ممّ يعاني قطاع التعليم الرسمي الأكاديمي في لبنان ؟
ممّ يعاني قطاع التعليم الرسمي الأكاديمي في لبنان ؟
سؤال ما زال يتردّدَ بقوة في الأوساط المعنيّةَ، ولا سيّمَا أن الجميع يلاحظ كثافة التسرّب المدرسي والتردي في مستويات مخرجات التعليم في مرحلة التعليم الأساسي على وجه الخصوص والتي تشكل الأساس الذي تبنى عليه المراحل التعليمية التالية. غير أن الأمر بدأ يأخذ بعدًا دراماتيكيًا، بعد التراجع الكبير الذي أصاب ولا يزال التعليم الرسمي على مختلف الأصعدة، هذا إذا لم نتطرَّق إلى التعليم الخاص المجاني غير المعلّلَ لارتفاع تكلفته بالنسبة لأولياء الأمور والدولة مقارنة مع ضعف إنتاجيته والذي ينمُّ عن عجز الدولة في مقاربة موضوع التعليم الخاص على الأقل. ولم يكفِ ما بذلته الحكومات السابقة حتى تاريخه، من تشييد أبنية حديثة وإجراء الدورات التدريبية المتواصلة والتحديث الذي طاول المناهج بغض النظر عن المواقف المتباينة بشأنه إلخ ... لأن نظرة عميقة في الموضوع سوف ترينا الوهن الذي يصيب ما كان يفترض أن يعتبر عاملاً إيجابيّاً في خدمة التربية والتعليم في لبنان.
لكن ما سوف نتطرّق إليه في مقالتنا هذه يمكن أن يكمل ما جاءت به الخطة الخمسية الشاملة المزمع تنفيذها والتي شملت شؤونًا متنوّعة ومحاور عدّة ورئيسة، إذا ما أردنا أن نحدث تغييرًا جوهريّاً في النظرة العامة للتعليم الرسمي في لبنان.
1. في الملاحظة
من أجل فهم أفضل لواقع التعليم الرسمي سوف نقوم بمقارنة، في حقل التعليم، بين القطاعين : العام والخاص، بصورة عامة أي من دون الدخول في الخصوصيات، وسوف نبحث عن العوامل التي تميل لمصلحة التعليم الخاص، من دون أن نتنكَّر للميزات الإيجابية التي لا تزال تشدّ أزر التعليم الرسمي مثل المستوى التعليمي للمعلّمِ وحريته النسبية إزاء ضغوط الإدارة باعتباره محصّنًا بالقوانين الوظيفية . وسنحاول استخلاص ما يخدم المصلحة العامة.
من بين نقاط القوة للمدرسة الخاصة نعرض الآتي:
- عدم خضوع التعليم الخاص عمليّاً للرقابة التربوية في الحدود الدنيا والضرورية التي تضمن بقاءه ضمن الأطر التي حدّدها الدستور مع ضمان الحفاظ على حريته في الوقت نفسه. من شأن ذلك المساعدة على التخفيف من حدة التمزّق الاجتماعي والوطني وإنجاح خطة التدريب على المواطنية الواردة في الخطة الإنقاذية الشاملة لوزارة التربية والتعليم العالي، بعد أن أصبحت كل مؤسسة تعليمية خاصة تغرس في نفوس صغارها صورة الوطن الذي تراه، حتى صار لنا “لبنانات” متعدّدة ومتناقضة بعدد هذه المؤسسات. هذا في الوقت الذي كانت فيه المدرسة الرسمية ولم تزل، رمزًا لوحدة الوطن وسرمديّته.
- حرية الإدارة الخاصة في اتخاذ الإجراءات التأديبية التي تراها مناسبة بالمقدار الذي تريده، من دون حرج، وبالسرعة اللازمة، بحق المعلّمِ لديها حتى لو بلغت درجة التعسّف، بالرغم من النصوص القانونية التي يفترض أن تحميه. فتلجأ مثلاً إلى فصل أي معلّمِ لديها، لأسباب صرف مادية، ضمن أطر القوانين أو حتى خارجها، يشجعها في ذلك ضعف تطبيق القانون من جهة وعامل الفساد من جهة أخرى.
- استفادة القطاع الخاص من عامل زيادة الطلب على الوظيفة بسبب ارتفاع معدل البطالة بين الشباب الخريجين، من خلال التحكّم في ظروف العمل والبدل المالي وحتى في تقديم الضمانات المستحقة للموظفين، واضطرار المعلّمِ إلى التزام الصمت.
- اعتماد الإعلام والإعلان بكثافة، في القطاع الخاص، للبقاء دائمًا في الصورة، تلك التي يغيب عنها التعليم الرسمي إلى حد كبير، وإقامة اللقاءات الدورية والمناسبات الاحتفالية الدينية والاجتماعية والوطنية والفنية وصرف الموازنات اللازمة عليها وتقديمها في قالب شيّق يجتذب الأهل والأبناء على السواء، خصوصًا الصغار منهم، الأمر الذي يفتقدونه في المدرسة الرسمية إلى حدّ كبيرويشكّل عامل جذب مميّز للمدرسة الخاصة.
- اضطرار المعلّمِ إلى تحسين أدائه ورفع مستواه الأكاديمي والتربوي بجهده الخاص في أغلب الأحيان للمحافظة على موقعه. في المقابل، نجد الكثيرين من المعلّمِين الرسميّين، بشكل عام أيضًا، يميلون إلى بذل الجهد الأقل إن في العمل أو في متابعة الدورات التي ما زالت اختيارية وفي حدها الأدنى، وذلك بسبب غياب الحوافز. يكفي لتبيّنُ ذلك أن نتابع ما يحصل في مراكز التدريب المتعددة والمتضاربة أحيانًا، من تغيّبُ عن الدورات، أو اختيار الأسهل منها أو تلك التي تتطلّبَ الوقت الأقل، حتى ولو كانت أقل نفعًا لجهة المردود التربوي. ومعلوم تأثير ذلك في العملية التعليمية.
- تقديم الإغراءات المالية الكثيرة، في الخاص، لأولياء الأمور مثل التخفيضات الموسمية والحسومات على الولد الثاني أو الثالث، إلخ ... وإعطاء إفادات بالرسوم المستوفاة للأولياء الموظفين في القطاعين العام والخاص تتجاوز، في أغلب الأحيان، المبالغ المدفوعة فعليّا ما يسمح لهؤلاء بالاستفادة المادية المبالغ فيها أحيانًا، من الصناديق الضامنة الرسمية منها والخاصة، خصوصًا إذا ما علمنا أن المنح التعليمية التي تقدمها هذه المؤسسات إلى الأولياء الذين يعلّمِون أبناءهم في المدارس الخاصة تفوق بكثير تلك المقدّمَة إلى الذين يستفيدون من خدمات المدرسة الرسمية وفي ذلك تفضيل للتعليم الخاص على الرسمي، وهو عامل يجتذب جميع أبناء الموظفين تقريبًا على حساب المدرسة الرسمية.
- توافر بناء مدرسي حديث في الشكل والمضمون وتجهيزه بما يلزم من مساحات للأنشطة المتنوّعِة وإعطاؤه الشكل الخارجي الذي يوحي بالحركة والحياة من ألوان فرحة وزينة تنسجم ومزاجية الأطفال وتلتقي إلى حد بعيد مع نظرة أولياء الأمور الشباب إلى البيئة المثالية لأبنائهم، الأمر الذي تفتقر إليه المدارس الرسمية بشدة. في الواقع، إن الناظر إلى البناء المدرسي الرسمي يجده ذا نمط تقليدي جاف يذكر كثيرًا بالمستوصفات القديمة، طبعًا بصرف النظر عن الأبنية الجديدة التي أقامتها الدولة في مختلف المناطق وهي على درجة عالية من الحداثة لكنها ما زالت قليلة نسبيّاً وتفتقر إلى التجهيز، إذا ما قورنت بالحاجات الفعلية خصوصًا في الأرياف حيث البناء قديم وسكني وأحيانًا غير صالح لجهة الإضاءة والتهوئة والرطوبة والحاجة إلى صيانة ... ولا يسمح بممارسة الأنشطة التي تتطلّبَها المنهجية الحديثة.
- التجدّد في المادة التعليمية في الخاص من خلال متابعة الإصدارات التربوية الجديدة والدورات التي تقدمها الدولة والقطاع الخاص، ومصادر المعلومات الإلكترونية والتوأمة مع مؤسَّسات عالمية رائدة واستخدام التقنيات الحديثة التي اعتادها الجيل المعاصر من آليات التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت وغيرها.
- اختيار المدرسة الخاصة لعنصر الشباب وتجديد هيئتها التعليمية خصوصًا في صفوف الروضات والتعليم الأساسي على عكس التعليم الرسمي الهرم بصورة عامة والذي يضم في أكثرية مؤسساته التعليمية أشخاصًا لم يعودوا قادرين على ممارسة التعليم أو التكيف مع حاجات المناهج الجديدة أو حتى الاستفادة من الدورات التدريبية التي تقيمها الوزارة. (أنظر التقرير السنوي للمفتشية العامة التربوية للعام 2011).
توزع عدد المعلّمِين بحسب العمر
النشرة الإحصائية ( 2009 / 2010)
العمر | الرسمي | الخاص (مجاني وغير مجاني) |
30 وما دون | 7 % | 17.3 % |
31 - 40 | 11.4 % | 15.5 % |
51 وما فوق | 15.9 % | 8.6 % |
لا بل أن بينهم من لم يعد يصلح للتواجد في المدرسة الرسمية لأسباب صحيّة، أو جسدية أو عقلية أو نفسية، والذين ينتظرون ، بالنظر إلى أعدادهم، قرارًا سياسيّاً يمكنه بالإضافة إلى إعادة فتح باب التعيين واستيعاب المجازين من الشباب المؤهلين، أن يعيد الثقة إلى المدرسة الرسمية. مع الإشارة إلى استمرار مشكلة التعاقد في الرسمي التي لم تُحل، والفائض المزمن في ملاك بعض المدارس لأسباب مختلفة، والإرشاد الذي ينتظر تطبيق نصوصه الموجودة منذ زمن وإنهاء وضعه الشاذّ، وتفعيل دوره بسبب الحاجة الماسّة إليه، والمناقلات بين أفراد الهيئة التعليمية التي شهدت في العام 2011 ستين حالة نقل، وإلغاء حصص تدريسية تقررت في مرسوم المناهج رقم 10227/ 97 بسبب وجود التعاقد في المدرسة، وعدم السماح أحيانًا بالمدرّسِ الاحتياطي أو بالتنسيق غير المفعَّل، للسبب نفسه وتعثُرّ مرحلة الروضة وخلوّهِا من الحضانة، وغيرها من الأمور.
- عدم تأثر إدارة المدرسة الخاصة بوضع وزارة التربية التي تحتاج إلى تعديلات أساسية في نواح عدة تشمل الهيكلية والجهاز البشري والنصوص القانونية بعد أن توافر المبنى اللائق، كي تواكب العصر والحاجات الفعلية والبعد عن الروتين الإداري واعتماد الاختصاص التربوي والإداري والقانوني وإلى إبعادها عن نزوات السياسة وتقلّبُاتها. فالمدرسة الخاصة هي إلى حد كبير بمنأى عن تلك المؤثرات السلبية التي تعوق تقدم المدرسة الرسمية.
- التغطية المالية التي تميز القطاع الخاص، والتي تسعى المدرسة الخاصة إلى تأمينها بمختلف الأساليب، حتى غير المقبولة أحيانًا كثيرة، مثل طريقة اختيار ممثّلي مجلس الأهل وإقناعهم بخططها، وضعف الرقابة الفعلية الرسمية عليها ... واستيفاء رسوم مُبالَغ فيها تحت أسماء وهمية ... بينما يتدنى تمويل صناديق المدارس الرسمية إلى ما دون الحد الأدنى في أحيان كثيرة، ولا تتوافر أحيانًا الاعتمادات لتأمين المحروقات فيمضي التلامذة فترة من شتائهم القاسي من دون تدفئة، ومن دون أن تغطي صناديق التعاضد جزءًا يسيرًا من تلك الحاجات، فيضطر بعض المديرين الشجعان والمخلصين إلى الاستدانة أو الدفع من مالهم الخاص. أضف إلى ذلك عدم توافر ما يؤمن تزويد المكتبة والمختبر – إذا وجدا – أو يدعم الأنشطة الصفية واللاصفية ... إلا إذا تقدم أولياء الأمور بهبات مالية إضافية، مع أنه لم يتبق بينهم سوى العاجز ماديّاً، ممن اضطر إلى إرسال ولده إلى مدرسة رسمية.
2. في الاقتراحات
باختصار، إن النية الحقيقية في إعادة التعليم الرسمي إلى موقعه الرائد تبدأ من إيمان المسؤول أولاً بأن المدرسة الرسمية هي المنطلق لبناء جيل جديد ذي رؤية وطنية واحدة ضمن التعدّدُ، يكون على كاهلها النهوض بلبنان موحّدَ وسرمدي بعد أن تخرج من جزر المدارس الطائفية والمذهبية.
لتحقيق هذه الغاية يجب أن يبدأ العمل الفعلي على المستويات الآتية :
1. إعادة هيكلة بنية وزارة التربية والتعليم العالي بشكل عصري يواكب الحاجات المستجدة بحيث تصبح أكثر مرونة وقابلية لتطبيق الاستراتيجية التربوية وذلك على المستوى البشري والقانوني واللوجستي والمادة التعليمية (التي لاحت بوادر تعديلها في الخطة الشاملة للوزارة).
2. بعث الحياة في المدرسة من خلال:
- إنهاء وضع الترهُّل في الهيئة التعليمية من خلال خلق الحوافز لتقاعد كبار السن أو بنقل المتعثّرين بينهم – بعد تقييم للأداء – إلى إدارات أخرى بحيث تحفظ حقوقهم المكتسبة وكرامتهم.
- إنهاء التراكم غير المجدي في الكادر التعليمي وإنهاء حالة التعاقد الاستثنائية بإخضاع المتعاقدين لاختبارات تقيّمِ خبرتهم التربوية التي اكتسبوها في التعليم إضافة إلى قدراتهم الأكاديمية وأقدميتهم، بقرار وطني شجاع ونهائي.
- فتح باب التوظيف على مصراعيه من حملة الاختصاص الشباب، وخلق الحوافز المادية والمعنوية للمعلّمِ من طريق ربط الترقية والترفيع والمكافآت بالدورات وبالأداء الوظيفي، وإنصاف المعلّمِ بسلم متحرّكِ وآلي للأجور لا يحتاج معه إلى التحرك للمطالبة بحقوقه، وبعد ذلك التشدّد في تطبيق مبدأ الثواب والعقاب من قبل الرؤساء التسلسليين وأجهزة الرقابة.
- وضع وتطبيق معايير أكثر صرامة في اختيار المديرين وإعطاؤهم هامشًا أكبر في اتخاذ القرارات الإدارية والمالية ضمن مدرستهم مع التشدّد في الرقابة اللاحقة.
- تأمين البناء المدرسي الحديث وتجهيزه بما يلزم، ورفد المدرسة بما تحتاجه من إمكانات فنية وإدارية ومادية بما يسمح لها فعليّاً بتحقيق ما وجدت لأجله.
3 . التفكير والعمل ضمن الإمكان بعقلية القطاع الخاص لأجل التمكّن من منافسته، على مستوى الإعلام والإعلان والنشاط المدرسي الصفي واللاصفي ومقاربة شكل ومضمون البناء المدرسي والعلاقة والتواصل مع الرأي العام والهيئات المحلية. بالإضافة إلى تغيير جذري في سياسة المنح المدرسية لصالح المدرسة الرسمية.