسامى بها الأجيال والعهود منارَةً حضاريةً تُشعّ في الفيافي والوِهاد لتكشِّحَ الغياهِبَ والظلمات وتنعم الأبصار بمفاتن الطبيعة وسِحْرِها، وتغتني البصائر بالمآثر والروائع، وإذا لبنان في توق الأرض إلى السماء ما تشهدُه الدنيا وطنًا خالدًا، أطلَّ جودَت حَيدَر مَولودًا وناشئًا، فاتحًا في ذاته المدى الذي تنطلق منه إعوامُه فَتراتٍ وساعاتٍ وأعوامًا تَختَزِنُ فيها مجالات السَعي الجادّ والخَلق والإبداع. وكأن العيش تحت وطأة الأحداث والظروف، تضيق عليه فيها أجواؤه، فينطلق إلى خارج لبنان يعاني ويَقسو على نفسه في معاناته حتى يقهَرَ الحوائل، ويُزِلّ الشدائد ويحقق الظفر بما يتوق إليه في مطامحه معرفةً وحضارةً. وهو أبدًا الرجل المؤثَّل الذي يدرك ما يتوخّى، حتى كادت الثقافة عنده تكون الوالهة به، فكأنّها الحسناء التي تنتظرغُلوان شَبابِها لتُفَوِّضَ أمرَها إلى سلطان يفعل بالألباب ما يفعل، وينزل بالقلوب ما ينزل. حَمَلَ رسالةَ المعرفة فكان الباحث في أمورها والعامل في إنمائها وتغويص الفكر في أعماقها، فإذا هو مِن عليَةّ العاملين فيها الذين وُصِفوا بالصَفوة التي يُشكَرُ لها ذوقٌ ورأيٌ متعافِيان.

كان جَودَت حيدر في نطقه ما يقصر سماعَه ويَطول إمتاعه، ويحفظه الزمن حفظ الذي يَحلو ويَعلو وينتهي إلى القرار. وهو أبدًا اللبنانيّ البعَلبَكيّ الذي تضحك عنده التضحية ويُحَمّ الوفاء صِدقًا وإخلاصًا لمبادِئه الوطنية وعقيدَتِه القوميّة. وأيًا كان المنحى الذي ينحوه في أفكاره وأقواله التي يملكها، إنّما هو المنحى الذي يذهب به المذهب الذي يستَهويه في دقَةّ المرمى وسَدادِ الرماية.

جَودَت حيدر المفكر الذي عمرت بتعاليمه وآرائه وأبحاثه المنابر والندوات ودَوَّت في أرجاء الجامعات معلّمًا وباحثًا. وهو الأديب الذي يقيم هو على حروفها، وينشرها ويُحِسُّ معها أنّ ما في الدنيا يُنشر. فكأن لا هنيهة، إلاّ الحاضِرة عندَه، ولا باقِية إلا هذه الفانية. فقد تثقل عليه وطَأة القدر، ويُضيقُ صَدرُه بالشجيّ، إلاّ أنّه يأبى إلاّ للجِراح التئامًا. وقد تغتسِلُ عيناه ببريقٍ بعضُه حَنانٍ وبعضُهُ نارٌ تأتَكِلُ إلا أننا في دُنوِّنا من عطاءاته الأدبية دُنوَّ ممّا يُشتهى ويُحَبّ. إن فضاءه فضاءٌ وسيع يذهب فيه ويَجيء إلا أنه يؤثر الأرض منزلاً، لأن لها مع اللحم والدم ما يطيب معه أن الإنسان ابنُ الحياة. تتلقّى كلماته بالصميم وتَلوي عليها الجوانح ونُبَرّدُِ بها الأحداق بأعذب ما فيها. هذا الأدب الذي ينسكِبُ على الأوراق فتنسَكِبُ معه الأبصار التي تتودّد إليه، فكأن الحياة تبدأ معه ولكنّها لا تودّ أن تنتهي معها لئلاّ يكون له هو انتهاء.

من أثار مدينة بعلبك

وهذه التأمّلات الوجدانية عنده مع ما فيها من دلائلَ وموحيات تحمل من دافئات الصميم ما تُحَمّ به كلَّ مُهجَةٍ. وإذا أعماقه المنفتحة للعطاء الذي يُصانُ به هذا الوجود الذي يتعاظم قدرًا ويتسامى إيمانًا بوطنِه لبنان. وهذه المشاهد التي يعرضها في أدبه، تتجلّى فيها الرشاقة في رَوائع التعبير عن أشياء تنتقل من صَدرِه لتستقرّ في صدور الآخرين. إن هذه المشاهد في إطارها القرويّ والاجتماعيّ تحلو فيها الذكريات التي يحبُّ الارتماء عليها ويطيب الطواف فيها، الطوافُ الذي يخلَعُ على الوجود وجودًا جديدًا. وكلّما غاص جَودَت حيدر في أدبه شعرًا ونثرًا فاضت منه أشياء لأنّ بينهما صِلةٌ هي دَورةُ الدم في العروق، فتَرشَحُ كلِماتُهُ بِما يَخلَعُ عليها من الحسّ ِ ولذَةّ الواقعِ. إنّه حَريصٌ على أن يؤثِرَ طريقها، فإذا عطاؤها المُطلَق لذّةٌ مُطلقَة، يلتذّ انصرافُه إليها في تذويبه القلم أحرفًا مجيدة وألفاظًا أنيقة، وهناك نسجٌ وثمّةَ ما يحلو معه التأمل الذي يظن فيه أن الدنيا طيّبة لأنها كلمةٌ فقط فيها من الطَرافَةِ والغرابةِ والجمال ما يعظُمُ الشَغَفُ به ويَصعُبُ الامتناع عنه.