ميشال شيحا فيلسوف الميثاق الوطني ومهندس النظام الحر
ميشال شيحا فيلسوف الميثاق الوطني ومهندس النظام الحر
إذا كانت الأوطان والشعوب والأُمم تقوم وتختصر برجالات يتحولون إلى رموز نشأتها وتطورها، وأبطال انتصاراتها بتوحيد الأرض أو جمع الشمل المتعدد في منظومة موحدة حول قومية عصبية أو عصبية دينية، فتشاد لهم أقواس النصر، لتمر من تحتها العصور والأجيال، أو ترفع لهم الأنصاب فوق الأبراج والقباب يعطيها تقادم الأيام هيبة مع تآكل صخرها أو تلوّن معدنها بمشحة صدئة. فإن ميشال شيحا هو برجنا الثقافي والإنساني والفكري والخُلقي في بناء دولة الاستقلال، ومهندس القضية اللبنانية في صيغة تشاركية بين أقليات تحترم خصوصياتها، وتلتقي جميعها حول جوهر لبنان، موطنًا للحريات.
بقلم واضح ودقيق خط ابن عائلة تجارية ومالية، الصحافي ميشال شيحا أهم صفحات تاريخ لبنان الحديث، ولعله أحد أكبرعمالقته. على هندسة أفكاره بُني وتحدد الكيان وقام النظام ونشأت الصيغة اللبنانية. ونظرًا لقيمتها الفكرية والتاريخية أعادت مؤسسة ميشال شيحا نشر كامل كتاباته في مجموعات متخصصة لمختلف المواضيع الوطنية السياسية والاقتصادية، بالإضافة إلى نتاجه الثقافي والأدبي الرفيع، حملت عناوين: بيت الحقول، تسابيح، محاولات، فلسطين، لبنان في شخصيته وحضوره، بالإضافة إلى كتب في السياسة الداخلية وفي الاقتصاد اللبناني... مجموعة تاريخية ودراسات فكرية رؤيوية تُمكّن الجيل الجديد من الاطلاع على عُمق التراث اللبناني في تاريخ الحضارة الإنسانية، وعلى مراحل نشوء لبنان الكيان والنظام الحر المُتطوّر والمُتفاعل مع محيطه في جمهورياتنا المتعاقبة. ويوم تلقيت من رئيس المؤسسة الرئيس شارل حلو المجموعة الثمينة مع عبارة "باقة رائعة من القصائد والآراء السياسية والاقتصادية لمجد لبنان" شكرته مردّدا إنها " تعيد عزف نشيد الإيمان والرجاء، نشيد الأمس وكل يوم، يرتفع من أعماقنا كما ليؤكد الانتصار على الموت" واهبًا جذوة الحياة للأجيال الجديدة التي لم تُعطَ إدراك جوهر مُسلمات الماضي العريق والتي يقوم عليها الحاضر كما المستقبل".
بيده خط ميشال شيحا الكثير من مواد الدستور والتعديلات، وشدد على ضرورة قراءة دستور الوطن وفهم روحه لا نصه وحسب. بدقة وبُعد نظر، وضع صيغة النظام المتفردة، وهدفه الأسمى بناء نظام ليبرالي حر، لأن الحرية لا تتجزأ، فهي تتجاوز حقلي الدين والسياسة إلى الاقتصاد، حيث يصبح العمل والتجارة وانتقال الأشخاص والرساميل، عملاً ثقافيًاّ في الحوار بين لبنان والعالم، من دون تمييز بين شرق وغرب. وإذا كان لبنان لا يزال ينعم بهذه الحرية حتى اليوم، فلأنها أصبحت ثروته الكبرى، ثروة لا تقاس في ضيق مساحته بل في اتساع عقله. وقد جعلت مسرحه الكون بأسره.
ظلّ ميشال شيحا مرجعًا لكل العهود المتعاقبة. يسهم في صُنع اللحظات اللبنانية الحاسمة، له حضورٌ دائم كليّاً في لبناننا المستمر. وبعد غيابه بسنة عاد ليطل بفكره النيّرعلى الذين لم يعرفوه من قبل بقلم خليل رامز سركيس في صوت الغائب بلغة عربية بليغة تضاهي لغته الفرنسية الرائعة.
كان ميشال شيحا يطل كل يوم بافتتاحية في جريدة "لوجور"، تتناول مختلف الأحداث فيكون لقوله الكلمة الفصل في تطوراتها. ولكن فكره الوطني الشامل تجلّى في محاضراته في "الندوة اللبنانية" وقد جمعها مؤسس الندوة ميشال أسمر وعرَّبها ونشرها في كتاب بعنوان "لبنان في شخصيته وحضوره" احتفل بصدوره عام 1962 في قصر هنري فرعون، وقدمه وزير الخارجية آنذاك فيليب تقلا بقوله: “ليس من السهل الحديث عن ميشال شيحا الذي جمع في شخصه من المؤهلات والكفاءات المنوّعة إلى حدّ التناقض، ولكنه بقدرته العجيبة نجح في التوفيق بينها، وجعلها روافد نهر واحد لهدف واحد هو لبنان”... وأضاف: “استطاع ميشال شيحا المثالي الواقعي في آن أن يُقيمَ، بفضل ذكائه الرحب، جسورًا بين عبقرية الحُلم وعبقرية الواقع، وهو القائل “إن لبنان هو بلدُ الحُلم والواقع معًا"
إنه ثمرة نضال ميشال شيحا ونظرائه على اختلاف نزعاتهم، وهم نخبة عرفت كيف ترتفع إلى مستوى الأحداث والرسالة، فتقي شخصية لبنان، شخصية جمعت الماضي إلى الحاضر وحملت إلى المستقبل عزيمة شعب قديم على بعث أمجاده واستئناف دوره الحيوي في خدمة الحضارة والتقدم.
بدأ ميشال شيحا نشاطه الفكري والوطني عندما هاجر إبّان حرب1914 ، مع الكثيرين من أترابه، إلى الإسكندرية فالتحق فيها بمدرسة الحقوق وأصدر في الوقت ذاته جريدة نصف شهرية باسم لشرح القضية اللبنانية ومتابعتها. وكانت في هذه ''Ebauches ''إيبوش الأثناء قد تألفت ثلاث مجموعات في العالم لدعم القضية اللبنانية والدفاع عنها: مجموعة في القاهرة ضمت يوسف السودا وبشارة الخوري وداود عمون وإميل اده وألفرد نقاش وأمين الجميل وميشال شيحا وسواهم ... ومجموعة في باريس ضمت شكري غانم وشارل دباس وخيرلله خيرلله وسواهم، ومجموعة في نيويورك ضمت الأُخوة مكرزل وإيليا أبو ماضي ومخائيل نعيمه وجبران خليل جبران وسواهم... عملوا بالتنسيق فيما بينهم وبقوة أقلامهم وتأثيراتهم الفاعلة في محيطهم الثقافي والأدبي والسياسي، في سبيل هدف واحد: استقلال لبنان.
في العام 1918 أنشأ مع شارل قرم وإيلي تيان وهكتور خلاط مجلة وكان اسمها برنامج عمل لها يتناول الفكرة اللبنانية '' Phénicie ''فينيقيا بجذورها القديمة وعهودها الحديثة، في الأدب والاقتصاد والسياسة، وأولوا اهتمامًا خاصًا بالآثار مع الأب موتارد وموريس دونان وموريس شهاب، وانشأوا في بيروت مركزًا للآثار العالمية كان أكثر أهمية من مراكز باريس ولندن ونيويورك.
انتخب ميشال شيحا نائبًا عن بيروت في العام 1925 وكان له الدور الفاعل في صياغة الدستور ووضع نصوص القوانين الاقتصادية: ونشرت جريدة ''المعرض الأسبوعية'' في 21 أيلول 1931 أن ميشال شيحا خبر السياسة البرلمانية طوال 4 سنوات فسئم وجوهها وأخذه الغضب على تلوّنها ولما ألح عليه اصدقاؤه في ترشحه لدورة 1929 قال إنه لا يستطيع أن يُغالب مجرى النهر ولا يريد ان ينقلبَ مع كلّ ريح ويسير في كل طريق. ولكن ظروفًا خطيرة أوجبت عليه ان يظلّ على الكرسي... وكانت الأنظار شاخصة إليه في الانتخاب المقبل لرئاسة الجمهورية، إلا أنه صرف طرفه حتى عن هذا المنصب الجليل.
حول دوره في وضع الدستور، وكان مقرر اللجنة اللبنانية لوضع الدستور مع البرلماني القدير شبل دموس. يذكر خليل رامز سركيس في كتابه ''الهواجس الأَقلية'' شيئًا عن مُضادةٍ شَجَر أمرُها بين شيحا وبيهُم في مجلس العُمَرين، كما يقال عن البرلمان الذي يضم عُمَر بَيْهُم وعُمَر داعوق، وذلك أنه في أثناء التباحث النيابي في بعض مواد الدستور احتدت المناقشة بين بيهم وشيحا، وكان شيحا يغرّب وبيهم يشرّقِ، وإذ احتدت المناقشة واتسعت شِقّةَ الخلاف انسحب الرجلان إلى غرفة مجاورة في خلوةِ مُصارحةٍ طويلة كان فيها للحكمة وسلامة الحِسّ الشعبي فصلُ القول والغعل. في لحظةٍ من لحظات الوعي ويقظة الضمير والشعور بالتَبِعات أدرك النائبان أن ما يجمع أهلَ البلد الواحد أهم مما يفرّقِهم، وكان مما قال بيهم لشيحا: “اذا نحن اختلفنا فمن يتفق بعدنا؟ ألا تسري العدوى إلى سواد الشعب، لا غنى لنا عن التفاهم او نُخرب البلاد. الخاسرُ هو الرّابح في بلدٍ مُتَعدّد الطوائف مثل لبنان”. ثم عاد الرجلان إلى الجلسة وقد تفاهما، فأُعلِن الاتفاق على الدستور وعُيّ شِ الوفاق. وعلُم فيما بعد، يضيف سركيس، أن شيحا، مع رهافته اللاتينية كان أصلب موقفًا من بَيهُم في خلوة المصارحة تلك.
في العام 1937 تولى ميشال شيحا إصدار جريدة '"لوجور" التي كان قد أنشأها شارل عمون عام 1934 بهدف شرح القضية اللبنانية إلى اللبنانيين أولاً، وتمكين الفرنسيين من فهم قضية لبنان، وتكون ناطقة بلسان أصدقاء الشيخ بشارة الخوري لأن جريدة ''الأوريان'' التي أنشأها جورج نقاش كانت أقرب إلى الرئيس إميل إده.
ولكن التاريخ المُخلد على شقّ قلمه كان الأوّل من أيلول 1920 ، في هذا التاريخ من السنة التالية كتب افتتاحية في جريدة ''لوريفاي'' بعنوان أول أيلول احتفالاً بذكرى إعلان دولة لبنان الكبير، وظلّ في كل سنة يحتفي بالذكرى بافتتاحية في جريدة"لوجور" بالعنوان ذاته: أول أيلول. آخرها سنة رحيله وبالعنوان ذاته قال:"في 1920 حققنا الكيان، وفي 1943 نلنا الاستقلال" وآلمه أن نسير القهقرى فقال: "إذا كان النسيان آفة الإنسان فإنه لدى الشعوب والدول يعرّض للفناء، فلنبقَ موحّدَين أقلّه على شيء واحد: على حُب لبنان".
ظل ميشال شيحا، بين كبار الصحافيين الذين كان لهم دور كبير في تحقيق الاستقلال، الأكثر حضورًا بأفكاره التي تتخطى الأحداث الآنية لتَستشفّ المستقبل وأخطاره الداهمة. إنه صاحب رؤية ورؤى حول الإنسان والوجود بنظرة ثاقبة إلى الحاضر اللبناني ومستقبله من وحي معرفة الماضي الذي يرقى إلى ستة آلاف سنة من حيث التاريخ والجغرافيا وانفتاح الشعب على العالم. كتبها بما أُوتِيَ من رهافة الاستشفاف وصدق التفكير وصفاء الإيمان، فجاءت حصيلة معايشة عميقة للبنان في أحق خصائصه معايشة كنّزَتها خبرة الحياة والكتاب، وصارت رؤى لهذا الوطن ومقومات، يوم كان في حَيرةٍ من وضعه، فبثها، كتابة وقولاً، لتُقرأ وتفعل فعلها بالأمس واليوم وغدًا وبعد غد، وتعمّ كلّ من يُعنى بمصير لبنان.
تمحورت كتابات ميشال شيحا حول مواضيع: استقلالية الكيان اللبناني، ودور لبنان في محيطه العربي، ومواجهته خطر الجوار الإسرائيلي، وأهمية قِيَمه في حضوره العالمي.
فلسفة صيغته اللبنانية قامت على تجمع الأقليات وتشركتها في نموذج غير موجود في أي بلد آخر. وقد أعطاها مضمونًا فلسفيًاّ وقانونيًاّ سُمّيت فيما بعد بالميثاق الوطني.
في كتابي"حقائق لبنانية" الصادر عام 1960 قلت حول"'المعجزة اللبنانية" كلامًا لميشال شيحا بأن حب المغامرة عند اللبنانيين آخذ بالازدياد بقدر ما هي التطورات الحديثة في العالم والمضاربات الدولية كبيرة، فتتيح له مجالات واسعة للعمل. لأن اللبناني يصدر افكارًا وخدمات، وبما أن تأسيس الصناعات الكبرى ليس بالأمر الممكن لبلد كلبنان، ونظرًا للتزاحم الجنوني بين صناعات الدول الكبرى، فإن لبنان باستطاعته أن يفيد أكثر بتصريف منتوجات تلك الصناعات الهائلة، في مختلف أنحاء العالم بواسطة ما له من شبكة علاقات واسعة، يديرها في جميع بلدان المسكونة.
ويضيف: "حياة لبنان وازدهاره في المستقبل هما في حريته الواسعة، ثمة أشياء عديدة تستطيع الدول الصغيرة أن تستبيحها لنفسها فيما تُحرّم على الدول الكبيرة" . وأضاف: "نحن نعيش في لبنان كما في أوروبا ولكن مدنيتنا لم تُقيدنا بالتشريعات التي تقيدت بها سائر الشعوب الراقية، فنجونا من أمراض التشريع الحقوقي والمالي، واستطعنا أن نستفيد من تقدم الغرب في العلم والميكانيك من دون أن نُلزم أنفسنا بفلسفة الغرب السياسية أو بسياسته الاقتصادية او بنظرته إلى الطبيعة الإنسانية".
بالنسبة إلى العالم العربي رأى أن مُرتجيات لبنان هي مرتجياتٌ مَيمونة لأنها تنبع من المنابع الروحية والفكرية واللغوية والسياسية والاجتماعية وأخوّة الروح أكثر مما تنبع من النَفعية والمادة. ولكن الخطر الكبير على لبنان يأتي من قيام دولة اسرائيل، دولة ليست كسائرالبلدان، من يتاخمها يتاخم دولة عالمية، نسيج وحدها، ومشتلاً للعنصرية في صميمها حيث المواطنية يرسم حدودها دينٌ يتّسَم بالتّسَتر، ومطامعها مختلفة تغلي أبدًا... فإسرائيل دولة عاصمة لليهودية جمعاء، ولشعب ممثل في الجنسيات كلها وفي أهم الحكومات، وله يد طولى في سياسة الولايات المتحدة وفي سياسة دول كثيرة. ورأى أن هذه الدولة الجديدة في جوارنا، ستطالعنا بالأخطار على صفوفها، ولن نُؤتى الراحة بعد اليوم.
المعضلة الكبرى بنظر ميشال شيحا أن اسرائيل جعلت من التوطين والإعمار الحثيث محورًا لسياسة احتلال وانبساط، فكلما زاد سكانها زاد ثقلها على الحدود. وهناك من يعتقد مستخفًا أنه مع الأجيال التالية ستبدأ مرحلة الانحلال. هؤلاء لن نشاطرهم رأيهم السقيم، إذ إن في استطاعة الشتيت الصهيوني أن يرفد إسرائيل بروافد جديدة. بتشجيع الهجرة إليها بحوافز مالية مغرية وبناء المستوطنات وتأمين فرص عمل للوافدين، وحمايتهم بقوة السلاح... بينما لبنان، في حالته الراهنة، يشق عليه أن يرسّخ أبناءَه في أرضه، وصارت الهجرة مدعاة قلق. بينما التهجير العربي من إسرائيل بالاستيلاء على أرضهم وأرزاقهم يصب غالبًا في الدّشَار اللبناني.
نظر ميشال شيحا إلى مستقبل لبنان والمنطقة في خضم التحولات العالمية، فرأى أن لبنان يقع على مفترق تنجذب إليه مع القيم الروحية مشروعات زمنية لأوروبا والمنطقة المتوسطية، فقال: "سيرى أحفادنا تراثات الغرب مصهورة في تراث أوحد، اما بالنسبة لشرقنا الأدنى فإن أوروبا الغربية تمتد من دون تباين من الخليج حتى رأس الشمال... وأضاف إن أسبابًا جغرافية وتاريخية رسمت لأوروبا الغربية وجهها الجديد، لكن ثمة أسبابًا منطقية دفعت تركيا نحو الحلف الأطلسي، والمصمم الغربي آخذ على عاتقه المناطق المتوسطية، هذا ما يبتغيه الماضي بأسره وما يبتغيه ماضي الحضارة العربية الجميل. وأضاف بنظرة رؤيوية مستقبلية قائلا: "عندما يشفّ الغشاء الذي يُغشّي الغد، يصبح التضامن المتوسطي واقعًا حاسمًا تبطل معه الكثرة في مناصبات اليوم كما بطلت في الغرب مناصبات الإقطاعيين في مغربان القرون الوسطى. أدعيتنا تواكب هذا الغرب الوليد الذي يَقحم التركي بابه جذلاً ... البحر المتوسط لدواع جديدة اقتصادية وروحية ترهن بمستقبله السياسات والمخططات. والعالم العربي بمطلّهِ البحري المديد ما هو إلا عالم متوسطي. فالأربعون مليون نسمة)أكثر من مئتي مليون اليوم( المنتشرون في بلدان الجامعة العربية ينزلون من التاريخ مساقط رأسه بالذات، والتي هي فاتحة تضامن محتوم. خصوصًا وأن بلدان الجامعة العربية على صعيد القوة تكاد تكون لا شيء، أما على الصعيد الجغرافي وصعيد التاريخ فإنها واقع ولا أثمن. وهي وإن لم تكن بحد نفسها تستطيع الكثير فإن قوتها تكمن في أنها تشكل معًا عقدة طرقات ومفارق للعبور، لا يخولها الانطواء على عزلتها.
ولعله رأى، قبل نصف قرن، أن دور لبنان في الشرق المتوسط هو الدور الذي لعبته فرنسا وألمانيا، بتراثهما الحضاري العريق ثقافيًاّ واقتصاديّاً، في تحويل أوروبا الهرمة إلى اتحاد أوروبي ناشط، وقوة عالمية ناهضة. فيكون دوره في هذا الشرق الذي يجمع كل الطوائف والمذاهب الدينية والروحية والأعراق العصبية بأن يصدّر إليه الصيغة اللبنانية التي أرساها بالتشركة بين طوائفه، صيغة تضمن خصوصية كل طائفة في الوطن الموحد، والتوفيق بين المصالح من دون التضحية بالجوهري، في تعمير الحاضر والآتي وضمان ما يتحلى به من خُلق ومن طاقات عليا.
وميزة ميشال شيحا الكبرى في أنه التزم في كل كتاباته وأعماله بالقِيم السامية، ورأى أن لبنان إذا كان في حاجة إلى تجار وتجارة مزدهرة، والى صناعيين وصناعة ناهضة، وإلى رجال أعمال وأموال، فهو بحاجة أكثر إلى مواطنين. وإلى توطيد مكاسبه بأن تتميز بالقِيم على أنواعها: قِيَمٌ سياسية، فلا نتكل دائمًا على عامل الزمن الذي يتمكن أحيانًا من تسوية الأوضاع المربكة. قيم اقتصادية تُهددها أخطار الربحية السريعة والمضاربة غير المشروعة. قيم جمالية، وما يدعو إلى الاغتباط أن الفنون ما زالت على قيد الحياة. وقيم خُلقية وأخلاقية، تراوح بين الفلسفة والسياسة. وثمة تقاليد جد نبيلة لا تزال قائمة، في الإخلاص للأمة والتعلّقُ بالأرض واعتبار أثيل للماضي، وثمة تضامن إنساني...
والقيم الروحية والدينية لا تزال قائمة، فما تخلينا قط عن كل ما هو قدّوس أزلي. فالروح السمحة هي التي أقامت لبنان البدء، والروح السمحة هي التي توطد لبنان اليوم.
وقبل قيمة الشيء قيمة الإنسان. فالقيمة ليست مسألة ثروة نتناولها بالتثمين. بل معارف ومواهب وحكمة وعلم وفن وشعر وثقافة ومزايا وإمكانات. لأن قيمة الإنسان في ابتداع الرائعة، مع أن عمر الرائعة يتخطى عمر العبقرية التي تبتدعها. وعلينا أن نضع الأنظمة والقوانين في عداد القيم، ونعتبر الضمير المهني حصيلة التنشئة والقدرة... رغم الخرق الفاضح للقانون: وبقاء المخالفات على تعددها بلا عقاب، والأنظمة والشرائع ملأى بالشوائب، وبحاجة إلى إصلاحات اجتماعية، وأن نعتبر من القيم قوام الكرامة الإنسانية، وإنما عن طريق القلب والروح.
لبنان ميشال شيحا يستطلع دائمًا القيم، ويستخلص منها كُنهها والحياة، فيسمو إلى مستوى مصير كبير، سواء أكان ذلك في الأخلاق أم في الثقافة والمعارف الإنسانية أم في العلوم والألمعية أم في الاعمال. وهو النموذج المنفتح لحرية يمكن تصديرها إلى كل بلدان الشرق لخلق شرق جديد متحد أسوة بأوروبا الجديدة المتحدة.
ويبقى ميشال شيحا في صميم حياتنا اللبنانية
نحن اليوم كلما نقرأ افتتاحية وطنية في صحيفة لبنانية، نقرأ سِفرًا من مزامير ميشال شيحا اللبنانية فنردد فعل إيمان بخصوصية لبنان وتعدديته المنفتحة.
وكلما نستمع إلى خطاب سياسي وطني أو نجري انتخابات ديموقراطية، رئاسية أو نيابية، نعمل على هدي دستور ميشال شيحا.
وكلما نرفع رؤوسنا إلى فوق تمجيدًا للخالق في جمال الطبيعة، أو نحقق عملاً ثقافيًاّ وفنيًاّ، ننشد قصيدة جميلة من نظم ميشال شيحا.
وكلما نقوم بعمل إنساني نبيل، نرفع البخور في تقديس قِيم سامية وضع تراتبيتها ميشال شيحا.
وكلما ننشد في مدارسنا وفي احتفالاتنا ''كلنا للوطن''، نرتل دعاء الإيمان بعبقرية ميشال شيحا الرؤيوية للكيان اللبناني.
تبارك قلم ميشال شيحا الحيّ المُحيي، وتباركت أقلام صحافتنا الحرة، أرزات شامخة، ناطقة ومتجددة على الدهر من ألفية الى ألفية