ميشال شيحا الصّحِافي المفكِّر والشَّاعر أبو الدستور اللبناني 1891... 1954

ميشال شيحا  الصّحِافي المفكِّر والشَّاعر أبو الدستور اللبناني 1891... 1954

ميني الزعنّيِ كِلنْكْ رئيسة التحريرصوت ميشال شيحا الذي عيّنِ سكريتيراً للجنة المكلّفَة دراسة الدستور اللبناني وصياغته يدوّي في 23 آب 1926: "لبنان وطنٌ سيّد حر ٌّمستقل، وطن نهائيّ لجميع أبنائه، واحدٌ أرضًا وشعبًا ومؤسسات، في حدوده المنصوص عنها في هذا الدستور والمعترف بها دوليّاً".

إنها المادة الأولى من الباب الأول من الدستور اللبناني.

.فمن هو ميشال شيحا؟ ولماذا قال عنه فخامة الرئيس شارل حلو "ميشال شيحا هو الاسم الآخر للبنان "؟ ولماذا قال الأستاذ فيليب تقلا: "سيحفظ لبنان اسم ميشال شيحا مدَونًا  على النصب التذكاري الذي تُقيمه الشعوب المقِرَّة بالجميل  لبُناة الأوطان والدول"؟

ليس من اليسير الإحاطة بكل جوانب شخصيّة شيحا إذ كان له من المؤهلات والمواهب والكفاءات والاختصاصات المتعدّدة إلى حَد التعارض.

.ميشال شيحا هو أحد أبرز بُناة الكيان اللبناني وأحد أهم مؤسّسِي الدولة اللبنانية ومناضل وطني لم يجد نفسه يوماً خارج لبنان. آمن بسِحر الكلمة وتأثيرها البالغ في العقول والنفوس وأيقن سِرَّ قوّة الصحافة المكتوبة وسلطتها ودورها على صعيد بناء الأوطان، فاختار الصحافة اليومية ليعبّرِ من خلالها عن آرائه. أصدر صحيفة لوجور بالفرنسية في العام1937 ، واتَّخذ من صفحتها الأولى منبرًا حرًّا لمقالاته الافتتاحية التوجيهية، حيث كان يجدّدِ يوميّاً فعل إيمانه بلبنان. وقد نجح في الارتقاء بمهنة الصحافة إلى مستوى الروائع الأدبيّة والفكر الفلسفي والرسالة المناقبية. وهو القائل في مقالة: 21 آذار  1944 وتحت عنوان الكتابات النثرية اليومية: "لا بأس أن نحدّث قراء صحيفة يومية عن أهم المواضيع. فثمَّة اعتقاد خاطئ سيّء يحصر اهتمام القارئ بالأمور العادية العارضة. ومجرَّد التسليم بهذا الحكم المسبق فيه إهانة للمواطنين ويسبّبِ إفقار الجميع على صعيد المعرفة.

ألا يجوز البحث في العلوم السياسية والآداب الجميلة إلا في المجلات المتخصصة؟ وفي المناقب إلا في دروس الأخلاق؟ لماذا علم الفلك، مثلاً، وهو من أرفع العلوم، يظلّ غريبًا عن الجماهير، على الأقل في شقّه الملخّصَ والسهل المنال. فلو تناولته الصحافة لازداد عدد الذين يتشوّقون إلى السماء لتأمّل عوالمها المكوكبة في الليالي المقمرة . والفنون التي شاعت في الأوساط الشعبية، في الزمن القديم، فهل نبقيها محفوفة  بالأسرار"؟

ميشال شيحا موسوعيّ المعرفة، بَليغُ القلم، ما ساعده على التطرّق إلى مواضيع متنوّعِة قد تبدو متناقضة ولكنها تلتقي حول بلوغ هدف واحد، ألا وهو الرفع من شأن الوطن والدفع به في مدارج التقدّم والتطوّر. وقد وجَدَ شيحا في المقالة القصيرة قالبًا ونوعًا أدبيّاً مناسبًا مكَّنه من طرح أفكاره النيّرِة ومعالجة جميع القضايا التي أراد من خلالها بثّ روح "الإيدلوجية اللبنانية المعاصِرة " فكتب في السياسة الداخلية والخارجية، في الاقتصاد والمال، في القانون والدستور، في الفلسفة والروحانيات. ولكن شيحا المحاضِر اللامع والمصرفيّ الذي أوحى بتأسيس بورصة بيروت والصّحِافيّ المبدِع والنائب الجريء، كان شاعرًا في الوقت عينه

.آمن شيحا بأن العِلم والشِّعر توأمان لا ينفصلان. وقد قال في مقالة "حَول الشِّعر" في 7كانون الأول1943 : " الشِّعر قبل أي شيء آخر ليس ثمَّة أهمّ منه، ولا أشدّ ضرورة في هذا الوقت. فالقبح يغمر وجه الأرض كالبرص". ويضيف: " فما عسى يكون حالنا بلا الشِّعر الذي هو صلاة، الذي هو موسيقى، الذي هو جمال، الذي هو حبّ، الذي هو عقل، الذي هو نور!"  والشعر الحقيقي كما يُحّدِده شيحا هو".التوافق بين نغم الأصوات ونغم المشاعر والصور والأفكار، وائتلاف لا يُنتظر، ونشوة تعمّ الكائن كله. إن قرنًا من الزمان لا شِعر فيه لَهو قرنٌ ضائع، وحضارة لا شِعر فيه فيها لمصيبة عالمية" وهذا ما يفسّر إعجابه "بباسكال" الذي كان عالِماً في الرياضيات والفيزياء وفيلسوفًا مفكرًا وشاعرًا في الوقت عينه.

وقد اتّبع ميشال شيحا منهجيّةَ علميّةَ لإبراز شخصيّة لبنان وحضوره ودَوره في العالم. فارتكز في مقالاته على الحقائق والوقائع التاريخية والثوابت الجغرافيّة وأسُس الأنتروبولوجيا والسوسيو-ثقافة التي من خلالِها رسَم سِمات الشخصيّة اللبنانية الفريدة وخصوصيّتها. فلبنان بلدٌ صغير في الجغرافية والديمغرافيا ولا يمكنه أن يعوّضِ عن ذلك إلا بالنوعية والوحدة  وهو القائل: "البلدان الصغرى تعرف من نوعية الرجال الكبار"  وإذا كان الالتزام يعني النضال في سبيل قضية معينة والدفاع عنها فشيحا التزم بالقضايا اللبنانية التزامًا مطلقًا. فكان يُضيء على الحَدَث المحلي أو العربي أو العالمي ثمّ يحلّل ويعلّل ويستنتج تأثيره وتداعياته في الوضع اللبناني، فغَدَت مقالاته دروسًا وأمثولات قيّمِة في مجالات الاقتصاد والسياسة الداخلية والخارجية واحترام الدستور والقوانين وبناء المؤسّسات وحبّ الوطن وهو القائل: "في ظلّ دستور كدستورنا هو أحد اشدّ دساتير العالم تكريسًا لقوة السلطة، إرادي بقدر ما هو ديمقراطي، الحكم يكون رهن إرادة الرجال لا ملاحة القوانين" ويؤكد شيحا : "يهمّنا أن. يتجهَّز لبنان، وتُشاد فيه العمارات الجميلة، وتُشَق الطرق الوسيعة الطويلة، وتصبح في متناوله كل مظاهر التقدم المادي ولكن ما يهمّنا أكثر من ذلك أن يكون في لبنان إنسان".  ويبدو جليّاً تعلّقه بالأرض فيقول: "يجب علينا التشبّث  بالتراب وردّ الاعتبار للأرض وأن نحبّ الفلاّح ونحّب معه الأشجار ومياه الينابيع والحقل والبستان. يجب علينا أن نغمس نفوسنا في عظمة هذه الطبيعة التي تحرّمِ علينا الصِغارات". وفي مقالة عنوانها حبّ الوطن يقول شيحا: "إن حبّ الوطن، كما قيل لنا سِتّ مرّات، واجبٌ علينا؛ بل ضرورة تكوينية بنوع ما. لأن أبهج المناظر، حيثما كانت لا تعزينا في بعدنا عن أرواح جدودنا الحامية لنا؛ ويا ما أفظع عقاب إنسان بنَفيهِ عن وطنه!"

وبقي ميشال شيحا، على مدى خمسة وثلاثين عامًا يثابر على العمل متحلّيًا بإرادة صلبة وقوّة هادئة ورَصينة، فاستحقَّ لقب أبٍ للفكرة اللبنانويّة .(Le libanisme) فكان يطلق النداءات، يوجّهِ التحذيرات، يعطي التوجيهات والإشارات، يستخلص الأمثولات، انطلاقًا من الحدث اليومي العابر وصولاً إلى المبدأ العام والعبرة الفلسفيّة الثابتة. وقد تميّزت خواطِره القائمة على الاختصار، بوضوح الرؤية ودقّةَ الملاحظة وحسن التعليل وقوّة المنطق وحضور البديهة. ففي 27 نيسان 1948 كتب شيحا مقالة تحت عنوان "سياسة على قياس العالم" كان مدخلها: "يُسرع التحرّك الذي قد يؤول إلى ولادة أوروبة متّحَدة".

مسيرةٌ إعلاميّةٌ طويلة لشخصيّةَ إعلامية فريدة ولِكاتبٍ شاهدٍ على عصره. فالعالَم مسرحٌ لمقالاته لكنّه قرّر أن يمتزج قدره مع قدر لبنان. عَشِق الوطن الصغير وكرّس قلمه للإضاءة على وجهه المشرِق ولِرَسم سِمات شخصّيته الفريدة، في الزمن الذي لم تكن معالِم الوطن واضحة بعد: "أن ما نَبنيه، رغم كل شيء، ليس فندقًا للمارّ ولا متجرًا للبائع، ولا مكتب جوازات سفر للمستوطِن وللمهاجر، بل. للبنان اليوم وطنًا مضيافًا وإنسانيّاً".

لكن حبه للبنان ليس شوڤينيّاً والاستقلال ليس تقوقعًا. فاللبنانيون كسائر المتوسّطيين منفتحون على العالَم والمتوسّطِي عاشِقٌ للبحر، بنّاَء للسفن، مستعدٌ للإبحار في أي هو وقت، إلى الأماكن البعيدة. والبحر الأبيض المتوسط " الشاهد على أوّل زورق وأوّل مِجذاف" فمن لبنان انطلق شيحا إلى رحاب الإنسانية . دافع عن الحرية والعدالة والديمقراطية والسلام وعن كل القضايا المتصلة بقِيم الحق والخير والجمال. فالفكر لا ينمو إلا في أجواء الحرية والمعرفة لا تستيقظ إلا في ظلال الاستقرار. أما عن السياسة والتشريع فيقول شيحا: " ما من سياسة، مهما بلغ شأنها، إلا  وتُبنى على الأخلاق، وما من تشريع يقوى على البقاء إن لم تكن غايته سموّ الخُلق وتعزيز الكرامة الإنسانية".

 

أما سِرّ تألّق مقالاته فيعود إلى أسلوبه الجذاب . فقد صبّ ميشال شيحا مقالاته في قالب فنيّ مميّز ورفع المقالة الصحافية إلى مستوى الإبداع . ويقول ميخائيل نعيمة إن: "عدّة الأديب لغة وفكر وخيال وذوق ووجدان وإرادة" "إنها العدّة التي عمل بها شيحا. فأسلوبه يضاهي أسلوب الفلاسفة والمفكرين الفرنسيين الكبار. كما تميّزت مقالاته بالاختصار ووضوح السَرد ودقَّة الوصف ورَوعتِه. فعندما يَصِف الطبيعة اللبنانية، وبخاصة مناظر الجبل الخلاّبة تتحوّل المقالة إلى لوحة فنيّة ويصبح شيحا رسامًا يتقن مزج الألوان ويعبّرِ عن أدقّ التفاصيل ويدعو القارئ إلى أحضان الطبيعة التي تُبَلسم الجراح وتبدّدِ الأحزان "عذبٌ كوعدٍ بالسعادة هذا الرُذاذ في نيسان يسقط من فضاء رماديّ فيه كوىً فسيحة زرقاء، فتفعل فينا نزوات الماء الأخيرة هذه فعل النشوة .الحديقة يغمُرها البَلَل. والأذاريون والقلنسويات (les soucis et les capucines ) وأزهار تمّ السمكة ارتوت ما وسعها، والأعشاب البريّةَ تفيض عطرًا. كلّ هذا يفوح شذاه في طبيعة مُثلى تُضفي علينا جوًّا من النعمة. كلّ فتنة هذا الربيع لا تُكتشف إلا بالدنوّ منه. ولا بدّ من الوقوف عند نافذته لكي تنجلي الرؤية . ولا بد من الهبوط على دَرَجات الدرج العتيق المصدّع. لا بد من التقدم على مهل في المسالك الصغيرة، مثل هذه العظاية السعيدة، المرصَّعة بالزمرد وهي لا تدري ما هو".

وتتميّزَ كتاباته اليوميّة بأناقة البيان والبلاغة في السرد والوصف والتعليق. إنه السهل الممتنع. سهولةٌ وعَفويّةَ، سَلاسةٌ ورِقّة. ألم يَقل ابن المقفع في البلاغة: "هي التي إذا سمعها الجاهل ظنّ نفسه يعمل مثلها"؟.

كما تستوقفنا عند شيحا مقالات تميل صَوْب الشِّعر. فهو شاعرٌ حقّاً في بعض ما كتب نثرًا. فلنستمع إليه في مقالة " الحديقة تحت المطر ": "ذلك إن هذه الطبيعة المبلّلَة لا تكتفي بإبهارنا، بل هي تحمل في باطنها بلاسِم وأسرارًا. هي تغمرنا بمفردات تنبع من الأصول، وببوادر شفقة تنتج الأدوية الفعّالة والمراهم العجيبة".

وقد تمنى شيحا لمقالاته الديمومة وتمنى أن يقاسمه القارئ ما أحبّهَ وآمن به فقال في مقدمة كتابه  "خواطر": "نأمل أن تكون هذه الصفحات المنبثقة عن تأمّلاتنا، وأحيانًا من أحشائنا، قد حافظت ما يكفي من الطبيعيّةَ والطراوة التي تستهوي القارئ فتستحق البقاء".

"المجلة التربوية" تؤكِّد أن مقالات شيحا صفحات خالدة من تاريخ لبنان. وستبقى نابضةً في الذكرى والذاكرة، حيّة في البال، حاضرةً في الضمير، راسخةً في العقل والوجدان. وها هي تدوّن اسم ميشال شيحا بين المبدعين الذين تركوا للأجيال الصاعدة إرثًا ثمينًا من أناشيد الحبّ ومزامير الوفاء للوطن، فتلقي أضواء على فِكرِه وشعره بأقلام نخبةٍ من الاختصاصيين الذين شاركوا في تحضير هذا العدد كما تقدّمِ لمعلّمِي لبنان وتلامذته حَصادًا من أقواله بالعربية والفرنسية. فهنيئًا لمدرسة تحفظ كتب ميشال شيحا في مكتبتها فيختار المعلّمِون من مقالاته ما يناسب مادة اختصاصهم. كما ننصَح معلّمِي الأدب واللغة، الاجتماع والاقتصاد، الفلسفة، التربية الوطنية والتنشئة المدنية،التاريخ، بأن يلقوا شباكهم في بحر مؤلّفَات ميشال شيحا، فإن الصيد لَوَفير!

ميشال شيحا الصّحِافي المفكِّر والشَّاعر أبو الدستور اللبناني 1891... 1954

ميشال شيحا  الصّحِافي المفكِّر والشَّاعر أبو الدستور اللبناني 1891... 1954

ميني الزعنّيِ كِلنْكْ رئيسة التحريرصوت ميشال شيحا الذي عيّنِ سكريتيراً للجنة المكلّفَة دراسة الدستور اللبناني وصياغته يدوّي في 23 آب 1926: "لبنان وطنٌ سيّد حر ٌّمستقل، وطن نهائيّ لجميع أبنائه، واحدٌ أرضًا وشعبًا ومؤسسات، في حدوده المنصوص عنها في هذا الدستور والمعترف بها دوليّاً".

إنها المادة الأولى من الباب الأول من الدستور اللبناني.

.فمن هو ميشال شيحا؟ ولماذا قال عنه فخامة الرئيس شارل حلو "ميشال شيحا هو الاسم الآخر للبنان "؟ ولماذا قال الأستاذ فيليب تقلا: "سيحفظ لبنان اسم ميشال شيحا مدَونًا  على النصب التذكاري الذي تُقيمه الشعوب المقِرَّة بالجميل  لبُناة الأوطان والدول"؟

ليس من اليسير الإحاطة بكل جوانب شخصيّة شيحا إذ كان له من المؤهلات والمواهب والكفاءات والاختصاصات المتعدّدة إلى حَد التعارض.

.ميشال شيحا هو أحد أبرز بُناة الكيان اللبناني وأحد أهم مؤسّسِي الدولة اللبنانية ومناضل وطني لم يجد نفسه يوماً خارج لبنان. آمن بسِحر الكلمة وتأثيرها البالغ في العقول والنفوس وأيقن سِرَّ قوّة الصحافة المكتوبة وسلطتها ودورها على صعيد بناء الأوطان، فاختار الصحافة اليومية ليعبّرِ من خلالها عن آرائه. أصدر صحيفة لوجور بالفرنسية في العام1937 ، واتَّخذ من صفحتها الأولى منبرًا حرًّا لمقالاته الافتتاحية التوجيهية، حيث كان يجدّدِ يوميّاً فعل إيمانه بلبنان. وقد نجح في الارتقاء بمهنة الصحافة إلى مستوى الروائع الأدبيّة والفكر الفلسفي والرسالة المناقبية. وهو القائل في مقالة: 21 آذار  1944 وتحت عنوان الكتابات النثرية اليومية: "لا بأس أن نحدّث قراء صحيفة يومية عن أهم المواضيع. فثمَّة اعتقاد خاطئ سيّء يحصر اهتمام القارئ بالأمور العادية العارضة. ومجرَّد التسليم بهذا الحكم المسبق فيه إهانة للمواطنين ويسبّبِ إفقار الجميع على صعيد المعرفة.

ألا يجوز البحث في العلوم السياسية والآداب الجميلة إلا في المجلات المتخصصة؟ وفي المناقب إلا في دروس الأخلاق؟ لماذا علم الفلك، مثلاً، وهو من أرفع العلوم، يظلّ غريبًا عن الجماهير، على الأقل في شقّه الملخّصَ والسهل المنال. فلو تناولته الصحافة لازداد عدد الذين يتشوّقون إلى السماء لتأمّل عوالمها المكوكبة في الليالي المقمرة . والفنون التي شاعت في الأوساط الشعبية، في الزمن القديم، فهل نبقيها محفوفة  بالأسرار"؟

ميشال شيحا موسوعيّ المعرفة، بَليغُ القلم، ما ساعده على التطرّق إلى مواضيع متنوّعِة قد تبدو متناقضة ولكنها تلتقي حول بلوغ هدف واحد، ألا وهو الرفع من شأن الوطن والدفع به في مدارج التقدّم والتطوّر. وقد وجَدَ شيحا في المقالة القصيرة قالبًا ونوعًا أدبيّاً مناسبًا مكَّنه من طرح أفكاره النيّرِة ومعالجة جميع القضايا التي أراد من خلالها بثّ روح "الإيدلوجية اللبنانية المعاصِرة " فكتب في السياسة الداخلية والخارجية، في الاقتصاد والمال، في القانون والدستور، في الفلسفة والروحانيات. ولكن شيحا المحاضِر اللامع والمصرفيّ الذي أوحى بتأسيس بورصة بيروت والصّحِافيّ المبدِع والنائب الجريء، كان شاعرًا في الوقت عينه

.آمن شيحا بأن العِلم والشِّعر توأمان لا ينفصلان. وقد قال في مقالة "حَول الشِّعر" في 7كانون الأول1943 : " الشِّعر قبل أي شيء آخر ليس ثمَّة أهمّ منه، ولا أشدّ ضرورة في هذا الوقت. فالقبح يغمر وجه الأرض كالبرص". ويضيف: " فما عسى يكون حالنا بلا الشِّعر الذي هو صلاة، الذي هو موسيقى، الذي هو جمال، الذي هو حبّ، الذي هو عقل، الذي هو نور!"  والشعر الحقيقي كما يُحّدِده شيحا هو".التوافق بين نغم الأصوات ونغم المشاعر والصور والأفكار، وائتلاف لا يُنتظر، ونشوة تعمّ الكائن كله. إن قرنًا من الزمان لا شِعر فيه لَهو قرنٌ ضائع، وحضارة لا شِعر فيه فيها لمصيبة عالمية" وهذا ما يفسّر إعجابه "بباسكال" الذي كان عالِماً في الرياضيات والفيزياء وفيلسوفًا مفكرًا وشاعرًا في الوقت عينه.

وقد اتّبع ميشال شيحا منهجيّةَ علميّةَ لإبراز شخصيّة لبنان وحضوره ودَوره في العالم. فارتكز في مقالاته على الحقائق والوقائع التاريخية والثوابت الجغرافيّة وأسُس الأنتروبولوجيا والسوسيو-ثقافة التي من خلالِها رسَم سِمات الشخصيّة اللبنانية الفريدة وخصوصيّتها. فلبنان بلدٌ صغير في الجغرافية والديمغرافيا ولا يمكنه أن يعوّضِ عن ذلك إلا بالنوعية والوحدة  وهو القائل: "البلدان الصغرى تعرف من نوعية الرجال الكبار"  وإذا كان الالتزام يعني النضال في سبيل قضية معينة والدفاع عنها فشيحا التزم بالقضايا اللبنانية التزامًا مطلقًا. فكان يُضيء على الحَدَث المحلي أو العربي أو العالمي ثمّ يحلّل ويعلّل ويستنتج تأثيره وتداعياته في الوضع اللبناني، فغَدَت مقالاته دروسًا وأمثولات قيّمِة في مجالات الاقتصاد والسياسة الداخلية والخارجية واحترام الدستور والقوانين وبناء المؤسّسات وحبّ الوطن وهو القائل: "في ظلّ دستور كدستورنا هو أحد اشدّ دساتير العالم تكريسًا لقوة السلطة، إرادي بقدر ما هو ديمقراطي، الحكم يكون رهن إرادة الرجال لا ملاحة القوانين" ويؤكد شيحا : "يهمّنا أن. يتجهَّز لبنان، وتُشاد فيه العمارات الجميلة، وتُشَق الطرق الوسيعة الطويلة، وتصبح في متناوله كل مظاهر التقدم المادي ولكن ما يهمّنا أكثر من ذلك أن يكون في لبنان إنسان".  ويبدو جليّاً تعلّقه بالأرض فيقول: "يجب علينا التشبّث  بالتراب وردّ الاعتبار للأرض وأن نحبّ الفلاّح ونحّب معه الأشجار ومياه الينابيع والحقل والبستان. يجب علينا أن نغمس نفوسنا في عظمة هذه الطبيعة التي تحرّمِ علينا الصِغارات". وفي مقالة عنوانها حبّ الوطن يقول شيحا: "إن حبّ الوطن، كما قيل لنا سِتّ مرّات، واجبٌ علينا؛ بل ضرورة تكوينية بنوع ما. لأن أبهج المناظر، حيثما كانت لا تعزينا في بعدنا عن أرواح جدودنا الحامية لنا؛ ويا ما أفظع عقاب إنسان بنَفيهِ عن وطنه!"

وبقي ميشال شيحا، على مدى خمسة وثلاثين عامًا يثابر على العمل متحلّيًا بإرادة صلبة وقوّة هادئة ورَصينة، فاستحقَّ لقب أبٍ للفكرة اللبنانويّة .(Le libanisme) فكان يطلق النداءات، يوجّهِ التحذيرات، يعطي التوجيهات والإشارات، يستخلص الأمثولات، انطلاقًا من الحدث اليومي العابر وصولاً إلى المبدأ العام والعبرة الفلسفيّة الثابتة. وقد تميّزت خواطِره القائمة على الاختصار، بوضوح الرؤية ودقّةَ الملاحظة وحسن التعليل وقوّة المنطق وحضور البديهة. ففي 27 نيسان 1948 كتب شيحا مقالة تحت عنوان "سياسة على قياس العالم" كان مدخلها: "يُسرع التحرّك الذي قد يؤول إلى ولادة أوروبة متّحَدة".

مسيرةٌ إعلاميّةٌ طويلة لشخصيّةَ إعلامية فريدة ولِكاتبٍ شاهدٍ على عصره. فالعالَم مسرحٌ لمقالاته لكنّه قرّر أن يمتزج قدره مع قدر لبنان. عَشِق الوطن الصغير وكرّس قلمه للإضاءة على وجهه المشرِق ولِرَسم سِمات شخصّيته الفريدة، في الزمن الذي لم تكن معالِم الوطن واضحة بعد: "أن ما نَبنيه، رغم كل شيء، ليس فندقًا للمارّ ولا متجرًا للبائع، ولا مكتب جوازات سفر للمستوطِن وللمهاجر، بل. للبنان اليوم وطنًا مضيافًا وإنسانيّاً".

لكن حبه للبنان ليس شوڤينيّاً والاستقلال ليس تقوقعًا. فاللبنانيون كسائر المتوسّطيين منفتحون على العالَم والمتوسّطِي عاشِقٌ للبحر، بنّاَء للسفن، مستعدٌ للإبحار في أي هو وقت، إلى الأماكن البعيدة. والبحر الأبيض المتوسط " الشاهد على أوّل زورق وأوّل مِجذاف" فمن لبنان انطلق شيحا إلى رحاب الإنسانية . دافع عن الحرية والعدالة والديمقراطية والسلام وعن كل القضايا المتصلة بقِيم الحق والخير والجمال. فالفكر لا ينمو إلا في أجواء الحرية والمعرفة لا تستيقظ إلا في ظلال الاستقرار. أما عن السياسة والتشريع فيقول شيحا: " ما من سياسة، مهما بلغ شأنها، إلا  وتُبنى على الأخلاق، وما من تشريع يقوى على البقاء إن لم تكن غايته سموّ الخُلق وتعزيز الكرامة الإنسانية".

 

أما سِرّ تألّق مقالاته فيعود إلى أسلوبه الجذاب . فقد صبّ ميشال شيحا مقالاته في قالب فنيّ مميّز ورفع المقالة الصحافية إلى مستوى الإبداع . ويقول ميخائيل نعيمة إن: "عدّة الأديب لغة وفكر وخيال وذوق ووجدان وإرادة" "إنها العدّة التي عمل بها شيحا. فأسلوبه يضاهي أسلوب الفلاسفة والمفكرين الفرنسيين الكبار. كما تميّزت مقالاته بالاختصار ووضوح السَرد ودقَّة الوصف ورَوعتِه. فعندما يَصِف الطبيعة اللبنانية، وبخاصة مناظر الجبل الخلاّبة تتحوّل المقالة إلى لوحة فنيّة ويصبح شيحا رسامًا يتقن مزج الألوان ويعبّرِ عن أدقّ التفاصيل ويدعو القارئ إلى أحضان الطبيعة التي تُبَلسم الجراح وتبدّدِ الأحزان "عذبٌ كوعدٍ بالسعادة هذا الرُذاذ في نيسان يسقط من فضاء رماديّ فيه كوىً فسيحة زرقاء، فتفعل فينا نزوات الماء الأخيرة هذه فعل النشوة .الحديقة يغمُرها البَلَل. والأذاريون والقلنسويات (les soucis et les capucines ) وأزهار تمّ السمكة ارتوت ما وسعها، والأعشاب البريّةَ تفيض عطرًا. كلّ هذا يفوح شذاه في طبيعة مُثلى تُضفي علينا جوًّا من النعمة. كلّ فتنة هذا الربيع لا تُكتشف إلا بالدنوّ منه. ولا بدّ من الوقوف عند نافذته لكي تنجلي الرؤية . ولا بد من الهبوط على دَرَجات الدرج العتيق المصدّع. لا بد من التقدم على مهل في المسالك الصغيرة، مثل هذه العظاية السعيدة، المرصَّعة بالزمرد وهي لا تدري ما هو".

وتتميّزَ كتاباته اليوميّة بأناقة البيان والبلاغة في السرد والوصف والتعليق. إنه السهل الممتنع. سهولةٌ وعَفويّةَ، سَلاسةٌ ورِقّة. ألم يَقل ابن المقفع في البلاغة: "هي التي إذا سمعها الجاهل ظنّ نفسه يعمل مثلها"؟.

كما تستوقفنا عند شيحا مقالات تميل صَوْب الشِّعر. فهو شاعرٌ حقّاً في بعض ما كتب نثرًا. فلنستمع إليه في مقالة " الحديقة تحت المطر ": "ذلك إن هذه الطبيعة المبلّلَة لا تكتفي بإبهارنا، بل هي تحمل في باطنها بلاسِم وأسرارًا. هي تغمرنا بمفردات تنبع من الأصول، وببوادر شفقة تنتج الأدوية الفعّالة والمراهم العجيبة".

وقد تمنى شيحا لمقالاته الديمومة وتمنى أن يقاسمه القارئ ما أحبّهَ وآمن به فقال في مقدمة كتابه  "خواطر": "نأمل أن تكون هذه الصفحات المنبثقة عن تأمّلاتنا، وأحيانًا من أحشائنا، قد حافظت ما يكفي من الطبيعيّةَ والطراوة التي تستهوي القارئ فتستحق البقاء".

"المجلة التربوية" تؤكِّد أن مقالات شيحا صفحات خالدة من تاريخ لبنان. وستبقى نابضةً في الذكرى والذاكرة، حيّة في البال، حاضرةً في الضمير، راسخةً في العقل والوجدان. وها هي تدوّن اسم ميشال شيحا بين المبدعين الذين تركوا للأجيال الصاعدة إرثًا ثمينًا من أناشيد الحبّ ومزامير الوفاء للوطن، فتلقي أضواء على فِكرِه وشعره بأقلام نخبةٍ من الاختصاصيين الذين شاركوا في تحضير هذا العدد كما تقدّمِ لمعلّمِي لبنان وتلامذته حَصادًا من أقواله بالعربية والفرنسية. فهنيئًا لمدرسة تحفظ كتب ميشال شيحا في مكتبتها فيختار المعلّمِون من مقالاته ما يناسب مادة اختصاصهم. كما ننصَح معلّمِي الأدب واللغة، الاجتماع والاقتصاد، الفلسفة، التربية الوطنية والتنشئة المدنية،التاريخ، بأن يلقوا شباكهم في بحر مؤلّفَات ميشال شيحا، فإن الصيد لَوَفير!

ميشال شيحا الصّحِافي المفكِّر والشَّاعر أبو الدستور اللبناني 1891... 1954

ميشال شيحا  الصّحِافي المفكِّر والشَّاعر أبو الدستور اللبناني 1891... 1954

ميني الزعنّيِ كِلنْكْ رئيسة التحريرصوت ميشال شيحا الذي عيّنِ سكريتيراً للجنة المكلّفَة دراسة الدستور اللبناني وصياغته يدوّي في 23 آب 1926: "لبنان وطنٌ سيّد حر ٌّمستقل، وطن نهائيّ لجميع أبنائه، واحدٌ أرضًا وشعبًا ومؤسسات، في حدوده المنصوص عنها في هذا الدستور والمعترف بها دوليّاً".

إنها المادة الأولى من الباب الأول من الدستور اللبناني.

.فمن هو ميشال شيحا؟ ولماذا قال عنه فخامة الرئيس شارل حلو "ميشال شيحا هو الاسم الآخر للبنان "؟ ولماذا قال الأستاذ فيليب تقلا: "سيحفظ لبنان اسم ميشال شيحا مدَونًا  على النصب التذكاري الذي تُقيمه الشعوب المقِرَّة بالجميل  لبُناة الأوطان والدول"؟

ليس من اليسير الإحاطة بكل جوانب شخصيّة شيحا إذ كان له من المؤهلات والمواهب والكفاءات والاختصاصات المتعدّدة إلى حَد التعارض.

.ميشال شيحا هو أحد أبرز بُناة الكيان اللبناني وأحد أهم مؤسّسِي الدولة اللبنانية ومناضل وطني لم يجد نفسه يوماً خارج لبنان. آمن بسِحر الكلمة وتأثيرها البالغ في العقول والنفوس وأيقن سِرَّ قوّة الصحافة المكتوبة وسلطتها ودورها على صعيد بناء الأوطان، فاختار الصحافة اليومية ليعبّرِ من خلالها عن آرائه. أصدر صحيفة لوجور بالفرنسية في العام1937 ، واتَّخذ من صفحتها الأولى منبرًا حرًّا لمقالاته الافتتاحية التوجيهية، حيث كان يجدّدِ يوميّاً فعل إيمانه بلبنان. وقد نجح في الارتقاء بمهنة الصحافة إلى مستوى الروائع الأدبيّة والفكر الفلسفي والرسالة المناقبية. وهو القائل في مقالة: 21 آذار  1944 وتحت عنوان الكتابات النثرية اليومية: "لا بأس أن نحدّث قراء صحيفة يومية عن أهم المواضيع. فثمَّة اعتقاد خاطئ سيّء يحصر اهتمام القارئ بالأمور العادية العارضة. ومجرَّد التسليم بهذا الحكم المسبق فيه إهانة للمواطنين ويسبّبِ إفقار الجميع على صعيد المعرفة.

ألا يجوز البحث في العلوم السياسية والآداب الجميلة إلا في المجلات المتخصصة؟ وفي المناقب إلا في دروس الأخلاق؟ لماذا علم الفلك، مثلاً، وهو من أرفع العلوم، يظلّ غريبًا عن الجماهير، على الأقل في شقّه الملخّصَ والسهل المنال. فلو تناولته الصحافة لازداد عدد الذين يتشوّقون إلى السماء لتأمّل عوالمها المكوكبة في الليالي المقمرة . والفنون التي شاعت في الأوساط الشعبية، في الزمن القديم، فهل نبقيها محفوفة  بالأسرار"؟

ميشال شيحا موسوعيّ المعرفة، بَليغُ القلم، ما ساعده على التطرّق إلى مواضيع متنوّعِة قد تبدو متناقضة ولكنها تلتقي حول بلوغ هدف واحد، ألا وهو الرفع من شأن الوطن والدفع به في مدارج التقدّم والتطوّر. وقد وجَدَ شيحا في المقالة القصيرة قالبًا ونوعًا أدبيّاً مناسبًا مكَّنه من طرح أفكاره النيّرِة ومعالجة جميع القضايا التي أراد من خلالها بثّ روح "الإيدلوجية اللبنانية المعاصِرة " فكتب في السياسة الداخلية والخارجية، في الاقتصاد والمال، في القانون والدستور، في الفلسفة والروحانيات. ولكن شيحا المحاضِر اللامع والمصرفيّ الذي أوحى بتأسيس بورصة بيروت والصّحِافيّ المبدِع والنائب الجريء، كان شاعرًا في الوقت عينه

.آمن شيحا بأن العِلم والشِّعر توأمان لا ينفصلان. وقد قال في مقالة "حَول الشِّعر" في 7كانون الأول1943 : " الشِّعر قبل أي شيء آخر ليس ثمَّة أهمّ منه، ولا أشدّ ضرورة في هذا الوقت. فالقبح يغمر وجه الأرض كالبرص". ويضيف: " فما عسى يكون حالنا بلا الشِّعر الذي هو صلاة، الذي هو موسيقى، الذي هو جمال، الذي هو حبّ، الذي هو عقل، الذي هو نور!"  والشعر الحقيقي كما يُحّدِده شيحا هو".التوافق بين نغم الأصوات ونغم المشاعر والصور والأفكار، وائتلاف لا يُنتظر، ونشوة تعمّ الكائن كله. إن قرنًا من الزمان لا شِعر فيه لَهو قرنٌ ضائع، وحضارة لا شِعر فيه فيها لمصيبة عالمية" وهذا ما يفسّر إعجابه "بباسكال" الذي كان عالِماً في الرياضيات والفيزياء وفيلسوفًا مفكرًا وشاعرًا في الوقت عينه.

وقد اتّبع ميشال شيحا منهجيّةَ علميّةَ لإبراز شخصيّة لبنان وحضوره ودَوره في العالم. فارتكز في مقالاته على الحقائق والوقائع التاريخية والثوابت الجغرافيّة وأسُس الأنتروبولوجيا والسوسيو-ثقافة التي من خلالِها رسَم سِمات الشخصيّة اللبنانية الفريدة وخصوصيّتها. فلبنان بلدٌ صغير في الجغرافية والديمغرافيا ولا يمكنه أن يعوّضِ عن ذلك إلا بالنوعية والوحدة  وهو القائل: "البلدان الصغرى تعرف من نوعية الرجال الكبار"  وإذا كان الالتزام يعني النضال في سبيل قضية معينة والدفاع عنها فشيحا التزم بالقضايا اللبنانية التزامًا مطلقًا. فكان يُضيء على الحَدَث المحلي أو العربي أو العالمي ثمّ يحلّل ويعلّل ويستنتج تأثيره وتداعياته في الوضع اللبناني، فغَدَت مقالاته دروسًا وأمثولات قيّمِة في مجالات الاقتصاد والسياسة الداخلية والخارجية واحترام الدستور والقوانين وبناء المؤسّسات وحبّ الوطن وهو القائل: "في ظلّ دستور كدستورنا هو أحد اشدّ دساتير العالم تكريسًا لقوة السلطة، إرادي بقدر ما هو ديمقراطي، الحكم يكون رهن إرادة الرجال لا ملاحة القوانين" ويؤكد شيحا : "يهمّنا أن. يتجهَّز لبنان، وتُشاد فيه العمارات الجميلة، وتُشَق الطرق الوسيعة الطويلة، وتصبح في متناوله كل مظاهر التقدم المادي ولكن ما يهمّنا أكثر من ذلك أن يكون في لبنان إنسان".  ويبدو جليّاً تعلّقه بالأرض فيقول: "يجب علينا التشبّث  بالتراب وردّ الاعتبار للأرض وأن نحبّ الفلاّح ونحّب معه الأشجار ومياه الينابيع والحقل والبستان. يجب علينا أن نغمس نفوسنا في عظمة هذه الطبيعة التي تحرّمِ علينا الصِغارات". وفي مقالة عنوانها حبّ الوطن يقول شيحا: "إن حبّ الوطن، كما قيل لنا سِتّ مرّات، واجبٌ علينا؛ بل ضرورة تكوينية بنوع ما. لأن أبهج المناظر، حيثما كانت لا تعزينا في بعدنا عن أرواح جدودنا الحامية لنا؛ ويا ما أفظع عقاب إنسان بنَفيهِ عن وطنه!"

وبقي ميشال شيحا، على مدى خمسة وثلاثين عامًا يثابر على العمل متحلّيًا بإرادة صلبة وقوّة هادئة ورَصينة، فاستحقَّ لقب أبٍ للفكرة اللبنانويّة .(Le libanisme) فكان يطلق النداءات، يوجّهِ التحذيرات، يعطي التوجيهات والإشارات، يستخلص الأمثولات، انطلاقًا من الحدث اليومي العابر وصولاً إلى المبدأ العام والعبرة الفلسفيّة الثابتة. وقد تميّزت خواطِره القائمة على الاختصار، بوضوح الرؤية ودقّةَ الملاحظة وحسن التعليل وقوّة المنطق وحضور البديهة. ففي 27 نيسان 1948 كتب شيحا مقالة تحت عنوان "سياسة على قياس العالم" كان مدخلها: "يُسرع التحرّك الذي قد يؤول إلى ولادة أوروبة متّحَدة".

مسيرةٌ إعلاميّةٌ طويلة لشخصيّةَ إعلامية فريدة ولِكاتبٍ شاهدٍ على عصره. فالعالَم مسرحٌ لمقالاته لكنّه قرّر أن يمتزج قدره مع قدر لبنان. عَشِق الوطن الصغير وكرّس قلمه للإضاءة على وجهه المشرِق ولِرَسم سِمات شخصّيته الفريدة، في الزمن الذي لم تكن معالِم الوطن واضحة بعد: "أن ما نَبنيه، رغم كل شيء، ليس فندقًا للمارّ ولا متجرًا للبائع، ولا مكتب جوازات سفر للمستوطِن وللمهاجر، بل. للبنان اليوم وطنًا مضيافًا وإنسانيّاً".

لكن حبه للبنان ليس شوڤينيّاً والاستقلال ليس تقوقعًا. فاللبنانيون كسائر المتوسّطيين منفتحون على العالَم والمتوسّطِي عاشِقٌ للبحر، بنّاَء للسفن، مستعدٌ للإبحار في أي هو وقت، إلى الأماكن البعيدة. والبحر الأبيض المتوسط " الشاهد على أوّل زورق وأوّل مِجذاف" فمن لبنان انطلق شيحا إلى رحاب الإنسانية . دافع عن الحرية والعدالة والديمقراطية والسلام وعن كل القضايا المتصلة بقِيم الحق والخير والجمال. فالفكر لا ينمو إلا في أجواء الحرية والمعرفة لا تستيقظ إلا في ظلال الاستقرار. أما عن السياسة والتشريع فيقول شيحا: " ما من سياسة، مهما بلغ شأنها، إلا  وتُبنى على الأخلاق، وما من تشريع يقوى على البقاء إن لم تكن غايته سموّ الخُلق وتعزيز الكرامة الإنسانية".

 

أما سِرّ تألّق مقالاته فيعود إلى أسلوبه الجذاب . فقد صبّ ميشال شيحا مقالاته في قالب فنيّ مميّز ورفع المقالة الصحافية إلى مستوى الإبداع . ويقول ميخائيل نعيمة إن: "عدّة الأديب لغة وفكر وخيال وذوق ووجدان وإرادة" "إنها العدّة التي عمل بها شيحا. فأسلوبه يضاهي أسلوب الفلاسفة والمفكرين الفرنسيين الكبار. كما تميّزت مقالاته بالاختصار ووضوح السَرد ودقَّة الوصف ورَوعتِه. فعندما يَصِف الطبيعة اللبنانية، وبخاصة مناظر الجبل الخلاّبة تتحوّل المقالة إلى لوحة فنيّة ويصبح شيحا رسامًا يتقن مزج الألوان ويعبّرِ عن أدقّ التفاصيل ويدعو القارئ إلى أحضان الطبيعة التي تُبَلسم الجراح وتبدّدِ الأحزان "عذبٌ كوعدٍ بالسعادة هذا الرُذاذ في نيسان يسقط من فضاء رماديّ فيه كوىً فسيحة زرقاء، فتفعل فينا نزوات الماء الأخيرة هذه فعل النشوة .الحديقة يغمُرها البَلَل. والأذاريون والقلنسويات (les soucis et les capucines ) وأزهار تمّ السمكة ارتوت ما وسعها، والأعشاب البريّةَ تفيض عطرًا. كلّ هذا يفوح شذاه في طبيعة مُثلى تُضفي علينا جوًّا من النعمة. كلّ فتنة هذا الربيع لا تُكتشف إلا بالدنوّ منه. ولا بدّ من الوقوف عند نافذته لكي تنجلي الرؤية . ولا بد من الهبوط على دَرَجات الدرج العتيق المصدّع. لا بد من التقدم على مهل في المسالك الصغيرة، مثل هذه العظاية السعيدة، المرصَّعة بالزمرد وهي لا تدري ما هو".

وتتميّزَ كتاباته اليوميّة بأناقة البيان والبلاغة في السرد والوصف والتعليق. إنه السهل الممتنع. سهولةٌ وعَفويّةَ، سَلاسةٌ ورِقّة. ألم يَقل ابن المقفع في البلاغة: "هي التي إذا سمعها الجاهل ظنّ نفسه يعمل مثلها"؟.

كما تستوقفنا عند شيحا مقالات تميل صَوْب الشِّعر. فهو شاعرٌ حقّاً في بعض ما كتب نثرًا. فلنستمع إليه في مقالة " الحديقة تحت المطر ": "ذلك إن هذه الطبيعة المبلّلَة لا تكتفي بإبهارنا، بل هي تحمل في باطنها بلاسِم وأسرارًا. هي تغمرنا بمفردات تنبع من الأصول، وببوادر شفقة تنتج الأدوية الفعّالة والمراهم العجيبة".

وقد تمنى شيحا لمقالاته الديمومة وتمنى أن يقاسمه القارئ ما أحبّهَ وآمن به فقال في مقدمة كتابه  "خواطر": "نأمل أن تكون هذه الصفحات المنبثقة عن تأمّلاتنا، وأحيانًا من أحشائنا، قد حافظت ما يكفي من الطبيعيّةَ والطراوة التي تستهوي القارئ فتستحق البقاء".

"المجلة التربوية" تؤكِّد أن مقالات شيحا صفحات خالدة من تاريخ لبنان. وستبقى نابضةً في الذكرى والذاكرة، حيّة في البال، حاضرةً في الضمير، راسخةً في العقل والوجدان. وها هي تدوّن اسم ميشال شيحا بين المبدعين الذين تركوا للأجيال الصاعدة إرثًا ثمينًا من أناشيد الحبّ ومزامير الوفاء للوطن، فتلقي أضواء على فِكرِه وشعره بأقلام نخبةٍ من الاختصاصيين الذين شاركوا في تحضير هذا العدد كما تقدّمِ لمعلّمِي لبنان وتلامذته حَصادًا من أقواله بالعربية والفرنسية. فهنيئًا لمدرسة تحفظ كتب ميشال شيحا في مكتبتها فيختار المعلّمِون من مقالاته ما يناسب مادة اختصاصهم. كما ننصَح معلّمِي الأدب واللغة، الاجتماع والاقتصاد، الفلسفة، التربية الوطنية والتنشئة المدنية،التاريخ، بأن يلقوا شباكهم في بحر مؤلّفَات ميشال شيحا، فإن الصيد لَوَفير!