التربية على الحوار
إنّ كلمة حوار في لبنان، كما العديد من الكلمات أصبحت مستهْلَكَة، ولا بُدّ من إعادة الاعتبار لها. وقد أخبرني بعض معلّمِي التربية الوطنيّةَ والتنشئة المدنيّةَ، خلال دورات تدريبيّةِ، أجراها المركز التربوي للبحوث والإنماء، أنّ المِحوَر، في الكتاب المذكور أعلاه، والذي يتناول موضوع الأحزاب في الصفوف الثانوية، يتسَبّبَ دَومًا بشجار بين التلامذة، ما يُضطّرُ معظم المعلّمِين إلى تجاوز هذا المِحوَر وعدم شرحه. وهذا مؤسف! فالتدريب على النقاش يبدأ بهذا المحور بالذات. ذلك أنّ الهَدَف التعلّمُي هو التربية على النقاش بعقلانية وهدوء، مرتكزين على وسائل الإقناع وليس الهدف الأحزاب بذاتها والاختلاف حولها. يحتاج المعلّمِون لإدارة نقاش بشكل منظّم إلى تدريب، علمًا أنّ تعليم التلامذة على النقاش بهدوء وإصغاء يشكّل بحدِّ ذاته القسم الأكبر من التربية على المواطنيّةَ. وهذا هو جوهر خطة المركز التربوي للبحوث والإنماء في مجال النهوض التربوي والتربية المدنيّةَ. وفي حال عدم النجاح بهذه المهمّةَ، يكون العمل مجرّد تلقين إملائيّ محدود الفائدة. |
1. مشاكل التربية على النّقِاش في لبنان
أبرز عوائق الحوار في لبنان والمنطقة العربيّةَ عامّةَ خمسة:
- عدم الإصغاء
يختلف الإصغاء عن مجرَّد الاستماع (entendre et écouter). الإصغاء هو أساس التطوُّر الشخصي برمّتَه. نلاحظ في الإنجيل تشديدًا من يسوع على الناس الذين يسمعون ولا يصغون، وينظرون ولا يرون. إنه الإصغاء لكلمة المحّبَة. يتوجّهَ إلينا آخرون بكلام ملؤه المحّبَة وحسن النيّةَ إلا أنّنَا لا نصغي. هناك من يصغي إلى الكلمات النيّرة وتنطبع بداخله. تركت بعض الكلمات التي قالها لي والدي وعدد من أساتذتي وقعًا كبيرًا في نفسي، في حين أتت عابرة ولم تترك أثرًا في نفس رفاق لي في الصفوف الثّاَنويّةَ. السبب في ذلك غياب الإصغاء.
نلاحظ تراجعًا في الإصغاء. لا يعني احترام الأهل طاعتهم، بل الإصغاء إليهم، وبعدها يقرّرِ الولد أو الشاب ما يفعل. الاحترام هو اعتبار الآخر ذات قيمة وجدير بالتقدير. والاحترام غير مشروط لو نظرنا إلى الطبيعة، إلى الشمس والنور والأزهار... لأدركنا أنّنَا نعيش في جنّةَ كونيّةَ، إلا أننّاَ لا نرى. أفسد الشرُّ الجنّةَ كما سوء استعمال الحريّةَ. الإصغاء إلى الكلمة النيّرَة مفيد وعلينا التمرُّس عليه.
الاحترام غير مشروط. إنّهَ قيمة مطلقة. القاضي الذي يحكم على مجرم يحكم عليه بموجب القانون، وهو ملزم باحترامه ولا يجدر به إهانته لأنّهَ إنسان.
شباب يجيبون أهلهم بشكل تعسُّفيٍّ وباستخفاف ولا يصغون. إنّهَ أمر يحدّ من التطوّرُ الذاتي. صدى كلمات الأهل يمتد لعشرات السنين وغالبًا ما يعيه البنون متأخرين. الأهل والمعلّمِون يريدون الخير لأولادهم وتلامذتهم. قد لا يكون بعضهم في المستوى المطلوب، ومع ذلك يبقى الإصغاء مفيدًا.
أحيانًا يهمل التلميذ بعض المواد بحجَّة أنَّه يطمح إلى التخصُّص في مجال محدّدَ ويكتفي حصرًا بمتابعة المواد المتعلّقِة بهذا الاختصاص. أساليب العمل والتقنيّات هي في تبدّلُ مستمرٍّ، ما يفرض على الإنسان معرِفة واسعة بمختلف الأمور. في الماضي كان الطالب يتعلّم طبَّ الأسنان مثلاً ويمارس ما تعلّمه طيلة حياته، ولكن اليوم، وإن دخل الطالب أفضل الجامعات، فإنّهَ لن يطبّق ما تعلّمه لأكثر من سنتين أو خمس سنوات بسبب التطوُّرات التقنيّةَ السريعة. لذا يقتضي الاستماع الدائم والإصغاء. وليس المطلوب التخصُّص في المجالات كافَّة، بل أقلّه الإصغاء. ثم إنّ المعلومات التي تمرُّ أمام الطالب تُفيده في مشاريعه المستقبليَّة. والذي يهتمّ لما سيفعله بعد خمسين سنة أدعوه لأن يدرس ربما اليابانيَّة والصينيَّة...، بدلاً من أن يقفل على نفسه داخل إطار ضيِّق. الذين يقفلون على أنفسهم يتحضَّرون بشكل منظّمَ لأن يكونوا في المستقبل عاطلين عن العمل. إنّ تعدّد المعرفة والكفاءات والقدرة على التكيّفُ هي الباب إلى سوق العمل.
الخطوة الأولى في التربية على النّقِاش هي الإصغاء. هناك أمور لم يعد الناس يسمعونها كزقزقة العصافير وخرير المياه... والكلمة الجميلة، ذلك أنّ الضجيج غلّف حياتنا، فلا بدّ من التمرُّس على الإصغاء.
- حوار سائب بدون قاعدة
هذا ما نُشاهده على شاشات التلفزيون حيث يستمرُّ الكلام في البرنامج الواحد لساعتين وأكثر ويتخلّلَه شجار وتنتهي الحلقة من دون نتيجة. إنّهَ أمر شائع.
خلال جلسة عائليّةَ تجمع الأهل والأقارب والجيران، يتوجّهَ الأب بملاحظة إلى ابنته فتتدخَّل الجارة والعَّم والصديق... مع أنّهَ ما من علاقة لهم بالموضوع! المسؤول عن الولد هو الوالد، إلا أن الوالد يتحوَّل إلى مُستمع في قضية تعنيه مباشرة، لأن الكلّ يتدخَّل في كل شيء وتعمُّ الفوضى بحجّةَ الحوار.
هناك حوارات رصدناها في مدارس خاصَّة وعريقة، كأن يسأل التلميذ معلِّمه: "لماذا حظيت على علامة صفر على المسابقة؟" يُجيبه المعلّمِ: "هكذا أصحِّح!" لا يشرح له مكامن الضَّعف. يعكس هذا علاقة مبنيَّة على القوَّة والنفوذ وليس على قواعد معياريّةَ.
قبل دخولي الجامعة كنت أُدرّسِ في إحدى المدارس ووضعت برنامجًا للامتحانات يُحدّدِ تواريخ إجرائها وعلّقَته حيث يراه التلامذة. بعد أيام قصدني خمسة وعشرون تلميذًا يطلبون تعديل البرنامج بحجّةَ أنّهَ لا يناسبهم. اعتذرت، على الرُّغم من اقتناعي بأحقيّةَ مطلبهم، وقلت إنني أعجز عن تغييره! تعجّبَوا واعتبروا أنني لا أحاور تبعًا لتربية معاصرة في "الحوار" وتساءلوا عن السبب الذي يمنعني من تعديل البرنامج مع أنني وضعته بنفسي. أوضحت أنّهَ بعد تعميم البرنامج على الجميع أصبح ملزمًا لي أنا أيضًا، إذ قد يكون بعض التلامذة قد نظّمَوا أوقاتهم على أساس البرنامج، وبات تغييره يمسُّ بحقوق أساسية ويضرَّهم. أوجد هذا البرنامج عند نشره حقوقًا للغير وبالتالي لا بدّ من مراعاة شروط حقوقيّةَ في تعديله بشكل لا يمسُّ بحقوق الغير الأساسيّةَ. نتيجة ذلك اتّهُمت بأنّنَي متصلّبِ وأرفض الحوار في حين أنني قدّمت مفهومًا للحقوق في هذه المسألة.
من الأمثلة أيضًا على الحوار السائب التعامل في أمور أساسيّةَ من منطلق معليش، شوفيها، مَشّيها، بيناتنا، ما تحمل السلّم بالعرض... إذا ما رسب تلميذ في امتحان تتّصَل والدته بالمديرة وتطلب ترفيعه معتمدة على علاقة القربى والصداقة والجيرة. وفي حال لم تتجاوب المديرة مع طلب الأم يُقال عنها إنها... لا تحاور!
- عدم المكاشفة والمصارحة
إنَّه التكاذب والتذاكي والمجاملة والمسايرة وعدم البوح بالمشاعر والأفكار بصدق. إنّهَا أمور تُعْوِقُ التوصُّل إلى حلول. بات المطلوب لمعرفة ما يجري حقّاً في الواقع اللبناني ليس الاستماع إلى ما يقوله الناس علنًا، بل استشفاف الحقيقة من خلال ما لا يقولونه! يقول أحدهم: "لا يوجد في لبنان أفكار سياسية بل خلفيَّات غير معلنة"
(Au Liban, il n’y a pas de pensées politiques, mais des arrière-pensées)
كثيرًا ما كنت أسمع في إحدى المدارس معلّمِين يقولون في الجلسات الرسميّةَ إن الأمور كافّةَ تسير على ما يرام والتلامذة جيّدِون، في حين كنت ألتقط حقيقة الأمور في الممرَّات وفي الكافيتيريا وخلال الأحاديث الجانبية! ما يحول دون المصارحة هو الاعتقاد بأنّ الحقيقة تجرح. إنّهَا تجرح عندما تُقال من دون محبة.
المعضلة الكبرى التي تواجهها التربية هي التوفيق بين الصراحة والاحترام. غالبًا ما نحوّلِ الاحترام إلى مجاملة ومسايرة ولياقات اجتماعيَّة ولا نتصارح. النقد الإيجابي والصادق ضروريّاَن وأدعو التلامذة والطلاب إلى ذلك، على أن يراعى الاحترام.
شاهدت عملاً مسرحيّاً في القاهرة لمؤلّفِه لينين الرملي مدّته ساعتان، وهو بعنوان "بالعربي الفصيح". يعرض للذهنيّةَ العربيّةَ القائمة على التكاذب والمجاملة والمسايرة وعدم المصارحة وعدم المكاشفة، وذلك من خلال تناوله حالة عشرين طالبًا عربيًّا يدرسون في بريطانيا. اكتشفوا أن صورة العرب في بريطانيا سيّئة فأرادوا تغيير الصورة، غير أنهم لا يلتزمون بحصص التدريس ويضيّعِون الوقت بالسهر في المقاهي. تُواجههم مشاكل جمّةَ مع الشرطة البريطانية ومع أهاليهم وفي ما بينهم...، لأنَّ تصرُّفاتهم كافّةَ مبنيّةَ على التكاذب والتذاكي والمجاملة وعدم المصارحة. حصل انفجار يومًا في مقهى كانوا فيه، فأخذوا على أثره يُكثرون الكلام بداعي "الرجولة"، وما من علاقة لهم بالانفجار. لكنّ للكلام معانٍ عند البوليس البريطاني! ورَّطوا أنفسهم في مشكلة لا علاقة لهم بها. وعندما خُطف يومًا أحد زملائهم عقدوا اجتماعًا بغية نجدته، ولكنَّهم أمضوا الوقت يتشاجرون حول من يترأس الاجتماع! ثم أصدروا بيانًا لا علاقة له بما تناولوه في الجلسة! وتنتهي المسرحّةَ بعد ساعتين وهم يُردّدِون: لدينا مشكلة، لدينا مشكلة...! ويُسدل الستار على هذه العبارة التي تتحوَّل إلى شعار جديد كالامبرياليَّة والرجعيَّة والرأسماليّةَ...، بدلاً من السعي إلى إصلاح الذات.
- ردّاَت الفعل والانفعال
غالبًا ما يُنظر إلى الإنسان الهادئ والطويل الأناة وكأنّهَ فاقد الرجولة والكرامة. خلال الحروب في لبنان في 1975-1990 حصل خمس وسبعون اتفاقية لوقف إطلاق النار، وفي كل مرّة كانت تتجدّد عملية إطلاق النّاَر كردّةَ فعل. استغلت ردود الفعل في لبنان. يوجد في المدارس أولاد هادئون ومُسالمون وآخرون مُشاغبون يعتمدون الصراخ والفجور لتحقيق مآربهم والجميع يهتمّوُن بهم بمجرَّد سماع صراخهم. تعلّمَت خلاف ذلك عند الآباء اليسوعيين بحيث لم يكن التلميذ المشاغب أو المضطرب يحظى بأذن صاغية، بل يُطلب إليه طرح مشكلته عندما يعود إلى هدوئه. تعود الانفعالية إلى غياب العقلانيّةَ في السلوك، في حين يُحتمل ان يكون الشخص الهادئ يحضِّر مخطَّطًا للانتقام.
يحتاج الحوار السيطرة على الذات والاستعداد النفسي. يقول Pascal باسكال: "يستحيل أن يطرح أحدهم فكرة وتكون خاطئة مائة في المائة، إنّهَا سليمة من وجهة نظره هو. هناك من ينظر إلى الأمور من وجهة نظر ضيّقِة، ويستلزم الحوار معه الانطلاق من نظرته وتوسيعها شيئًا فشيئًا". يقول بول فاليري Paul Valéry: "كل وجهة نظر خاطئة" (Tout point de vue est faux)، ذلك أنّهَا محدودة بناحية من الموضوع. الحقيقة هي أوسع من أن تكون وجهة نظر. إنّهَا تحتاج لعشرات وجهات النظر التي تكوّنِ نظرة شاملة.
وعندما يدور الحوار حول مواقف لن يتوصل إلى الحلّ مطلقًا. الدخول على أي موضوع من منطلق المواقف لا يؤدّيِ إلى معالجته، بل يجب بداية طرح الموضوع لتُتّخَذ بعده المواقف. إذا قال أحدهم إنه يحب البطاطا وآخر إنه لا يحبّهُا! الجدل في هذا المجال لن يؤدّيِ إلى نتيجة، في حين نستطيع التوصُّل إلى نتيجة لو عرضنا لفوائد البطاطا ومضارّهِا... وبعد ذلك قد يغيّرِ أحد المتحاورين موقفه من وجبة البطاطا.
- إدارة النّقِاش
تقوم تقنية إدارة النقاش على عناصر عدّةَ:
أ. وحدة الموضوع فلا نقفز من موضوع إلى آخر.
ب. طرح موضوع، وليس مواقف وكذلك التفكير بحريّةَ وليس اجترار أفكار الآخرين، أي تكوين رؤية خاصة وتحليل الأمور. يقول بعضهم بفخر: "أنا زلمة فلان"، كما لو أنّهَ قطعة مفروشات، علمًا أنّ الله خلقه حرًّا. تقول معلّمِة فلسفة في إحدى المدارس: "أسأل التلامذة سؤالاً فيجيبونني برأي سمعوه من حولهم". لا يُجهدون النفس بالتفكير والتحليل. يقول كانت Kant: "لتكن لديك الشجاعة أن تستعمل فكرك أنت"
Aie le courage de te servir de ton propre entendement
ج. لا بدّ من معايير (normes) للنِّقاش ووضع بوصلة وقاعدة.
د. الهدف أن يؤدِّيَِ النقاش إلى نتيجة، فلا يكون نوعًا من الزجل، بغضِّ النظر عن جمال الزجل. الغاية من طرح مواضيع هو الوصول إلى نتيجة وليس إطلاق القوافي.
2. ما العمل لتنمية التربية على النّقِاش؟
الحاجة إلى نشر ثقافة النّقِاش. لا يجدر بطلاب المدارس والجامعات تكرار سجالات متداولة في الشارع. المدارس والجامعات هي المكان الملائم لإنتاج فكر متميّزِ أصيل وجديد لا يَنقل ولا يجترُّ ما يُقال في سوق التنافس السياسي والشارع، بل يُغني الشارع بأفكار جديدة. المؤسف ان طلاب جامعات يحملون خلال الانتخابات الطلابية يافطات أحزاب ويصفّقون وهم مجرد امتداد لهذه القوى. من يُدخل الشباب والمهنيّيِن والنقابيّيِن إلى مؤسسة أو جمعية فهو يبتغي الوقوف على تطلّعُات مختلف شرائح المجتمع. الالتزام مطلوب وضروري، ولكن ليس الاستزلام.
كثيرًا ما أطرح موضوعًا يهمّ الشباب بغية التدريب على مناقشة عقلانيّةَ ومنظّمَة وتخرج بنتيجة، كما يحصل في مجلس النواب البريطاني ومجلس النواب الفرنسي...، حيث تحصل مناقشات بشكل راقٍ وتُطرح وجهات النظر وتتكامل، ويتولى رئيس إدارة الجلسة، ويخرج الجميع بخلاصة ثم يصار الى التصويت... في ذلك سياق وتنظيم وترتيب.
في الماضي، كان يُنظّمَ في بعض المدارس نقاش خلافيٌّ (débat contradictoire) وهو كناية عن جلسة تُطرح خلالها قضية يشوبها التناقض في المقاربات. يقوم فريق بالدفاع عن الفكرة إيجابًا ويعرض فريق آخر سلبياتها. الغاية تدريب التلامذة على الإصغاء إلى بعضهم وإكسابهم هذه الفضيلة.
هناك أساليب أخرى في إدارة النقاش. لا يجوز مواجهة صاحب فكرة بالقول إن تفكيره خاطئ. الأفكار التي تبدو سخيفة أو خاطئة ليست بالضرورة كذلك، بل قد تكون أفكارًا عميقة. الأفكار السائدة ليست بالضرورة صحيحة. نجد في الإنجيل المقدّسَ أن ما كان يعتبره الناس سليمًا وأنّهَ الحقيقة، أتى المسيح ومارس التشكيك به وبمسلّمات سائدة.
بناءً على ما تقدّم فإنني أدعو المركز التربوي للبحوث والإنماء إلى تعزيز مساحة التعلّمُ على الإصغاء والنقاش والحوار في إطار القاعدة التي نؤمن بها وهي قبول الآخر واحترامه احتراماً للذات.