جودت حيدر 1905- 2006 شاعرًا حضاريّاً

البروفسور منيف موسى أستاذ جامعي سابقًا جودت حيدر (1905- 2006)

شاعرًا حضاريّاً

 

 

وكان حُبٌّ، من سهلٍ في بقاع الخير، يروّيِ العطاش إلى الحريّةَ في نضال الأباة الميامين، وهم في مضارب العِزِّ قائمون، يغلسون الضَّوء فجر جهاد. ما هابهم أجنبيّ،ٌ ولا روَّعهم ظالم، والعسكر على الأبواب. و"الرُّستم" يمتشق السَّيف، وحصانه أصيل، وبعلبكّ تقوم من الآثار عملاقًا رخاميّاً. قوَّة الحقّ هي، وصلابة اليقين؛ أنْ قوموا – آل حيدر – فأنتم من أهل البيت حيادرة عليّ (ع). وكأنّ كربلاء الجديدة قد تشظّى غبارها على أبواب "الباب العالي"، والفرسان في حومة "العاصي" سيوف لبنان. وهم في الولاء لبنانيّوُن أُصلاء، والعروبة لسانهم والضَّاد. والغمباز لبوس الأحرار في ارتداء الثّوَرة الممانعة التّتَريك.
وإذا الدّهشة تبزغ من قمر فوق جبل حرمون قبالة صّنِّيِن في الحدّ الآخر من لبنان، كأنّ تعويذة من عالم "عبقر" قد وُشِمَتْ على جبين ذاك القمر، فإذا "جودت" متفسّخِ بين الوطن والمنفى روحًا وجسدًا ... فيتعالى على القهر، ويعاند "برَّ الأناضول"، ليرتع فيما بعد، وراء البحار، في دنيا لله الواسعة. فلا تحمله باريس، ولا تسعه نيويورك، وأندادها .. يتثاقف مع المدى الآخر بين الأزرق والأخضر، فيحمل الأرز عَلَمًا إلى دنيا الانتشار. ويرطن بلغة "العم سام" ويكون شِعْر من لبنان. أرزيّ المَحْتِد، عربيّ الانتماء، مشرقيّ السّمِات. وإذا خانته "الضَّاد" وعصت عليه بأمر الغربة والتغرُّب، فجودت حيدر يُلْبِسُ "السكسونيّةَ – الأميركيّةَ" عباءة قرشيّة نجديّةَ حجازيّةَ، فيها رائحة لبنان وطعمه ولونه. والشِّعْر معه فيّاَض هدير: يرتفع عمودًا سابعًا في بعلبكَّ يطاول "برج إيڤل" الباريسيّ و"تمثال الحريّةَ" النيويوركيّ.َ والحُرُّ مهما باعدت به المسافات، جذوره ثابتة في السَّهل راسخة في الجبل، والبحر من أصابع راحتيه "اصطخاب وارتطام"، وحكاياه وشوشات جنّيِّاَت "سيرينيّاَت". وبيروت البحر والجبل دنيا الشَّرق والغرب لؤلؤة الشاطئ المتوسّطِيّ الشَّرقيّ. والشَّاعر يتسلَّق جبال المعرفة، "معرّجًا بين الأشواك، والصُّخور المسنّنَة" فطريق الطّمُوح شاق، والتّوَقّلُ في مراقي المجد يُصعّدِ به، وهو للفكر صديق، فأشعاره "ما كانت يومًا إلاّ خيول بحار"، صهيلها "أصوات" و"اصداء"، والرّيح مواكب غيم، والكون إبداع، وللشِّعْر أسرار، وللفكر إلْف نهار ...

وكان حُبٌّ. و"المليحة" في الخمار عروس إلهام. وكان رحيل. و"عندليب الغاب" يُنشد ألحان الطّيِب، حتّى يغيب القمر، ويُطلّ من المغيب "شمسًا وإذا الذكرى رجعت إلى باطن الأرض جسدًا، وروحًا إلى السَّماء". تلك "المليحة" الحسناء، كالفرات فاضت، وجَفّت كينبوع أصابه الحسد، فغاض الفرات. والشَّاعر ينفخ في مزماره كما "أورفيوس": "حبيبتي لا تحزني، فالتّلَاقي هناك. والخلد سرمد، والإياب عاصفة هبوب في لحن العاشقين" قال. وقال: "كلّمَا رفَّ الهوى أدركتُ معنى الأسى وكالشمس عيشنا كان طراوة، وصفاءً عند الغروب".

وكان رحيل ... والحُبُّ ذكرى أضحى وأحلامًا، وأنّاَت غنج وحنين. و"المليحة" "الميكولونكوليك" لوحة رثاء في ظلال الصَّفصاف والزَّيزفون. والشِّعْر صديق إبداع، وإيقاع موسيقى في سُلّمَ الكلمات، وعمود فلسفة فوق خدّ الزمان. "ومضة فكر والتهاب شعور" قال، والكلاسيكيّةَ ليست إلى انتهاء. الشِّعْر فكر ولغة، وهو مقام. والكَلِمُ نَغَم ورنين، على حدّ "النهاوند" و"الأصفهان" و"الصبا" و"الرَّصد". والبعلبكيّةَ تهاويد هوادج وشكيم أفراس.

عجبًا هذا الشَّاعر المترامي الأبعاد الآتي من تراب "بقاع الخير" ينهض للبحر خدينًا أو جارًا. يا لِلْبحر في شِعْر "بقاعيِّ"، يقول:

"... وانظر في الأفق إلى الهوادي، في البحر عطش للحريّةَ.
تسجد، وبقدرة قادر تنهض كالمصلّيِن ما بين المدّ والجَزْر
لله أكبر، لله أكبر، لله أكبر.
لقد أيقنت أنّ الهوادي آمنت بالإنجيل والقرآن دينًا،
وأنا أنظر إليها تركع بخشوع وتعمّ
دِ الشواطئ وتصلّيِ
صلاة الغروب والفجر على الرّمِال ...
...................................................
ومن أعلى درجاتها سمعت الأسماك وسائر الكائنات في
البحر تنادي: “نحن تعمّدَنا وآمنّاَ، وآمن البحر على يدي
شاعر عربيّ"
.

                                                                                          [من قصيدة البحر]


والشَّاعر بعض نبيٍّ.. فيه كآبة. وهمّ معاناة. كالبحر هو، مستودع مَرجان. أسرار وذكريات. لقد انهزم الفرح وانكسر الأمل، قال البعلبكيُّ:

"إغسل يا بحر إغسل
شواطئك الرَّمليّة المهترئة
فالآمال التي كانت تملؤني انسربت
ولن ينبض فيها عرق بعد اليوم".

                                                                                       [من قصيدة: إغسل، إغسل، إغسل]
حتّى إذا استفاقت في نفسه أمجاد، ولبنان مجد وغار، نقول: أينك جبران، ويا أمين الريحانيّ، ويا ميخائيل نعيمه. أينك طاغور. ها الحيدريّ جودت رستم، أتاكم شاعرًا فارسًا، من تاريخ لبنان والعرب. على نبل أصالة وعريق عروبيّةَ. وهو اللبنانيّ الهَّويّة والهوى، يجمع في قاموسه الشِّعْريّ مجد بلاده:
فهذا لبنان السَّماويّ الأزليّ والفردوس المحروس بفرسان المجد. وهو يسكن الجمال والأحلام والشِّعْر، يُنشده جودت حيدر:

"لا يسحرني شيء، كما هذي الرؤى التي تزداد فتنةً
أمامها يتفتّحَ قلبي، أتلاشى، تملؤني البراءة.
حيث الجمال والأحلام تتلاحم فيه كما الشِّعْر
هوذا لبنان قلب العالم
وأرزه السَّرمديّ
عَلَم حريّة يرفرف أبدًا
بديمقراطية من دون عرش"

                                                                                                                [من قصيدة: لبنان]

هي ديمقراطية الحريّةَ اللبنانيّةَ. بضاعة لبنان الوطن الحضاريّ في الوجود والديمومة. وهذي بعلبك بكلِّ أمجادها وهياكلها تشرق في شِعْر الحيدري:

"هنا تموت الأيام ويموت الإنسان وتبقى عُمُد البقاء مع الزمان قيثارة الرّيِح، تندف مع الرّيِح ألحان الطّيِب ..."

                                                                                                                [من مقطوعة: بعلبك]

وتلك بيروت وقد أكلتها النيران وسكنها الدّمَار، كطائر الفينيق تقوم من رمادها، شمسًا للغد العظيم.

                                                                                                               [راجع قصيدة: بيروت]
وهاتيك روما والشّاعر جون كيتس. وبينهما هنيبعل بطلنا القرطاجيّ. وهناك الشّاعران شلّلِي واللورد بيرون، شاعرا الرومانسيّة والحكمة.
وهنالك روبرت فروست، والصائغ الأمهر عزرا باوند؛ شاعر الصياغة والمهارة، وثمّة المهاتما غاندي، ونابوليون ... و... يجتمعون في دارة جودت حَيْدر، في شِعْر عالميِّ إنسانيّ حضاريّ، يرفع للحريّة عَلَمًا، وللسلام يقيم قصرًا.
يا لِرؤية الشَّاعر ورؤياه، تزاوج الصَّوت والحِسّ هما في بناءٍ فنيٍّ رومانسيٍّ رمزيٍّ على كلاسيكيّةَ أنيقة في لغةٍ صافية، حيث تتصادى "ميلوديا" الأنغام والكلمات، كما البركان حينًا، وحينًا كما الشَّمس في رائعة النّهَار ... وأحيانًا أُخَر كما الضَّوع في بوح المئين. وجودت حيدر يقول: "هذا المسار خذ به كما أتى، ولكن ترى الإشارة. لقد ذرّت الرّيِح رموزها على جبينك .. إنّهَا رسالة".
"إنْ عصت عليك / فهناك عرّاف عجوز يقرأها مطبوعة في راحتيك/ إصغِ جيّدًِا لما يقول / ثمّةَ عبارة تنتهي بنقطة البداية / وتبدأ من نقطة النهاية / نقاط استراحة على الطريق نحو الرّاحة / وعلى جسر السّ نِين تتجمّع النّقِاط.
“إنّها نهاية المطاف / هناك تعطى الإجازة / موقّعَة / مؤرَّخة / وتتحجّر / لاسمك بطاقة في القطار / إلتفت إلى الوراء إلى الدّخان يسافر / علّك تلمح ذكرى / من هذه الرّحِلة القصيدة / حفنة رماد / على الأرض الصغيرة .." [عن "السياسة" الكويتيّة]

يكتب جودة حيدر جزءًا من ملحمة الخلق، في سرِّ الحياة، في سرّ المصير. هل الإنسان هباء؟ "كلّكُم لآدم وآدم من تراب". و"اذكر يا إنسان أنّكَ تراب وإلى التّرُاب تعود".أو كما جاء في سفر التّكَوين: "... فأجاب ابراهيم: ما بالي أكلّمِ سيّدِي هذا الكلام، وأنا تراب ورماد..."

 

حتّى إذا استبدّ الوجد الصوفيّ بشاعرنا جودت حيدر، ناجى "أورفيوس":

"آهِ، أورفيوس! سُلَّ نياطَ قلبي
واجعلها أوتارًا في قيثارك.

واعزف عليها "ميلوديا" رغباتي

ودعني أصغي إلى أغنية السّنين الخوالي

وليتوهّج العالم بالموسيقى. فالأوقات تتوالد.. وتتجدّد".

                                         [من قصيدة: أورفيوس]

وهكذا يميل النجيُّ على النجيِّ. والمرأة واحدة الحُبّ والزَّمان، وقد "ولدت من عيون الشّاعر وحطّت في قلبه، في داخله، كما الشّمس في الدنيا. والشّاعر يحيا بالمرأة وبها يموت". ومن أجلها يكون الشِّعْر عند جودت حيدر:

"جمال وحُبّ وعشق وهوى وعذاب وأَلَم وإرهاق ..." والشِّعْر فكر يفجّر ينابيع المعرفة ويكتشف المعاني حضاريّاً. والشّاعر "ليُعلّمِ حقيقة الحقيقة وحلاوتها، وللنّقُّاَد آراؤهم".
ويستحضر الحيدريُّ البعلبكيُّ الملاكَ "إسرافيل"، النافخ في الصُّوْر يوم القيامة، لينغِّم "بهرمونيا" السَّعادة السامية ألحان السَّماوات علَّ الأنام يسمعون شجيّ أنغام السماء. ولعلّ ربات الشِّعْر تنقل الشّاعر من كوكب إلى كوكب، فيغنّيِ مع "أبوللو" إله الشِّعْر عازفًا على قيثاره!"

                                                                                        [راجع قصيدة: "اسرافيل"]

وتستبدّ الأخيلة بالشّاعر عَوْدًا إلى مدينة الشّمس "بعلبكّ" علّ شمس الحياة توقظ الأرض فيحيا البذار. وتكون عودة الشّاعر!.
وهل يهبط الأمل من عليائه ويطوّحِ النَّسر، كطائر "البطروس" عند "بودلير" حيث تُثقل جناحاه فيصير طريدة. يا لِلأمل الضَّائع: "أَسَراب صحراء هو، أم ومضة زائفة .. أين الزمان والحلم يقظة ومنام ... مسرعين نترك وراءنا الأيام والسّنِين. لنقع في نفق الزمان فيصارع الموتُ الموتَ، من دون أمل. من دون خيار، من دون أي شيء على الإطلاق".
                                                                                       [راجع قصيدة: الأمل الضائع]
هذا الشَّاعر الشُّموليّ،ُ صارع السّنِين. لا كما "دون كيشوت"، بل كبطل من الأساطير القديمة، وسافر على أجنحة الشِّعْر، على رَندحات موسيقى، وأنغام رباب بعلبكيّةَ لبنانيّةَ. واستراح فوق صهوة الرّيِح. صبر كثيرًا، فكان كالنبيّ "أيّوُب". وقد رُزئ بِوَلَدِه وحبيبته. هذا الشّاعر، وُلِدَ في قلب الشّعْر فكان لمعةً وعَبْرة وعِبرة. وقد قال: "حبّذَا سُلّمٌَ نرقى به الشِّعْر إلى السماء / نخطّ على راية الدّهَر أسماء أولئك الأبطال / مَنْ جعلوا جسومهم سلاحًا/ ليموتوا/ليَحيَوا!"

وقد عاد ترابه إلى التُّراب، في أفياء هياكل بعلبكَّ ورياضها. وقد أحَبَّ لبنان الشَّاعر والحضارة والتاريخ. تعمّدَ بماء مدينة الشَّمس، وتعطّر بخزامى غياضها، ينادي من وراء الزمان، لبنان الشِّعْر والحريّة باقٍ "كسيوف الشُّعراء بالفكر الثاقب الوضّاح".
 

البعلبكيّ هذا، المتغرّبِ أبدًا في اللّغُة، وتعاسيف الزَّمان وأهوية المكان، السَّاكن الأمداء والأبعاد، الهاجس بالإنسان والحريّةَ والسَّلام، الحالم بعظمة لبنان والشِّعْر والإبداع ... إلى بعلبكّ المآب. فاذكر مع جودت حيدر: "صهيل الخيل، وهمس العذارى، وحنين الأحباب. وعند الوداع، قف بشجاعة قبل الغروب، واستغفر لله عند الغياب". وقل: حقّاً، لقد كانَ شاعرًا حضاريًّا

 

استندت هذه الدراسة إلى مصادر ومراجع من:

  • جودت حيدر: كتابه "Voices"
  • وكتاب "101Selected Poems "
  • وكتاب "مشوار العمر"
  • وإلى كتابات وأحاديث ومقالات وندوات في صفحات من صُحُف في عهدة كريمته "شاهينة حيدر عسيران"، ومحفوظات المركز التربويّ للبحوث والإنماء – بيروت.

 

جودت حيدر 1905- 2006 شاعرًا حضاريّاً

البروفسور منيف موسى أستاذ جامعي سابقًا جودت حيدر (1905- 2006)

شاعرًا حضاريّاً

 

 

وكان حُبٌّ، من سهلٍ في بقاع الخير، يروّيِ العطاش إلى الحريّةَ في نضال الأباة الميامين، وهم في مضارب العِزِّ قائمون، يغلسون الضَّوء فجر جهاد. ما هابهم أجنبيّ،ٌ ولا روَّعهم ظالم، والعسكر على الأبواب. و"الرُّستم" يمتشق السَّيف، وحصانه أصيل، وبعلبكّ تقوم من الآثار عملاقًا رخاميّاً. قوَّة الحقّ هي، وصلابة اليقين؛ أنْ قوموا – آل حيدر – فأنتم من أهل البيت حيادرة عليّ (ع). وكأنّ كربلاء الجديدة قد تشظّى غبارها على أبواب "الباب العالي"، والفرسان في حومة "العاصي" سيوف لبنان. وهم في الولاء لبنانيّوُن أُصلاء، والعروبة لسانهم والضَّاد. والغمباز لبوس الأحرار في ارتداء الثّوَرة الممانعة التّتَريك.
وإذا الدّهشة تبزغ من قمر فوق جبل حرمون قبالة صّنِّيِن في الحدّ الآخر من لبنان، كأنّ تعويذة من عالم "عبقر" قد وُشِمَتْ على جبين ذاك القمر، فإذا "جودت" متفسّخِ بين الوطن والمنفى روحًا وجسدًا ... فيتعالى على القهر، ويعاند "برَّ الأناضول"، ليرتع فيما بعد، وراء البحار، في دنيا لله الواسعة. فلا تحمله باريس، ولا تسعه نيويورك، وأندادها .. يتثاقف مع المدى الآخر بين الأزرق والأخضر، فيحمل الأرز عَلَمًا إلى دنيا الانتشار. ويرطن بلغة "العم سام" ويكون شِعْر من لبنان. أرزيّ المَحْتِد، عربيّ الانتماء، مشرقيّ السّمِات. وإذا خانته "الضَّاد" وعصت عليه بأمر الغربة والتغرُّب، فجودت حيدر يُلْبِسُ "السكسونيّةَ – الأميركيّةَ" عباءة قرشيّة نجديّةَ حجازيّةَ، فيها رائحة لبنان وطعمه ولونه. والشِّعْر معه فيّاَض هدير: يرتفع عمودًا سابعًا في بعلبكَّ يطاول "برج إيڤل" الباريسيّ و"تمثال الحريّةَ" النيويوركيّ.َ والحُرُّ مهما باعدت به المسافات، جذوره ثابتة في السَّهل راسخة في الجبل، والبحر من أصابع راحتيه "اصطخاب وارتطام"، وحكاياه وشوشات جنّيِّاَت "سيرينيّاَت". وبيروت البحر والجبل دنيا الشَّرق والغرب لؤلؤة الشاطئ المتوسّطِيّ الشَّرقيّ. والشَّاعر يتسلَّق جبال المعرفة، "معرّجًا بين الأشواك، والصُّخور المسنّنَة" فطريق الطّمُوح شاق، والتّوَقّلُ في مراقي المجد يُصعّدِ به، وهو للفكر صديق، فأشعاره "ما كانت يومًا إلاّ خيول بحار"، صهيلها "أصوات" و"اصداء"، والرّيح مواكب غيم، والكون إبداع، وللشِّعْر أسرار، وللفكر إلْف نهار ...

وكان حُبٌّ. و"المليحة" في الخمار عروس إلهام. وكان رحيل. و"عندليب الغاب" يُنشد ألحان الطّيِب، حتّى يغيب القمر، ويُطلّ من المغيب "شمسًا وإذا الذكرى رجعت إلى باطن الأرض جسدًا، وروحًا إلى السَّماء". تلك "المليحة" الحسناء، كالفرات فاضت، وجَفّت كينبوع أصابه الحسد، فغاض الفرات. والشَّاعر ينفخ في مزماره كما "أورفيوس": "حبيبتي لا تحزني، فالتّلَاقي هناك. والخلد سرمد، والإياب عاصفة هبوب في لحن العاشقين" قال. وقال: "كلّمَا رفَّ الهوى أدركتُ معنى الأسى وكالشمس عيشنا كان طراوة، وصفاءً عند الغروب".

وكان رحيل ... والحُبُّ ذكرى أضحى وأحلامًا، وأنّاَت غنج وحنين. و"المليحة" "الميكولونكوليك" لوحة رثاء في ظلال الصَّفصاف والزَّيزفون. والشِّعْر صديق إبداع، وإيقاع موسيقى في سُلّمَ الكلمات، وعمود فلسفة فوق خدّ الزمان. "ومضة فكر والتهاب شعور" قال، والكلاسيكيّةَ ليست إلى انتهاء. الشِّعْر فكر ولغة، وهو مقام. والكَلِمُ نَغَم ورنين، على حدّ "النهاوند" و"الأصفهان" و"الصبا" و"الرَّصد". والبعلبكيّةَ تهاويد هوادج وشكيم أفراس.

عجبًا هذا الشَّاعر المترامي الأبعاد الآتي من تراب "بقاع الخير" ينهض للبحر خدينًا أو جارًا. يا لِلْبحر في شِعْر "بقاعيِّ"، يقول:

"... وانظر في الأفق إلى الهوادي، في البحر عطش للحريّةَ.
تسجد، وبقدرة قادر تنهض كالمصلّيِن ما بين المدّ والجَزْر
لله أكبر، لله أكبر، لله أكبر.
لقد أيقنت أنّ الهوادي آمنت بالإنجيل والقرآن دينًا،
وأنا أنظر إليها تركع بخشوع وتعمّ
دِ الشواطئ وتصلّيِ
صلاة الغروب والفجر على الرّمِال ...
...................................................
ومن أعلى درجاتها سمعت الأسماك وسائر الكائنات في
البحر تنادي: “نحن تعمّدَنا وآمنّاَ، وآمن البحر على يدي
شاعر عربيّ"
.

                                                                                          [من قصيدة البحر]


والشَّاعر بعض نبيٍّ.. فيه كآبة. وهمّ معاناة. كالبحر هو، مستودع مَرجان. أسرار وذكريات. لقد انهزم الفرح وانكسر الأمل، قال البعلبكيُّ:

"إغسل يا بحر إغسل
شواطئك الرَّمليّة المهترئة
فالآمال التي كانت تملؤني انسربت
ولن ينبض فيها عرق بعد اليوم".

                                                                                       [من قصيدة: إغسل، إغسل، إغسل]
حتّى إذا استفاقت في نفسه أمجاد، ولبنان مجد وغار، نقول: أينك جبران، ويا أمين الريحانيّ، ويا ميخائيل نعيمه. أينك طاغور. ها الحيدريّ جودت رستم، أتاكم شاعرًا فارسًا، من تاريخ لبنان والعرب. على نبل أصالة وعريق عروبيّةَ. وهو اللبنانيّ الهَّويّة والهوى، يجمع في قاموسه الشِّعْريّ مجد بلاده:
فهذا لبنان السَّماويّ الأزليّ والفردوس المحروس بفرسان المجد. وهو يسكن الجمال والأحلام والشِّعْر، يُنشده جودت حيدر:

"لا يسحرني شيء، كما هذي الرؤى التي تزداد فتنةً
أمامها يتفتّحَ قلبي، أتلاشى، تملؤني البراءة.
حيث الجمال والأحلام تتلاحم فيه كما الشِّعْر
هوذا لبنان قلب العالم
وأرزه السَّرمديّ
عَلَم حريّة يرفرف أبدًا
بديمقراطية من دون عرش"

                                                                                                                [من قصيدة: لبنان]

هي ديمقراطية الحريّةَ اللبنانيّةَ. بضاعة لبنان الوطن الحضاريّ في الوجود والديمومة. وهذي بعلبك بكلِّ أمجادها وهياكلها تشرق في شِعْر الحيدري:

"هنا تموت الأيام ويموت الإنسان وتبقى عُمُد البقاء مع الزمان قيثارة الرّيِح، تندف مع الرّيِح ألحان الطّيِب ..."

                                                                                                                [من مقطوعة: بعلبك]

وتلك بيروت وقد أكلتها النيران وسكنها الدّمَار، كطائر الفينيق تقوم من رمادها، شمسًا للغد العظيم.

                                                                                                               [راجع قصيدة: بيروت]
وهاتيك روما والشّاعر جون كيتس. وبينهما هنيبعل بطلنا القرطاجيّ. وهناك الشّاعران شلّلِي واللورد بيرون، شاعرا الرومانسيّة والحكمة.
وهنالك روبرت فروست، والصائغ الأمهر عزرا باوند؛ شاعر الصياغة والمهارة، وثمّة المهاتما غاندي، ونابوليون ... و... يجتمعون في دارة جودت حَيْدر، في شِعْر عالميِّ إنسانيّ حضاريّ، يرفع للحريّة عَلَمًا، وللسلام يقيم قصرًا.
يا لِرؤية الشَّاعر ورؤياه، تزاوج الصَّوت والحِسّ هما في بناءٍ فنيٍّ رومانسيٍّ رمزيٍّ على كلاسيكيّةَ أنيقة في لغةٍ صافية، حيث تتصادى "ميلوديا" الأنغام والكلمات، كما البركان حينًا، وحينًا كما الشَّمس في رائعة النّهَار ... وأحيانًا أُخَر كما الضَّوع في بوح المئين. وجودت حيدر يقول: "هذا المسار خذ به كما أتى، ولكن ترى الإشارة. لقد ذرّت الرّيِح رموزها على جبينك .. إنّهَا رسالة".
"إنْ عصت عليك / فهناك عرّاف عجوز يقرأها مطبوعة في راحتيك/ إصغِ جيّدًِا لما يقول / ثمّةَ عبارة تنتهي بنقطة البداية / وتبدأ من نقطة النهاية / نقاط استراحة على الطريق نحو الرّاحة / وعلى جسر السّ نِين تتجمّع النّقِاط.
“إنّها نهاية المطاف / هناك تعطى الإجازة / موقّعَة / مؤرَّخة / وتتحجّر / لاسمك بطاقة في القطار / إلتفت إلى الوراء إلى الدّخان يسافر / علّك تلمح ذكرى / من هذه الرّحِلة القصيدة / حفنة رماد / على الأرض الصغيرة .." [عن "السياسة" الكويتيّة]

يكتب جودة حيدر جزءًا من ملحمة الخلق، في سرِّ الحياة، في سرّ المصير. هل الإنسان هباء؟ "كلّكُم لآدم وآدم من تراب". و"اذكر يا إنسان أنّكَ تراب وإلى التّرُاب تعود".أو كما جاء في سفر التّكَوين: "... فأجاب ابراهيم: ما بالي أكلّمِ سيّدِي هذا الكلام، وأنا تراب ورماد..."

 

حتّى إذا استبدّ الوجد الصوفيّ بشاعرنا جودت حيدر، ناجى "أورفيوس":

"آهِ، أورفيوس! سُلَّ نياطَ قلبي
واجعلها أوتارًا في قيثارك.

واعزف عليها "ميلوديا" رغباتي

ودعني أصغي إلى أغنية السّنين الخوالي

وليتوهّج العالم بالموسيقى. فالأوقات تتوالد.. وتتجدّد".

                                         [من قصيدة: أورفيوس]

وهكذا يميل النجيُّ على النجيِّ. والمرأة واحدة الحُبّ والزَّمان، وقد "ولدت من عيون الشّاعر وحطّت في قلبه، في داخله، كما الشّمس في الدنيا. والشّاعر يحيا بالمرأة وبها يموت". ومن أجلها يكون الشِّعْر عند جودت حيدر:

"جمال وحُبّ وعشق وهوى وعذاب وأَلَم وإرهاق ..." والشِّعْر فكر يفجّر ينابيع المعرفة ويكتشف المعاني حضاريّاً. والشّاعر "ليُعلّمِ حقيقة الحقيقة وحلاوتها، وللنّقُّاَد آراؤهم".
ويستحضر الحيدريُّ البعلبكيُّ الملاكَ "إسرافيل"، النافخ في الصُّوْر يوم القيامة، لينغِّم "بهرمونيا" السَّعادة السامية ألحان السَّماوات علَّ الأنام يسمعون شجيّ أنغام السماء. ولعلّ ربات الشِّعْر تنقل الشّاعر من كوكب إلى كوكب، فيغنّيِ مع "أبوللو" إله الشِّعْر عازفًا على قيثاره!"

                                                                                        [راجع قصيدة: "اسرافيل"]

وتستبدّ الأخيلة بالشّاعر عَوْدًا إلى مدينة الشّمس "بعلبكّ" علّ شمس الحياة توقظ الأرض فيحيا البذار. وتكون عودة الشّاعر!.
وهل يهبط الأمل من عليائه ويطوّحِ النَّسر، كطائر "البطروس" عند "بودلير" حيث تُثقل جناحاه فيصير طريدة. يا لِلأمل الضَّائع: "أَسَراب صحراء هو، أم ومضة زائفة .. أين الزمان والحلم يقظة ومنام ... مسرعين نترك وراءنا الأيام والسّنِين. لنقع في نفق الزمان فيصارع الموتُ الموتَ، من دون أمل. من دون خيار، من دون أي شيء على الإطلاق".
                                                                                       [راجع قصيدة: الأمل الضائع]
هذا الشَّاعر الشُّموليّ،ُ صارع السّنِين. لا كما "دون كيشوت"، بل كبطل من الأساطير القديمة، وسافر على أجنحة الشِّعْر، على رَندحات موسيقى، وأنغام رباب بعلبكيّةَ لبنانيّةَ. واستراح فوق صهوة الرّيِح. صبر كثيرًا، فكان كالنبيّ "أيّوُب". وقد رُزئ بِوَلَدِه وحبيبته. هذا الشّاعر، وُلِدَ في قلب الشّعْر فكان لمعةً وعَبْرة وعِبرة. وقد قال: "حبّذَا سُلّمٌَ نرقى به الشِّعْر إلى السماء / نخطّ على راية الدّهَر أسماء أولئك الأبطال / مَنْ جعلوا جسومهم سلاحًا/ ليموتوا/ليَحيَوا!"

وقد عاد ترابه إلى التُّراب، في أفياء هياكل بعلبكَّ ورياضها. وقد أحَبَّ لبنان الشَّاعر والحضارة والتاريخ. تعمّدَ بماء مدينة الشَّمس، وتعطّر بخزامى غياضها، ينادي من وراء الزمان، لبنان الشِّعْر والحريّة باقٍ "كسيوف الشُّعراء بالفكر الثاقب الوضّاح".
 

البعلبكيّ هذا، المتغرّبِ أبدًا في اللّغُة، وتعاسيف الزَّمان وأهوية المكان، السَّاكن الأمداء والأبعاد، الهاجس بالإنسان والحريّةَ والسَّلام، الحالم بعظمة لبنان والشِّعْر والإبداع ... إلى بعلبكّ المآب. فاذكر مع جودت حيدر: "صهيل الخيل، وهمس العذارى، وحنين الأحباب. وعند الوداع، قف بشجاعة قبل الغروب، واستغفر لله عند الغياب". وقل: حقّاً، لقد كانَ شاعرًا حضاريًّا

 

استندت هذه الدراسة إلى مصادر ومراجع من:

  • جودت حيدر: كتابه "Voices"
  • وكتاب "101Selected Poems "
  • وكتاب "مشوار العمر"
  • وإلى كتابات وأحاديث ومقالات وندوات في صفحات من صُحُف في عهدة كريمته "شاهينة حيدر عسيران"، ومحفوظات المركز التربويّ للبحوث والإنماء – بيروت.

 

جودت حيدر 1905- 2006 شاعرًا حضاريّاً

البروفسور منيف موسى أستاذ جامعي سابقًا جودت حيدر (1905- 2006)

شاعرًا حضاريّاً

 

 

وكان حُبٌّ، من سهلٍ في بقاع الخير، يروّيِ العطاش إلى الحريّةَ في نضال الأباة الميامين، وهم في مضارب العِزِّ قائمون، يغلسون الضَّوء فجر جهاد. ما هابهم أجنبيّ،ٌ ولا روَّعهم ظالم، والعسكر على الأبواب. و"الرُّستم" يمتشق السَّيف، وحصانه أصيل، وبعلبكّ تقوم من الآثار عملاقًا رخاميّاً. قوَّة الحقّ هي، وصلابة اليقين؛ أنْ قوموا – آل حيدر – فأنتم من أهل البيت حيادرة عليّ (ع). وكأنّ كربلاء الجديدة قد تشظّى غبارها على أبواب "الباب العالي"، والفرسان في حومة "العاصي" سيوف لبنان. وهم في الولاء لبنانيّوُن أُصلاء، والعروبة لسانهم والضَّاد. والغمباز لبوس الأحرار في ارتداء الثّوَرة الممانعة التّتَريك.
وإذا الدّهشة تبزغ من قمر فوق جبل حرمون قبالة صّنِّيِن في الحدّ الآخر من لبنان، كأنّ تعويذة من عالم "عبقر" قد وُشِمَتْ على جبين ذاك القمر، فإذا "جودت" متفسّخِ بين الوطن والمنفى روحًا وجسدًا ... فيتعالى على القهر، ويعاند "برَّ الأناضول"، ليرتع فيما بعد، وراء البحار، في دنيا لله الواسعة. فلا تحمله باريس، ولا تسعه نيويورك، وأندادها .. يتثاقف مع المدى الآخر بين الأزرق والأخضر، فيحمل الأرز عَلَمًا إلى دنيا الانتشار. ويرطن بلغة "العم سام" ويكون شِعْر من لبنان. أرزيّ المَحْتِد، عربيّ الانتماء، مشرقيّ السّمِات. وإذا خانته "الضَّاد" وعصت عليه بأمر الغربة والتغرُّب، فجودت حيدر يُلْبِسُ "السكسونيّةَ – الأميركيّةَ" عباءة قرشيّة نجديّةَ حجازيّةَ، فيها رائحة لبنان وطعمه ولونه. والشِّعْر معه فيّاَض هدير: يرتفع عمودًا سابعًا في بعلبكَّ يطاول "برج إيڤل" الباريسيّ و"تمثال الحريّةَ" النيويوركيّ.َ والحُرُّ مهما باعدت به المسافات، جذوره ثابتة في السَّهل راسخة في الجبل، والبحر من أصابع راحتيه "اصطخاب وارتطام"، وحكاياه وشوشات جنّيِّاَت "سيرينيّاَت". وبيروت البحر والجبل دنيا الشَّرق والغرب لؤلؤة الشاطئ المتوسّطِيّ الشَّرقيّ. والشَّاعر يتسلَّق جبال المعرفة، "معرّجًا بين الأشواك، والصُّخور المسنّنَة" فطريق الطّمُوح شاق، والتّوَقّلُ في مراقي المجد يُصعّدِ به، وهو للفكر صديق، فأشعاره "ما كانت يومًا إلاّ خيول بحار"، صهيلها "أصوات" و"اصداء"، والرّيح مواكب غيم، والكون إبداع، وللشِّعْر أسرار، وللفكر إلْف نهار ...

وكان حُبٌّ. و"المليحة" في الخمار عروس إلهام. وكان رحيل. و"عندليب الغاب" يُنشد ألحان الطّيِب، حتّى يغيب القمر، ويُطلّ من المغيب "شمسًا وإذا الذكرى رجعت إلى باطن الأرض جسدًا، وروحًا إلى السَّماء". تلك "المليحة" الحسناء، كالفرات فاضت، وجَفّت كينبوع أصابه الحسد، فغاض الفرات. والشَّاعر ينفخ في مزماره كما "أورفيوس": "حبيبتي لا تحزني، فالتّلَاقي هناك. والخلد سرمد، والإياب عاصفة هبوب في لحن العاشقين" قال. وقال: "كلّمَا رفَّ الهوى أدركتُ معنى الأسى وكالشمس عيشنا كان طراوة، وصفاءً عند الغروب".

وكان رحيل ... والحُبُّ ذكرى أضحى وأحلامًا، وأنّاَت غنج وحنين. و"المليحة" "الميكولونكوليك" لوحة رثاء في ظلال الصَّفصاف والزَّيزفون. والشِّعْر صديق إبداع، وإيقاع موسيقى في سُلّمَ الكلمات، وعمود فلسفة فوق خدّ الزمان. "ومضة فكر والتهاب شعور" قال، والكلاسيكيّةَ ليست إلى انتهاء. الشِّعْر فكر ولغة، وهو مقام. والكَلِمُ نَغَم ورنين، على حدّ "النهاوند" و"الأصفهان" و"الصبا" و"الرَّصد". والبعلبكيّةَ تهاويد هوادج وشكيم أفراس.

عجبًا هذا الشَّاعر المترامي الأبعاد الآتي من تراب "بقاع الخير" ينهض للبحر خدينًا أو جارًا. يا لِلْبحر في شِعْر "بقاعيِّ"، يقول:

"... وانظر في الأفق إلى الهوادي، في البحر عطش للحريّةَ.
تسجد، وبقدرة قادر تنهض كالمصلّيِن ما بين المدّ والجَزْر
لله أكبر، لله أكبر، لله أكبر.
لقد أيقنت أنّ الهوادي آمنت بالإنجيل والقرآن دينًا،
وأنا أنظر إليها تركع بخشوع وتعمّ
دِ الشواطئ وتصلّيِ
صلاة الغروب والفجر على الرّمِال ...
...................................................
ومن أعلى درجاتها سمعت الأسماك وسائر الكائنات في
البحر تنادي: “نحن تعمّدَنا وآمنّاَ، وآمن البحر على يدي
شاعر عربيّ"
.

                                                                                          [من قصيدة البحر]


والشَّاعر بعض نبيٍّ.. فيه كآبة. وهمّ معاناة. كالبحر هو، مستودع مَرجان. أسرار وذكريات. لقد انهزم الفرح وانكسر الأمل، قال البعلبكيُّ:

"إغسل يا بحر إغسل
شواطئك الرَّمليّة المهترئة
فالآمال التي كانت تملؤني انسربت
ولن ينبض فيها عرق بعد اليوم".

                                                                                       [من قصيدة: إغسل، إغسل، إغسل]
حتّى إذا استفاقت في نفسه أمجاد، ولبنان مجد وغار، نقول: أينك جبران، ويا أمين الريحانيّ، ويا ميخائيل نعيمه. أينك طاغور. ها الحيدريّ جودت رستم، أتاكم شاعرًا فارسًا، من تاريخ لبنان والعرب. على نبل أصالة وعريق عروبيّةَ. وهو اللبنانيّ الهَّويّة والهوى، يجمع في قاموسه الشِّعْريّ مجد بلاده:
فهذا لبنان السَّماويّ الأزليّ والفردوس المحروس بفرسان المجد. وهو يسكن الجمال والأحلام والشِّعْر، يُنشده جودت حيدر:

"لا يسحرني شيء، كما هذي الرؤى التي تزداد فتنةً
أمامها يتفتّحَ قلبي، أتلاشى، تملؤني البراءة.
حيث الجمال والأحلام تتلاحم فيه كما الشِّعْر
هوذا لبنان قلب العالم
وأرزه السَّرمديّ
عَلَم حريّة يرفرف أبدًا
بديمقراطية من دون عرش"

                                                                                                                [من قصيدة: لبنان]

هي ديمقراطية الحريّةَ اللبنانيّةَ. بضاعة لبنان الوطن الحضاريّ في الوجود والديمومة. وهذي بعلبك بكلِّ أمجادها وهياكلها تشرق في شِعْر الحيدري:

"هنا تموت الأيام ويموت الإنسان وتبقى عُمُد البقاء مع الزمان قيثارة الرّيِح، تندف مع الرّيِح ألحان الطّيِب ..."

                                                                                                                [من مقطوعة: بعلبك]

وتلك بيروت وقد أكلتها النيران وسكنها الدّمَار، كطائر الفينيق تقوم من رمادها، شمسًا للغد العظيم.

                                                                                                               [راجع قصيدة: بيروت]
وهاتيك روما والشّاعر جون كيتس. وبينهما هنيبعل بطلنا القرطاجيّ. وهناك الشّاعران شلّلِي واللورد بيرون، شاعرا الرومانسيّة والحكمة.
وهنالك روبرت فروست، والصائغ الأمهر عزرا باوند؛ شاعر الصياغة والمهارة، وثمّة المهاتما غاندي، ونابوليون ... و... يجتمعون في دارة جودت حَيْدر، في شِعْر عالميِّ إنسانيّ حضاريّ، يرفع للحريّة عَلَمًا، وللسلام يقيم قصرًا.
يا لِرؤية الشَّاعر ورؤياه، تزاوج الصَّوت والحِسّ هما في بناءٍ فنيٍّ رومانسيٍّ رمزيٍّ على كلاسيكيّةَ أنيقة في لغةٍ صافية، حيث تتصادى "ميلوديا" الأنغام والكلمات، كما البركان حينًا، وحينًا كما الشَّمس في رائعة النّهَار ... وأحيانًا أُخَر كما الضَّوع في بوح المئين. وجودت حيدر يقول: "هذا المسار خذ به كما أتى، ولكن ترى الإشارة. لقد ذرّت الرّيِح رموزها على جبينك .. إنّهَا رسالة".
"إنْ عصت عليك / فهناك عرّاف عجوز يقرأها مطبوعة في راحتيك/ إصغِ جيّدًِا لما يقول / ثمّةَ عبارة تنتهي بنقطة البداية / وتبدأ من نقطة النهاية / نقاط استراحة على الطريق نحو الرّاحة / وعلى جسر السّ نِين تتجمّع النّقِاط.
“إنّها نهاية المطاف / هناك تعطى الإجازة / موقّعَة / مؤرَّخة / وتتحجّر / لاسمك بطاقة في القطار / إلتفت إلى الوراء إلى الدّخان يسافر / علّك تلمح ذكرى / من هذه الرّحِلة القصيدة / حفنة رماد / على الأرض الصغيرة .." [عن "السياسة" الكويتيّة]

يكتب جودة حيدر جزءًا من ملحمة الخلق، في سرِّ الحياة، في سرّ المصير. هل الإنسان هباء؟ "كلّكُم لآدم وآدم من تراب". و"اذكر يا إنسان أنّكَ تراب وإلى التّرُاب تعود".أو كما جاء في سفر التّكَوين: "... فأجاب ابراهيم: ما بالي أكلّمِ سيّدِي هذا الكلام، وأنا تراب ورماد..."

 

حتّى إذا استبدّ الوجد الصوفيّ بشاعرنا جودت حيدر، ناجى "أورفيوس":

"آهِ، أورفيوس! سُلَّ نياطَ قلبي
واجعلها أوتارًا في قيثارك.

واعزف عليها "ميلوديا" رغباتي

ودعني أصغي إلى أغنية السّنين الخوالي

وليتوهّج العالم بالموسيقى. فالأوقات تتوالد.. وتتجدّد".

                                         [من قصيدة: أورفيوس]

وهكذا يميل النجيُّ على النجيِّ. والمرأة واحدة الحُبّ والزَّمان، وقد "ولدت من عيون الشّاعر وحطّت في قلبه، في داخله، كما الشّمس في الدنيا. والشّاعر يحيا بالمرأة وبها يموت". ومن أجلها يكون الشِّعْر عند جودت حيدر:

"جمال وحُبّ وعشق وهوى وعذاب وأَلَم وإرهاق ..." والشِّعْر فكر يفجّر ينابيع المعرفة ويكتشف المعاني حضاريّاً. والشّاعر "ليُعلّمِ حقيقة الحقيقة وحلاوتها، وللنّقُّاَد آراؤهم".
ويستحضر الحيدريُّ البعلبكيُّ الملاكَ "إسرافيل"، النافخ في الصُّوْر يوم القيامة، لينغِّم "بهرمونيا" السَّعادة السامية ألحان السَّماوات علَّ الأنام يسمعون شجيّ أنغام السماء. ولعلّ ربات الشِّعْر تنقل الشّاعر من كوكب إلى كوكب، فيغنّيِ مع "أبوللو" إله الشِّعْر عازفًا على قيثاره!"

                                                                                        [راجع قصيدة: "اسرافيل"]

وتستبدّ الأخيلة بالشّاعر عَوْدًا إلى مدينة الشّمس "بعلبكّ" علّ شمس الحياة توقظ الأرض فيحيا البذار. وتكون عودة الشّاعر!.
وهل يهبط الأمل من عليائه ويطوّحِ النَّسر، كطائر "البطروس" عند "بودلير" حيث تُثقل جناحاه فيصير طريدة. يا لِلأمل الضَّائع: "أَسَراب صحراء هو، أم ومضة زائفة .. أين الزمان والحلم يقظة ومنام ... مسرعين نترك وراءنا الأيام والسّنِين. لنقع في نفق الزمان فيصارع الموتُ الموتَ، من دون أمل. من دون خيار، من دون أي شيء على الإطلاق".
                                                                                       [راجع قصيدة: الأمل الضائع]
هذا الشَّاعر الشُّموليّ،ُ صارع السّنِين. لا كما "دون كيشوت"، بل كبطل من الأساطير القديمة، وسافر على أجنحة الشِّعْر، على رَندحات موسيقى، وأنغام رباب بعلبكيّةَ لبنانيّةَ. واستراح فوق صهوة الرّيِح. صبر كثيرًا، فكان كالنبيّ "أيّوُب". وقد رُزئ بِوَلَدِه وحبيبته. هذا الشّاعر، وُلِدَ في قلب الشّعْر فكان لمعةً وعَبْرة وعِبرة. وقد قال: "حبّذَا سُلّمٌَ نرقى به الشِّعْر إلى السماء / نخطّ على راية الدّهَر أسماء أولئك الأبطال / مَنْ جعلوا جسومهم سلاحًا/ ليموتوا/ليَحيَوا!"

وقد عاد ترابه إلى التُّراب، في أفياء هياكل بعلبكَّ ورياضها. وقد أحَبَّ لبنان الشَّاعر والحضارة والتاريخ. تعمّدَ بماء مدينة الشَّمس، وتعطّر بخزامى غياضها، ينادي من وراء الزمان، لبنان الشِّعْر والحريّة باقٍ "كسيوف الشُّعراء بالفكر الثاقب الوضّاح".
 

البعلبكيّ هذا، المتغرّبِ أبدًا في اللّغُة، وتعاسيف الزَّمان وأهوية المكان، السَّاكن الأمداء والأبعاد، الهاجس بالإنسان والحريّةَ والسَّلام، الحالم بعظمة لبنان والشِّعْر والإبداع ... إلى بعلبكّ المآب. فاذكر مع جودت حيدر: "صهيل الخيل، وهمس العذارى، وحنين الأحباب. وعند الوداع، قف بشجاعة قبل الغروب، واستغفر لله عند الغياب". وقل: حقّاً، لقد كانَ شاعرًا حضاريًّا

 

استندت هذه الدراسة إلى مصادر ومراجع من:

  • جودت حيدر: كتابه "Voices"
  • وكتاب "101Selected Poems "
  • وكتاب "مشوار العمر"
  • وإلى كتابات وأحاديث ومقالات وندوات في صفحات من صُحُف في عهدة كريمته "شاهينة حيدر عسيران"، ومحفوظات المركز التربويّ للبحوث والإنماء – بيروت.