في قواعد اللّغة العربيَّة والألسنيَّة*

في سبيل قواعد اللُّغة:

    في كلِّ مرَّةٍ نروحُ فيها إلى الحديث على اللّغة، يستقيم في ذهننا أمران:

-  الأوّل: الصِّراع بين العاميَّة والفصحى.

-  الثاني: مسألة تيسير النَّحْو العربيِّ أو قواعد اللُّغة العربيَّة، وما يرافقها من نظرات في التعلُّم والتَّعليم. وحديثنا هنا ينسحب على قواعد اللّغة والألسنيَّة.

وفي قضية اللّغة من حيث هي أداة كلام وكتابة، وصِلَة اتصال وتواصل ووسيلة فَهْم وإفهام وتفهيم، يرتسم مُشوِّر أساسيٌّ هو الحرف/الصوت الذي به يُكتب الكَلِم أو يُنطق. وتبرز ترسيمة (Esquisse) الصِّراع بين اللُّغة الفصحى والعاميَّات (أي اللُّغات واللَّهجات المحكيّة) من جهة، ومن جهة ثانية مسألة الكتابة أي الحرف، الذي يجب أن تُكتب به اللّغة، فهل تكون القضيّة في تبسيط الحرف العربيِّ القائم، أو كتابة اللُّغة بالحرف اللاَّتينيّ؟ [كون المبحث هذا يهتم بقضايا العربيّة وقواعدها].

    ومهما قيل في العاميَّة، وفي مسألة معالجة إحلالها محلَّ الفصحى، فإنّ القضيَّة ليست جديدة عند الرُّوَّاد، لا في عصر النَّهضة العربيَّة ولا في العصر الحديث، فقد عُني العرب قديمًا بها من أجل خدمة الفصحى عينها والمحافظة عليها سالمة من التَّحريف واللَّحن والدَّخيل. فلما انتشر الإسلام وامتدّت فتوحاته، ازداد اختلاف لهجات المحادثة بسبب اختلاط العرب بغيرهم من الأمم، وكان من أوّل مظاهر ابتعادها عن الفصحى اللَّحن [واللَّحن هنا يعني الخطأ في اللُّغة]، وهو أوَّل أدواء العاميَّة. وقيل: إنَّ اللَّحن ظهر أوّل ما ظهر في عهد النبيِّ العربيِّ (ص)، فقد رُوي أنّ رجلاً لحن بحضرته، فقال (ص): "أرشدوا أخاكم فقد ضلّ" ... ورُويت أخبار كثيرة عن شيوع اللّحن منذ القرن الأوّل في عصر الدولة الأمويّة، واستهجان خلفائها وولاتها وأدبائها له[1].

    ولما ازدادت أدواء اللَّحن، الذي طرأ على اللِّسان العربيِّ، اتَّجه العلماء إلى كلام العامَّة محاولين إصلاحه لا تدوينه فألَّفوا في ذلك عشرات الكتب منبّهين إلى لحن العَوامّ والخواصّ، الَّذين تطرّق الفساد إلى ألسنتهم. ومن هذه الكتب نذكر على سبيل المثال: لحن العوامّ، المنسوب إلى علي بن حمزة الكِسائيّ (ت 189هـ). ولحن العامَّة، لأبي زكريَّا الفرَّاء (ت 207هـ)، وما يلحن فيه العامَّة، لأبي عبيدة معمر بن المثنى (ت 210 هـ)، وما يلحن فيه العامَّة لعبد الملك بن قُرَيب الأصمعي (ت 216 هـ) ..، وإصلاح المنطق، لأبي يوسف يعقوب بن إسحق بن السِّكِّيت (ت 244 هـ)، ولحن العامَّة لأبي حاتم سهل بن محمد السّجستانيّ (ت 255 هـ)، وكتاب النَّحْو ومَنْ كان يلحن من النَّحْويِّين، لأبي زيد عمر بن شبة البصري (ت 262 هـ) ..، ولحن الخاصَّة لأبي هلال الحسن بن عبد الله العسكري (ت 395 هـ)، ودرّة الغوّاص في أوهام الخواص، لأبي محمد القاسم بن علي الحريريّ (ت 516 هـ) ..، وأغلاط الضعفاء من الفقهاء، لأبي محمد عبد الله بن بري بن عبد الجبار (ت 582 هـ)، وتقويم اللِّسان، لعبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي (ت 597 هـ). وغيرها كثير. والذي أوردناه، إنما هو نماذج من الكتب التي تدلّل على اهتمام الأقدمين بمسألة العاميِّ والفصيح[2]، أو ما يُشابهه. والمؤلَّفات هذه لم تكن دراسات في العاميَّة، وإنما كانت تهدف إلى تقويم ألسنة العامّة، من هنا كانت في بُعدها اللغويِّ نوعًا من دراسة الفصحى والحفاظ عليها، سالمةً من اللَّحن والتَّحريف والدَّخيل، ولم يشذَّ عن هذه القاعدة غير ابن خلدون حيث نظر إلى العاميَّة، في مقدّمته، نظرة قريبة من نظرة المستشرقين ومَنْ شايَعَهم في العصر الحديث[3]. ذاك أن العلماء القدماء لم يروا في العاميَّة لغة غير الفصحى، وإنما رأوا فيها تحريفًا لها [أي الفصحى]. ويقول ابن خلدون في هذا الموقف: "وكانت الملكة [أي اللّغة] الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات" .. فلما جاء الإسلام وفارقوا الحجاز لطلب الملك الذي كان في أيدي الأمم والدول وخالطوا العجم تغيَّرت تلك الملكة بما ألقى إليها السَّمْعُ من المخالفات التي للمستعربين، والسَّمع أبو الملكاتِ اللِّسانيّة، ففسدت بما أُلقيَ إليها مما يغايرها لِجُنُوحها إليه باعتبار السَّمْع، وخَشِيَ أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأسًا ويطول العهد بها فينغلق القرآن والحديث على المفهوم، فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطَّردةً شِبْهَ الكلِّيات والقواعد، يقيسون عليها سائر أنواع الكلام ويُلحقون الأشباه بالأشباه مثل: أنّ الفاعل مرفوع، والمفعول منصوب، والمبتدأ مرفوع، ثم رأوا تغيُّر الدلالة بتغيُّر حركات هذه الكلمات، فاصطلحوا على تسميته إعرابًا. وتسمية المُوجِب لذلك التغيُّر عاملاً وأمثال ذلك. وصارت كلّها اصطلاحات خاصَّة بهم، فقيَّدوها بالكتاب وجعلوها صناعة لهم مخصوصة، واصطلحوا على تسميتها بعِلْم النَّحو"[4].

    فإذا كان فساد اللِّسان العربيِّ قديمًا وما اعتور اللّغة من تحريف ولحن ودخيل قد أدّت جميعُها إلى ضبط اللّغة وضرورة وضع قواعد لها تحفظها وتصونها؛ فما الرَّأي، اليوم، وقد أصاب لساننا من الرَّطانة والعُجْمة، وأحيانًا، من العدائيّة ما قد يؤدّي به إلى الانهيار.

    والقضيّة في اللُّغة وتفرعاتها وتعدُّد لهجاتها، أو إذا شئت تعدُّد اللُّغات داخل اللُّغة الواحدة ليست بجديدة، لكنّ استفحال الضَّعف والتَّرهُّل في اللِّسان العربيِّ لم يعرف وقتًا حَرِجًا أكثر من وقتنا الحاضر. لذا كان لا بدَّ من قيام نهضة لغويَّة قواعديَّة جديدة تقنِّن أصول تيسير قواعد اللُّغة وتقريبها إلى النَّاس ..

    وأسارع إلى القول: إنّ التَّرهُّل في اللِّسان العربيِّ لا يعود إلى اللُّغة وقواعدها – وإن كان في القواعد بعض الصُّعوبة – وإنَّما يعود إلى صاحب اللُّغة أوّلًا وإلى طرائق التَّدريس، ثانيًا.

    وإذا كانت الشَّكوى أنّ أولادنا لا يفقهون اللُّغة وقواعدها ولا يعرفون ماذا يدرسون ويتعلّمون، أبادر إلى التّذكير بقول أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب (ع): "لا يُقرئ القرآن إلاّ عالم باللُّغة". لذلك، لا يجوز أن يعلِّم العربيّة ويدرّسها حتّى في الصُّفوف الابتدائيَّة إلَّا عارف باللُّغة، فاهم بقواعدها، مدرك أسرارها، عَلِيم بأصولها، خبير بطرائق التَّدريس والتَّعليم.

    وقديمًا، كان للنُّحاة غايتان، فأمَّا النُّحاة العرب الأوائل، الذين صنَّفوا النَّحْو، فقد قَعَّدوا القواعد وجعلوا من النَّحو عِلْمًا مهمًّا من علوم العربيَّة، وأمّا النُّحاة الموالي فقد حوَّلوا النَّحْو العربيَّ من منهج علميٍّ إلى منهج تعليميٍّ، وأخذوا يضعون المختصرات والشُّروحات، واتّضحت الغاية النَّحْوية التعليميَّة في أذهان العرب أيضًا ومنهم أبو الأسود الدُّؤليّ نفسه.

    وفي قضية تيسير النَّحْو العربيِّ، لم يألُ النُّحاة الأقدمون جهدًا في النظر إلى هذه المسألة. فهذا، مثلاً، ابن جِنِّي (ت 392)، وهو يحكي آراء النَّحْويين، وتعجبه تعليلاتهم لظواهر الإعراب، ولكنَّه يستشعر بين الحين والحين ضعف تلك العِلَل. لا يملك نفسه من التَّصريح بضعفها، كأنه يراها لا تخلو من الصَّنعة والتكلّف[5].

    ويكاد يكون ابن مضاء القرطبيُّ (ت 592) أوعى مَنْ وَعَى إشكاليَّة صعوبة النَّحْو وضرورة تيسيره، وله في ذلك كتاب "الرَّدّ على النُّحاة"، وهو "كتاب هجم فيه على نُحاة المشرق، وفنَّد بعض قواعدهم في اعتبار العامل وفي توجيه العِلَل، وفي اعتبار القياس، وفي التَّعويل على التَّمارين الفرضيَّة"[6]. ورأى أن أكثر تعسّف النحاة إنَّما جاءهم من إسرافهم في الصِّيَغ والأبنية، وحذّر من هذه الوسائل المتحجّرة الجامدة في صوغ الكلام العربيّ[7]. وإذا كان قد وقع في بعض الشَّطط أو المغالطة، فذلك بسبب حُبِّه النَّحْو وَوُلُوعه بالإعراب، ومع ذلك، لم يبلغ حدَّ إنكار ما للحركة الإعرابيَّة من مدلول، كما يفعل بعض مَنْ يدَّعي تيسير النَّحْو في العصر الحديث.

    ونسجِّل هنا، أن عمليَّة تيسير النَّحْو ليست وليدة العصر الحاضر أو عصر النَّهضة، فإنَّ البذور المنهجيَّة لعمل تربويٍّ تعليميٍّ نَحْويٍّ، قديمة في التُّراث، وإن المؤلَّفات في هذا المضمار بلغت ذروتها في القرن الرَّابع الهجريِّ عند الزَّجَّاجي (ت 340 هـ) في كتاب "الجُمل"، والزَّبيدي الإشبيليّ (ت 379 هـ) في كتاب "الواضح". ثمَّ تَتَرى الكُتُب من هذا القبيل في القرن الثَّامن عند ابن هشام الأنصاريّ (ت 761 هـ) في "شُذُور الذَّهب"، لتبلغَ الغاية التَّعليميَّة عنده في كتابه "مُغْني اللَّبيب"، الذي يكاد يضاهي كتبنا العصريّة في الشَّرح والتَّبسيط والتَّيْسير. "والمهمُّ في هذه الكتب التُّراثيَّة التَّعليميَّة، منهجها المعبِّر عن أنَّ النَّحو في الحقل التربويِّ ينطلق من معايير تلبّي حاجة المُتعلّم.

    فالنَّحْو العربيُّ ليس عقبة كما يتوهَّم بعضهم، ولكنَّه بحاجة إلى طرائق تعليميَّة علميَّة تبسِّطه وتيسِّره وتقرِّبه من الأفهام. ولا سيَّما في مدارسنا وجامعاتنا. وهذا ما انطوى عليه في المدَّة الأخيرة من دعوات إلى وضع "بيداغوجية" عربيّة تنطلق من أصَالة لغتنا وغناها، فاللُّغة العربيَّة قابلة للتَّطوُّر والحياة والإفادة من العلوم اللِّسانيَّة وما يدور في فَلَكها، لأنَّها "لغة تنظيميَّة"[8]، ولأنَّها لغة كسائر اللُّغات، هي وعاء لفكر ما معبِّر عن أمور مَحْضِ عقليَّة وعن أمور تتعلَّق بالعواطف والأحاسيس والرَّغبات الإنسانيَّة. وأنَّها أيضًا، كما يفضِّل علماء اللِّسانيّات، في درس أي لغة – لغة اتصال (Communication)[9]. أمّا جانبها المهمُّ – ولا غلوَّ في ذلك – فهو كونها أداة الفكر، وذلك لأن أبرز صفات الكلمة هي التَّجريد والتَّعميم، وهذا الذي يجعل الفِكْر الإنسانيَّ نشطًا فاعلاً موثّرًا[10] ...

    وإذا كان بنا حاجة إلى وضع خطَّة "بيداغوجيَّة" عربيَّة شاملة، تأخذ بها وزارات التربيّة والتَّعليم عند العرب بشكل جدِّيِّ وأساسيٍ، كي لا تظلَّ الجهود الفرديَّة أو الرَّسميَّة خجولة أو حبرًا على ورق، نذكر أن بعض الغيارى اهتمُّوا بتبسيط قواعد اللُّغة العربيَّة. أمثال: حفني ناصف ومحمد دياب و مصطفى طموم ومحمود عمر و سلطان محمّد في كتابهم كتاب "الدُّروس العربيَّة"، وكتابهم كتاب "قواعد اللُّغة العربيّة" (1909)، و جبر ضومط في "الخواطر العِراب في النَّحْو والإعراب" (1909)، وفي النظريَّات، نذكر على سبيل المثال: إبراهيم مصطفى في "إحياء النَّحْو" (1937)، وأنيس فريحة في: "نَحْو عربيَّة ميسَّرة" (1955)، و"تبسيط القواعد العربيَّة" (1952)،
وشوقي ضيف في "تجديد النَّحْو" (1982). ويكاد يكون كتاب يوسف السُّودا "الأحرفيَّة"، (ط2، 1960)، مميّزًا من حيث قواعد اللُّغة المقارنة في التَّنظير والتَّطبيق. هذا عدا عن الجهود الرسميَّة التي ابتدأت منذ العام 1928. لكنَّ وزارة عربيَّة مختصَّة لم تأخذ بما كان يُقترح[11].

    اللُّغة عقل وتاريخ، وظاهرة بسيكو- سوسيو- ثقافيَّة، وخاضعة لمنطق النُّموِّ والتَّطوُّر. وقواعد اللُّغة، ضرورة لِضَبط نظام اللِّسان، ليست القواعد تَرَفًا عقليًّا أو لغويًّا، إنَّها الضابط الماهر، الذي يحفظ اللُّغة ولكنّه ضابط مَرِن، والإشكاليَّة ليست في النَّحْو، الإشكاليَّة في طرائق التَّدريس – مع التَّشديد على أصوليَّة اللُّغة وأصالتها وسموِّها اللِّسانيِّ الحضاريِّ العصريِّ لِتظلَّ لغة عصر وحياة – ومن هنا ضرورة تقنين النَّحْو العربيِّ في سياقٍ يلبِّي المُتَغيِّر من دون إسفاف[12] ومن هنا أيضًا ضرورة أن يكون منهج تيسير قواعد اللُّغة منهجًا متكاملاً شاملاً في الطَّرائق والأساليب، ملزمًا الأُمة جمعاء من أجل ثقافة لغويَّة عربيَّة واحدة موحِّدة، "فَنَصِل بين علم اللُّغة القديم وعلم اللُّغة الحديث"[13].

    ونشير أنّ هذا البحث ليس بحثًا في علم اللُّغة (Science du Langage) ولا في اللِّسانيَّات (Linguistiques)، ولا في فقه اللُّغة (Philologie)، وإنّما هو إطلالة على اللُّغة، وعلى قواعدها في نحوها، أملاه هاجس عندي، وتجربة وخبرة، وملاحظات تربويَّة تعليميَّة كابدتُها في أثناء تدريسي اللُّغة العربيَّة وآدابها، وصراع الأجيال. وندرك أنّ كثيرًا من مسائل الصَّرف لا يمكن فهمه من دون دراسة الأصوات وبخاصة في موضوع كـ"الإعلال"، و"الإبدال". كما أنّ عددًا من مسائل النَّحْو لا يمكن فهمه إلاّ بعد دراسة الصَّرف. ومن هنا يدرس معظم اللُّغويِّين المُحْدثين الصَّرف والنَّحْو تحت عنوان واحد هو "النَّحْو"، ويسمُّونه والحال هذه (Grammaire) وفيه:

- الصرف Morphologie، وهو يدرس بِنية "الكلمة".

- النَّظم Syntaxe أو النَّحْو وهو يدرس الجملة وأواخر الكلمات إعرابًا.

    وهذا الكلام له عند ابن جنّي الأساس. يقول ابن جنِّيٍّ في كتابه المصنف: "فالتصريف إنَّما هو لمعرفة أنفس الكلمة الثَّابتة، والنَّحْو إنَّما هو لمعرفة أحواله المتنقلة .." ويضيف: "وإذا كان ذلك كذلك فقد كان من الواجب على مَنْ أراد معرفة النَّحو أن يبدأ بمعرفة التَّصريف لأن معرفة ذات الشيء الثَّابت ينبغي أن يكون أصلاً لمعرفة حاله المتنقلة ..."[14].

    ونسأل: هل أبناء العربيّة اليوم يُجيدونها ويُجيدون قواعدها؟ أرى أنّ هذا نادر، بل نادر جدًا في هذا العصر: فإذا كان النَّحْو قد وُضِع في زمن قريب لسلامة اللِّسان العربيِّ نتيجة ما اعتوره من لحن وفساد، فكيف الأمر اليوم وقد قطعنا قرونًا في البعد عن السَّليقة العربيَّة. فالنَّحْو، إذًا، يوجَّه إلى كلِّ إنسان يريد النُّطق والكتابة بالعربيَّة إن كان عربيًّا أو غير عربيٍّ، وفي أيِّ لغة لا بُدّ من القواعد لضبطها والكتابة بها والنُّطق بشكل صحيح سليم، فالقواعد تعلِّمنا أن نتكلَّم وأن نكتب من دون أن نرتكب الأخطاء. وكثير من أبناء العربيّة اليوم لا يُجيدونها، ولا يُجيدون قواعدها.

    والنَّحْو ممارسة ضمن النصِّ أو الخطاب. فهو، "وسيلة لغاية. فإذا تعلَّمنا الوسيلة وطبَّقناها تطبيقًا مُحبًا ومبدعًا، وصلنا إلى غايتنا في محاكاة كلام العرب من دون خطأ، لأَنْ لا فائدة من كلِّ الضَّوابط والقواعد الموجودة في بطون أُمَّاتِ الكتب القديمة والحديثة إذا لم تُمارس، يوميًّا بلذَّة، وبمحبة، وبشوق، وفي أثناء الإصغاء والتكلّم، وفي أثناء الكتابة والقراءة، لأن انتحاء سَمْتِ كلام العرب يتمُّ بالممارسة".

    ونذكِّر أنَّ الصَّرف رديف مهمٌّ للنَّحْو. لذا يتوجَّب درس الصَّرف قبل درس النَّحْو، ولا سيَّما درس عِلم الأصوات. واللُّغة العربيَّة ليست صعبة، ولا قواعدها، فإتقان قواعد اللُّغة، قواعد اللِّسان، تعميرٌ للّسان بقواعد الفصاحة، وإنشاءٌ لعمارة الإنسان السعيد، وإتقان قواعد اللِّسان العربيِّ حفظٌ للتُّراث .. وعَونٌ على فَهْم "ديوان العرب" [أيْ: الشِّعْر].

فأساسيَّات النَّحْو طموحُ عقلٍ هادف، والإعراب والبناء منهجان متكاملان لِنُعرب عن ذواتنا بأصواتٍ أصيلة، والفعلُ إعرابٌ عن بناءٍ داخليٍّ يحاول الإعراب عن الذاتِ الإنسانيّة للوصول إلى الحرية/ الإبداع، وفي البدءِ كان الكلمة / الفعل / (Le verbe) (Logos) والفعلُ قراءةُ الإبداع في الخلقِ/ الإبداع.

    والحديث على: في سبيل قواعد اللُّغة يسوقنا إلى قول كلمة في الأَلْسنيّة.

    في الألسُنيَّة:

    يسأل بعضهم قائلاً: إنَّ الألسنيّة هي المنهج النقديُّ والعلميُّ الذي يمكن له أنْ يكون مفتاح الدُّخول إلى النُّصوص الأدبيَّة وغير الأدبيَّة. أمّا بعضهم الآخر فيرى أن الألسنيَّة انتهت وأبدت عَجْزها عن القيام بذلك الدَّوْر؟

    نجيب: هل من المفيد هنا، والحديث موجَّه إلى القرَّاء كافة على مختلف مستوياتهم ومعلوماتهم وثقافاتهم، أن نقول: إن الألسنيَّة – وأفضِّل لفظ "اللِّسانيَّات" – هي "عِلْم اللُّغة" ونقصد باللُّغة، اللُّغة في أوسع معانيها باعتبارها ظاهرة إنسانيَّة عامَّة. ونضيف إنَّها ظاهرة من جملة الظَّواهر الاجتماعيَّة. وقد اصطُلح عليها في هذا السِّياق بما يسمَّى في الفرنسيّة (Langage).

    وتبرز اللُّغة بأنَّها أداة أو وسيلة تواصل واتصال بين النَّاس. واللُّغة أيُّ لغة يمكن أن تندرج تحت عناوين كبرى: اللُّغة الفصحى أو اللُّغة الكلاسيكيَّة، واللُّغات / اللَّهجات، محكيَّة عامَّة أو إقليميَّة. ويمكن أيضًا أن ترتسم تحت: اللُّغة البَصَريَّة، واللُّغة السَّمْعيَّة، والبحث في هذا المقام ينسحب على اللُّغة السَّمْعيَّة المنطوقة وفيها تدخل اللُّغة المكتوبة على ما في هذا البحث من تشعُّبات وآراء واجتهادات.

    وعلى الرَّغم من تعدُّد أسماء الَّذين أسَّسوا للألسنيَّة وعلى الرَّغم  من تعدُّد الدِّراسات في هذا المجال أتوقَّف عند ثلاثةٍ من رؤوس هذا العِلْم، وهم يمثِّلون مراحل أساسيَّة في تأسيس عِلْم الألسنيَّة.

    أوَّل هؤلاء "فردينان دي سوسير" الذي يعدُّ مؤسِّس المدرسة الاجتماعيَّة في الدِّراسات اللُّغويَّة، ولا يزال له الأثر الأكبر في المدرسة الفرنسيَّة السّويسريَّة. ويُعتبر كتاب "اللُّغة" لڤندريِّس" من الكتب المتأثِّرة بنظريَّات دي سوسير، وكذلك آراء "أنطوان ماييه" ومباحثه. وأذكر هنا مبحثه الذي ترجمه محمد مندور. عِلْم اللِّسان حيث "ماييه" نفسه يقول: "إن عِلْم اللِّسان (Linguistique) جزء من عِلْم الاجتماع. وهنا يحضرني أن دي سوسير بنى نظرته الاجتماعيَّة في اللُّغة على أساس نظريَّة (دوركيم) الاجتماعيَّة. واللاَّفت في هذا الموضوع أن دي سوسير وضع تصوَّرات متكاملة لنظريَّته اللُّغويَّة، فجعل اللُّغة في مستويات ثلاثة، وهي:

1 – اللُّغة (Langage) وتعني اللُّغة في أوسع معانيها.

2 – اللّغة المعيَّنة (Langue) كالعربيَّة أو الفرنسيَّة أو الإنكليزيَّة.

3 – الكلام (Parole) والمقصود به إظهار الفرد اللُّغةَ وتحقيقه إيَّاها من طريق الأصوات الملفوظة أو العلامات المكتوبة.

    ولهذه المستويات مجتمعة ومتشعِّبة مباحث لا مجال للخوض فيها ههنا، مع الإشارة إلى أن ألسنيِّين آخرين لا يَرَوْن هذا الرأي أو لا يستعملون هذه المصطلحات في مباحثهم.

    وثاني رؤوس الألسُنيِّين في هذا الرَّأي/ الكلمة، هو "ليونارد بلومفيلد" الذي أقام دراساته على أساس المذهب السلوكيِّ في علم النَّفس وكان لكتابه "اللُّغة" الأثر الأكبر في التَّرويج لهذا الاتجاه ... وأسجِّل أن الدِّراسات تجد أن اللُّغة تقوم على أساس أنَّها: فعل فيزيولوجيٌّ، وفعل نفسانيٌّ، وفعل اجتماعيٌّ، وحقيقةٌ تاريخيَّة. وأضرب صفحًا عن مُريدي دي سوسير وبلومفيلد وأضرابهما.

    ونصل إلى رأسٍ ثالث في عِلْم اللِّسانيّات وهو: نعوم تشومسكي وكتابه ... "التَّراكيب النَّحْويَّة"، رُّدُّ فعل ثورة على المناهج والمفاهيم التي سادت النّصف الأول من القرن العشرين.

    تأثَّر "تشومسكي" بالفلسفة العقلانيَّة وأشهر أعلامها، "ديكارت". ومن الصَّعْب حصر ما جاء به تشومسكي في عِلْم اللُّغة في كلمتي هذه. وقد استعمل هذا الألسُنيُّ، للتعبير عن نظراته مصطلحاتٍ صعبةً لا يفقهها إلاّ المتخصِّصون. والواضح أن تشومسكي أخذ ببعض تقسيمات "دي سوسير" من حيث اللُّغة لغة وكلام. وقد أطلق على ظاهرة اللُّغة تعبير (القدرة اللّغويَّة) “Compétence”، وعلى ظاهرة الكلام تعبير (الأداء اللُّغويّ) “Performance”، ومدار رأيه قائم على أن مجال الملكة اللّسانيَّة "المعرفة اللّغويَّة". وقد أطلق على قواعد درس اللُّغة اسم "القواعد التَّحويليَّة" وهي التي تضبط العلائق بين المبنى والمعنى، وكلُّها تدخل في نطاق القواعد الصرفيَّة النَّحْويَّة الصَّوتيَّة المعنويَّة. ومن هنا كانت تسمية القواعد: القواعد التَّحويليَّة “Transformational Grammar”. ولا تزال الدِّراسات تَتْرى في مجال "تشومسكي" شرقًا وغربًا. وقد أثرى هذا العالِم عِلْم اللُّغة وعلم الاجتماع وعِلْم النَّفْس والفلسفة وعِلْم الأجناس ...

    وفي كلِّ ما يدور في فلك "عِلْم اللِّسان" أو اللُّغة، أو الألسُنيَّة، أو اللِّسانيّات، ترتسم أمامنا عناوين مهمَّة في البحوث اللُّغويَّة. فهناك: الألسُنيَّة الوصفيَّة، والألسُنيَّة التَّاريخيَّة، والألسُنيَّة العامَّة، ولكلٍّ منها قنوات بحوث وتشعُّبات وآراء وتقرير نظريَّات. زِدْ على ذلك تراكيب اللُّغة وأنظمتها المختلفة.

    من خلال اللَّمحات المتقدِّمة، وهي سريعة، ومن مراجعة البحوث في عِلْم اللِّسانيَّات، يتَّضح للمرء أن هذا العِلْم ينصرف إلى دراسة اللُّغة، في مختلف مستوياتها وموازينها وأبعادها وأفعالها. فهو إذًا، عِلْم لغويٌّ محض، لا منهج نقديٌّ أدبيٌّ بالمعنى الفنّيِّ العلميِّ لهذا المصطلح.

    إنَّما أردتُ في ما قدّمت، وضع القارئ على سكَّة المنهج: لغويًّا ونقديًّا، وإذا كانت الألسُنيَّة طريقة في الرُّؤية والمنهج في معاينة الوجود، فهي تاليًا نظام يدرس البنى اللّغويَّة والتَّلاحم العضويّ بين المعنى والمبنى والمستوى الصوتيِّ والمستوى النَّحْويِّ. وقد تتَّصل الألسُنيَّة بالمستوى الدَّلاليِّ أو بعلم الأسلوب، وهي لا تأخذ صفة المنهج النَّقديِّ إلاَّ بتلاحمها مع سائر العلوم الأدبيَّة / النَّقديَّة. وأغلب الظَّن أنها تصبح منهجًا نقديًّا متى ما توكَّأت على البِنيوية بخاصة مثلما فعل ثزفتان تودوروف، أو مثلما فعل "غريماس" و"جولي كريستيفا".

    وإذا كانت الألسُنيَّة تتوجَّه إلى الخطاب تدرسه وتحلِّله وتشرحه وتفسِّره فإنَّ توجهها لا يكون إلى النصِّ بل إلى الجمل أو الكلمات/ الألفاظ، أيْ إلى التَّفكيك. هي تعزل النصَّ عن بيئته ومناخه وعصره والمؤثِّرات كلِّها، فتصبح الكتابة/ الخطاب، والموقف هذا، كلمات وأصواتًا، تنطبق عليها المقاييس النَّقديَّة اللّغويَّة والنَّحْويَّة، تمامًا كما فعل قديمًا – في تراثنا – علماء اللُّغة والنَّحْو والبيان، أو ما يصحُّ أن نُطلق عليهم أصحاب "النَّقد اللّغويّ" المحض، ومع الألسُنيَّة يفقد النصَّ المنقود وحدته العضويَّة والموضوعيَّة والرُّؤية الشَّاملة، كما يُعْوِزه النظرة الجماليَّة والتَّحليل النَّفسيُّ أو ما يصحَّ أن نسمِّيَه: البسيكو- سوسيو- ثقافيّ، وإن اعتنت الألسُنيَّة ببعض مظاهر مناهج النَّقد المعروفة، فإنّها تقصِّر دون الدخول في الأبعاد الفكريَّة والنَّفسيَّة والاجتماعيَّة والسِّياسيَّة والوجدانيَّة لأيِّ نصٍّ. وهي إن صحَّتْ في دراسة اللُّغة فإنَّها لا تُوفَّق في أن تكون منهجًا نقديًّا أدبيًّا بحتًا. والعرب قديمًا فهمت العلائق بين علوم العربيَّة. ولم تجد صعوبة في تحديد المعنى والمبنى والصَّرف والنَّحْو والصَّوت ووظيفته، لكنْ كلُّ هذا أدخل في علوم اللُّغة، من عدَّة النَّقد، وإنْ قاربت المناهج النَّقديَّة، وكُتُب التُّراث مليئة بمثل هذا. فكأنَّني أرى أن العرب فهمت الألسُنيَّة على قَدْر.

    والمطلوب في النَّقد أنْ يتعامل مع النصِّ معاملة إنسانيَّة، وإنْ كانت اللُّغة / اللِّسان، إنسانًا، فالنصُّ إنسان يفكِّر ويُحسُّ وله علائق ثقافيَّة ومؤثِّرات حياتيَّة ووجدانيَّة، لُغويَّة وجماليّة. ليس النَّصَّ جثَّة على مشرحة، النَّصّ كَوْن مغلق وكونٍ مفتوح. والألسُنيَّة قد تنصُّ على مثل هذا. ولكنَّها وما يدور في فلكها ليست منهجًا نقديًّا بالمعنى الحصريِّ للكلمة. وإنَّما هي مقاربة منهجيَّة أو مقاربة لُغويَّة نقديَّة. وإذا كانت تصلح منهجًا في المباحث اللُّغويَّة، فهي لا تصلح منهجًا أكاديميًّا في عِلْم النَّقد والأدب. والألسُنيَّة مغلقة في مقارباتها على القارئ العاديِّ والطَّالب والقارئ المثقَّف، منفتحة على المتخصِّص المهتمِّ بعلومها ونظريَّاتها واتجاهاتها. ودور النَّقد أن يكون للمتخصِّص والطَّالب والمثقَّف والعاديِّ جميعًا.


[1] راجع، نفوسة زكريا سعيد: تاريخ الدعوة إلى العاميّة وآثارها في مصر، ط1، دار المعارف، بمصر، 1964، ص 7.

[2] راجع ثبتًا بهذه الكتب في كتاب: عبد العزيز مطر: لحن العامة في ضوء الدراسات اللغويّة الحديثة، ط2، دار المعارف، مصر،

  1981، ص 70 – 94. وأنظر أيضًا مجموعة مؤلفات القدماء في اللَّهجات العربيّة أو الدخيلة أو المعرّبة في مقالتين لعيسى اسكندر

  المعلوف في:

   1 – مجلة مجمع اللّغة العربيّة، ج1، 1934، ص 352، طبع القاهرة 1935.

   2 – مجلة مجمع اللّغة العربيّة، ج3، 1936، ص 349، طبع القاهرة 1937.

[3] ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد: المقدمة، ط. دار إحياء التراث العربيّ، لا. ت.، بيروت، ص 379، 554، 565.

[4] م.ن.، ص 546.

[5] ابن جني، أبو الفتح عثمان: الخصائص، ط2، ج1، دار الهدى، بيروت، تحقيق: محمد علي النجار، لا. ت. 1/144-164. [باب في

  تخصيص العلل]. وراجع أيضًا: صبحي الصالح: دراسات في فقه اللّغة، ط 11، دار العلم للملايين، بيروت، 1986، ص 135 –136.

[6] محمد الطنطاوي: نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة، لا.ط.، دار المعارف، مصر، 1973، ص 231 – 232.

[7] صبحي الصالح: دراسات في فقه اللّغة، ط 11، دار العلم للملايين، بيروت، 1986، ص 135.

[8] هنري فليش: العربية الفصحى، نحو بناء لغوي جديد، ط1، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ترجمة: عبد الصبور شاهين، 1966، ص 36.

[9] راجع: نايف خرما: "أضواء على الدراسات اللّغويّة المعاصرة"، سلسلة عالم المعرفة، رقم 9، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1978، ص 208.

[10] راجع، نوري جعفر: اللّغة والفكر، لا.ط.، مكتبة التومي، الرباط، 1971، ص 152.

[11] راجع: سمر روحي الفيصل: المشكلة اللّغوية العربيّة، ط 1، جرُّوس برس، طرابلس، لبنان، 1992، ص 63 – 64.

[12] راجع: ماييه في "علم اللِّسان" في كتاب منهج البحث في الأدب واللّغة، للانسون وماييه، ط 2، دار العلم للملايين، بيروت، ترجمة:

  محمد مندور، 1982، ص 39 – 173.

[13] سمر روحي الفيصل: المشكلة اللّغويّة العربيّة، ط 1، جروس برس، طرابلس، لبنان، 1992، ص 70.

[14] ابن جنِّي، أبو الفتح عثمان: المنصف في شرح كتاب التصريف للمازني، تحقيق: إبراهيم مصطفى وعبد الله أمين، القاهرة، 1954،   ص 4.

في قواعد اللّغة العربيَّة والألسنيَّة*

في سبيل قواعد اللُّغة:

    في كلِّ مرَّةٍ نروحُ فيها إلى الحديث على اللّغة، يستقيم في ذهننا أمران:

-  الأوّل: الصِّراع بين العاميَّة والفصحى.

-  الثاني: مسألة تيسير النَّحْو العربيِّ أو قواعد اللُّغة العربيَّة، وما يرافقها من نظرات في التعلُّم والتَّعليم. وحديثنا هنا ينسحب على قواعد اللّغة والألسنيَّة.

وفي قضية اللّغة من حيث هي أداة كلام وكتابة، وصِلَة اتصال وتواصل ووسيلة فَهْم وإفهام وتفهيم، يرتسم مُشوِّر أساسيٌّ هو الحرف/الصوت الذي به يُكتب الكَلِم أو يُنطق. وتبرز ترسيمة (Esquisse) الصِّراع بين اللُّغة الفصحى والعاميَّات (أي اللُّغات واللَّهجات المحكيّة) من جهة، ومن جهة ثانية مسألة الكتابة أي الحرف، الذي يجب أن تُكتب به اللّغة، فهل تكون القضيّة في تبسيط الحرف العربيِّ القائم، أو كتابة اللُّغة بالحرف اللاَّتينيّ؟ [كون المبحث هذا يهتم بقضايا العربيّة وقواعدها].

    ومهما قيل في العاميَّة، وفي مسألة معالجة إحلالها محلَّ الفصحى، فإنّ القضيَّة ليست جديدة عند الرُّوَّاد، لا في عصر النَّهضة العربيَّة ولا في العصر الحديث، فقد عُني العرب قديمًا بها من أجل خدمة الفصحى عينها والمحافظة عليها سالمة من التَّحريف واللَّحن والدَّخيل. فلما انتشر الإسلام وامتدّت فتوحاته، ازداد اختلاف لهجات المحادثة بسبب اختلاط العرب بغيرهم من الأمم، وكان من أوّل مظاهر ابتعادها عن الفصحى اللَّحن [واللَّحن هنا يعني الخطأ في اللُّغة]، وهو أوَّل أدواء العاميَّة. وقيل: إنَّ اللَّحن ظهر أوّل ما ظهر في عهد النبيِّ العربيِّ (ص)، فقد رُوي أنّ رجلاً لحن بحضرته، فقال (ص): "أرشدوا أخاكم فقد ضلّ" ... ورُويت أخبار كثيرة عن شيوع اللّحن منذ القرن الأوّل في عصر الدولة الأمويّة، واستهجان خلفائها وولاتها وأدبائها له[1].

    ولما ازدادت أدواء اللَّحن، الذي طرأ على اللِّسان العربيِّ، اتَّجه العلماء إلى كلام العامَّة محاولين إصلاحه لا تدوينه فألَّفوا في ذلك عشرات الكتب منبّهين إلى لحن العَوامّ والخواصّ، الَّذين تطرّق الفساد إلى ألسنتهم. ومن هذه الكتب نذكر على سبيل المثال: لحن العوامّ، المنسوب إلى علي بن حمزة الكِسائيّ (ت 189هـ). ولحن العامَّة، لأبي زكريَّا الفرَّاء (ت 207هـ)، وما يلحن فيه العامَّة، لأبي عبيدة معمر بن المثنى (ت 210 هـ)، وما يلحن فيه العامَّة لعبد الملك بن قُرَيب الأصمعي (ت 216 هـ) ..، وإصلاح المنطق، لأبي يوسف يعقوب بن إسحق بن السِّكِّيت (ت 244 هـ)، ولحن العامَّة لأبي حاتم سهل بن محمد السّجستانيّ (ت 255 هـ)، وكتاب النَّحْو ومَنْ كان يلحن من النَّحْويِّين، لأبي زيد عمر بن شبة البصري (ت 262 هـ) ..، ولحن الخاصَّة لأبي هلال الحسن بن عبد الله العسكري (ت 395 هـ)، ودرّة الغوّاص في أوهام الخواص، لأبي محمد القاسم بن علي الحريريّ (ت 516 هـ) ..، وأغلاط الضعفاء من الفقهاء، لأبي محمد عبد الله بن بري بن عبد الجبار (ت 582 هـ)، وتقويم اللِّسان، لعبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي (ت 597 هـ). وغيرها كثير. والذي أوردناه، إنما هو نماذج من الكتب التي تدلّل على اهتمام الأقدمين بمسألة العاميِّ والفصيح[2]، أو ما يُشابهه. والمؤلَّفات هذه لم تكن دراسات في العاميَّة، وإنما كانت تهدف إلى تقويم ألسنة العامّة، من هنا كانت في بُعدها اللغويِّ نوعًا من دراسة الفصحى والحفاظ عليها، سالمةً من اللَّحن والتَّحريف والدَّخيل، ولم يشذَّ عن هذه القاعدة غير ابن خلدون حيث نظر إلى العاميَّة، في مقدّمته، نظرة قريبة من نظرة المستشرقين ومَنْ شايَعَهم في العصر الحديث[3]. ذاك أن العلماء القدماء لم يروا في العاميَّة لغة غير الفصحى، وإنما رأوا فيها تحريفًا لها [أي الفصحى]. ويقول ابن خلدون في هذا الموقف: "وكانت الملكة [أي اللّغة] الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات" .. فلما جاء الإسلام وفارقوا الحجاز لطلب الملك الذي كان في أيدي الأمم والدول وخالطوا العجم تغيَّرت تلك الملكة بما ألقى إليها السَّمْعُ من المخالفات التي للمستعربين، والسَّمع أبو الملكاتِ اللِّسانيّة، ففسدت بما أُلقيَ إليها مما يغايرها لِجُنُوحها إليه باعتبار السَّمْع، وخَشِيَ أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأسًا ويطول العهد بها فينغلق القرآن والحديث على المفهوم، فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطَّردةً شِبْهَ الكلِّيات والقواعد، يقيسون عليها سائر أنواع الكلام ويُلحقون الأشباه بالأشباه مثل: أنّ الفاعل مرفوع، والمفعول منصوب، والمبتدأ مرفوع، ثم رأوا تغيُّر الدلالة بتغيُّر حركات هذه الكلمات، فاصطلحوا على تسميته إعرابًا. وتسمية المُوجِب لذلك التغيُّر عاملاً وأمثال ذلك. وصارت كلّها اصطلاحات خاصَّة بهم، فقيَّدوها بالكتاب وجعلوها صناعة لهم مخصوصة، واصطلحوا على تسميتها بعِلْم النَّحو"[4].

    فإذا كان فساد اللِّسان العربيِّ قديمًا وما اعتور اللّغة من تحريف ولحن ودخيل قد أدّت جميعُها إلى ضبط اللّغة وضرورة وضع قواعد لها تحفظها وتصونها؛ فما الرَّأي، اليوم، وقد أصاب لساننا من الرَّطانة والعُجْمة، وأحيانًا، من العدائيّة ما قد يؤدّي به إلى الانهيار.

    والقضيّة في اللُّغة وتفرعاتها وتعدُّد لهجاتها، أو إذا شئت تعدُّد اللُّغات داخل اللُّغة الواحدة ليست بجديدة، لكنّ استفحال الضَّعف والتَّرهُّل في اللِّسان العربيِّ لم يعرف وقتًا حَرِجًا أكثر من وقتنا الحاضر. لذا كان لا بدَّ من قيام نهضة لغويَّة قواعديَّة جديدة تقنِّن أصول تيسير قواعد اللُّغة وتقريبها إلى النَّاس ..

    وأسارع إلى القول: إنّ التَّرهُّل في اللِّسان العربيِّ لا يعود إلى اللُّغة وقواعدها – وإن كان في القواعد بعض الصُّعوبة – وإنَّما يعود إلى صاحب اللُّغة أوّلًا وإلى طرائق التَّدريس، ثانيًا.

    وإذا كانت الشَّكوى أنّ أولادنا لا يفقهون اللُّغة وقواعدها ولا يعرفون ماذا يدرسون ويتعلّمون، أبادر إلى التّذكير بقول أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب (ع): "لا يُقرئ القرآن إلاّ عالم باللُّغة". لذلك، لا يجوز أن يعلِّم العربيّة ويدرّسها حتّى في الصُّفوف الابتدائيَّة إلَّا عارف باللُّغة، فاهم بقواعدها، مدرك أسرارها، عَلِيم بأصولها، خبير بطرائق التَّدريس والتَّعليم.

    وقديمًا، كان للنُّحاة غايتان، فأمَّا النُّحاة العرب الأوائل، الذين صنَّفوا النَّحْو، فقد قَعَّدوا القواعد وجعلوا من النَّحو عِلْمًا مهمًّا من علوم العربيَّة، وأمّا النُّحاة الموالي فقد حوَّلوا النَّحْو العربيَّ من منهج علميٍّ إلى منهج تعليميٍّ، وأخذوا يضعون المختصرات والشُّروحات، واتّضحت الغاية النَّحْوية التعليميَّة في أذهان العرب أيضًا ومنهم أبو الأسود الدُّؤليّ نفسه.

    وفي قضية تيسير النَّحْو العربيِّ، لم يألُ النُّحاة الأقدمون جهدًا في النظر إلى هذه المسألة. فهذا، مثلاً، ابن جِنِّي (ت 392)، وهو يحكي آراء النَّحْويين، وتعجبه تعليلاتهم لظواهر الإعراب، ولكنَّه يستشعر بين الحين والحين ضعف تلك العِلَل. لا يملك نفسه من التَّصريح بضعفها، كأنه يراها لا تخلو من الصَّنعة والتكلّف[5].

    ويكاد يكون ابن مضاء القرطبيُّ (ت 592) أوعى مَنْ وَعَى إشكاليَّة صعوبة النَّحْو وضرورة تيسيره، وله في ذلك كتاب "الرَّدّ على النُّحاة"، وهو "كتاب هجم فيه على نُحاة المشرق، وفنَّد بعض قواعدهم في اعتبار العامل وفي توجيه العِلَل، وفي اعتبار القياس، وفي التَّعويل على التَّمارين الفرضيَّة"[6]. ورأى أن أكثر تعسّف النحاة إنَّما جاءهم من إسرافهم في الصِّيَغ والأبنية، وحذّر من هذه الوسائل المتحجّرة الجامدة في صوغ الكلام العربيّ[7]. وإذا كان قد وقع في بعض الشَّطط أو المغالطة، فذلك بسبب حُبِّه النَّحْو وَوُلُوعه بالإعراب، ومع ذلك، لم يبلغ حدَّ إنكار ما للحركة الإعرابيَّة من مدلول، كما يفعل بعض مَنْ يدَّعي تيسير النَّحْو في العصر الحديث.

    ونسجِّل هنا، أن عمليَّة تيسير النَّحْو ليست وليدة العصر الحاضر أو عصر النَّهضة، فإنَّ البذور المنهجيَّة لعمل تربويٍّ تعليميٍّ نَحْويٍّ، قديمة في التُّراث، وإن المؤلَّفات في هذا المضمار بلغت ذروتها في القرن الرَّابع الهجريِّ عند الزَّجَّاجي (ت 340 هـ) في كتاب "الجُمل"، والزَّبيدي الإشبيليّ (ت 379 هـ) في كتاب "الواضح". ثمَّ تَتَرى الكُتُب من هذا القبيل في القرن الثَّامن عند ابن هشام الأنصاريّ (ت 761 هـ) في "شُذُور الذَّهب"، لتبلغَ الغاية التَّعليميَّة عنده في كتابه "مُغْني اللَّبيب"، الذي يكاد يضاهي كتبنا العصريّة في الشَّرح والتَّبسيط والتَّيْسير. "والمهمُّ في هذه الكتب التُّراثيَّة التَّعليميَّة، منهجها المعبِّر عن أنَّ النَّحو في الحقل التربويِّ ينطلق من معايير تلبّي حاجة المُتعلّم.

    فالنَّحْو العربيُّ ليس عقبة كما يتوهَّم بعضهم، ولكنَّه بحاجة إلى طرائق تعليميَّة علميَّة تبسِّطه وتيسِّره وتقرِّبه من الأفهام. ولا سيَّما في مدارسنا وجامعاتنا. وهذا ما انطوى عليه في المدَّة الأخيرة من دعوات إلى وضع "بيداغوجية" عربيّة تنطلق من أصَالة لغتنا وغناها، فاللُّغة العربيَّة قابلة للتَّطوُّر والحياة والإفادة من العلوم اللِّسانيَّة وما يدور في فَلَكها، لأنَّها "لغة تنظيميَّة"[8]، ولأنَّها لغة كسائر اللُّغات، هي وعاء لفكر ما معبِّر عن أمور مَحْضِ عقليَّة وعن أمور تتعلَّق بالعواطف والأحاسيس والرَّغبات الإنسانيَّة. وأنَّها أيضًا، كما يفضِّل علماء اللِّسانيّات، في درس أي لغة – لغة اتصال (Communication)[9]. أمّا جانبها المهمُّ – ولا غلوَّ في ذلك – فهو كونها أداة الفكر، وذلك لأن أبرز صفات الكلمة هي التَّجريد والتَّعميم، وهذا الذي يجعل الفِكْر الإنسانيَّ نشطًا فاعلاً موثّرًا[10] ...

    وإذا كان بنا حاجة إلى وضع خطَّة "بيداغوجيَّة" عربيَّة شاملة، تأخذ بها وزارات التربيّة والتَّعليم عند العرب بشكل جدِّيِّ وأساسيٍ، كي لا تظلَّ الجهود الفرديَّة أو الرَّسميَّة خجولة أو حبرًا على ورق، نذكر أن بعض الغيارى اهتمُّوا بتبسيط قواعد اللُّغة العربيَّة. أمثال: حفني ناصف ومحمد دياب و مصطفى طموم ومحمود عمر و سلطان محمّد في كتابهم كتاب "الدُّروس العربيَّة"، وكتابهم كتاب "قواعد اللُّغة العربيّة" (1909)، و جبر ضومط في "الخواطر العِراب في النَّحْو والإعراب" (1909)، وفي النظريَّات، نذكر على سبيل المثال: إبراهيم مصطفى في "إحياء النَّحْو" (1937)، وأنيس فريحة في: "نَحْو عربيَّة ميسَّرة" (1955)، و"تبسيط القواعد العربيَّة" (1952)،
وشوقي ضيف في "تجديد النَّحْو" (1982). ويكاد يكون كتاب يوسف السُّودا "الأحرفيَّة"، (ط2، 1960)، مميّزًا من حيث قواعد اللُّغة المقارنة في التَّنظير والتَّطبيق. هذا عدا عن الجهود الرسميَّة التي ابتدأت منذ العام 1928. لكنَّ وزارة عربيَّة مختصَّة لم تأخذ بما كان يُقترح[11].

    اللُّغة عقل وتاريخ، وظاهرة بسيكو- سوسيو- ثقافيَّة، وخاضعة لمنطق النُّموِّ والتَّطوُّر. وقواعد اللُّغة، ضرورة لِضَبط نظام اللِّسان، ليست القواعد تَرَفًا عقليًّا أو لغويًّا، إنَّها الضابط الماهر، الذي يحفظ اللُّغة ولكنّه ضابط مَرِن، والإشكاليَّة ليست في النَّحْو، الإشكاليَّة في طرائق التَّدريس – مع التَّشديد على أصوليَّة اللُّغة وأصالتها وسموِّها اللِّسانيِّ الحضاريِّ العصريِّ لِتظلَّ لغة عصر وحياة – ومن هنا ضرورة تقنين النَّحْو العربيِّ في سياقٍ يلبِّي المُتَغيِّر من دون إسفاف[12] ومن هنا أيضًا ضرورة أن يكون منهج تيسير قواعد اللُّغة منهجًا متكاملاً شاملاً في الطَّرائق والأساليب، ملزمًا الأُمة جمعاء من أجل ثقافة لغويَّة عربيَّة واحدة موحِّدة، "فَنَصِل بين علم اللُّغة القديم وعلم اللُّغة الحديث"[13].

    ونشير أنّ هذا البحث ليس بحثًا في علم اللُّغة (Science du Langage) ولا في اللِّسانيَّات (Linguistiques)، ولا في فقه اللُّغة (Philologie)، وإنّما هو إطلالة على اللُّغة، وعلى قواعدها في نحوها، أملاه هاجس عندي، وتجربة وخبرة، وملاحظات تربويَّة تعليميَّة كابدتُها في أثناء تدريسي اللُّغة العربيَّة وآدابها، وصراع الأجيال. وندرك أنّ كثيرًا من مسائل الصَّرف لا يمكن فهمه من دون دراسة الأصوات وبخاصة في موضوع كـ"الإعلال"، و"الإبدال". كما أنّ عددًا من مسائل النَّحْو لا يمكن فهمه إلاّ بعد دراسة الصَّرف. ومن هنا يدرس معظم اللُّغويِّين المُحْدثين الصَّرف والنَّحْو تحت عنوان واحد هو "النَّحْو"، ويسمُّونه والحال هذه (Grammaire) وفيه:

- الصرف Morphologie، وهو يدرس بِنية "الكلمة".

- النَّظم Syntaxe أو النَّحْو وهو يدرس الجملة وأواخر الكلمات إعرابًا.

    وهذا الكلام له عند ابن جنّي الأساس. يقول ابن جنِّيٍّ في كتابه المصنف: "فالتصريف إنَّما هو لمعرفة أنفس الكلمة الثَّابتة، والنَّحْو إنَّما هو لمعرفة أحواله المتنقلة .." ويضيف: "وإذا كان ذلك كذلك فقد كان من الواجب على مَنْ أراد معرفة النَّحو أن يبدأ بمعرفة التَّصريف لأن معرفة ذات الشيء الثَّابت ينبغي أن يكون أصلاً لمعرفة حاله المتنقلة ..."[14].

    ونسأل: هل أبناء العربيّة اليوم يُجيدونها ويُجيدون قواعدها؟ أرى أنّ هذا نادر، بل نادر جدًا في هذا العصر: فإذا كان النَّحْو قد وُضِع في زمن قريب لسلامة اللِّسان العربيِّ نتيجة ما اعتوره من لحن وفساد، فكيف الأمر اليوم وقد قطعنا قرونًا في البعد عن السَّليقة العربيَّة. فالنَّحْو، إذًا، يوجَّه إلى كلِّ إنسان يريد النُّطق والكتابة بالعربيَّة إن كان عربيًّا أو غير عربيٍّ، وفي أيِّ لغة لا بُدّ من القواعد لضبطها والكتابة بها والنُّطق بشكل صحيح سليم، فالقواعد تعلِّمنا أن نتكلَّم وأن نكتب من دون أن نرتكب الأخطاء. وكثير من أبناء العربيّة اليوم لا يُجيدونها، ولا يُجيدون قواعدها.

    والنَّحْو ممارسة ضمن النصِّ أو الخطاب. فهو، "وسيلة لغاية. فإذا تعلَّمنا الوسيلة وطبَّقناها تطبيقًا مُحبًا ومبدعًا، وصلنا إلى غايتنا في محاكاة كلام العرب من دون خطأ، لأَنْ لا فائدة من كلِّ الضَّوابط والقواعد الموجودة في بطون أُمَّاتِ الكتب القديمة والحديثة إذا لم تُمارس، يوميًّا بلذَّة، وبمحبة، وبشوق، وفي أثناء الإصغاء والتكلّم، وفي أثناء الكتابة والقراءة، لأن انتحاء سَمْتِ كلام العرب يتمُّ بالممارسة".

    ونذكِّر أنَّ الصَّرف رديف مهمٌّ للنَّحْو. لذا يتوجَّب درس الصَّرف قبل درس النَّحْو، ولا سيَّما درس عِلم الأصوات. واللُّغة العربيَّة ليست صعبة، ولا قواعدها، فإتقان قواعد اللُّغة، قواعد اللِّسان، تعميرٌ للّسان بقواعد الفصاحة، وإنشاءٌ لعمارة الإنسان السعيد، وإتقان قواعد اللِّسان العربيِّ حفظٌ للتُّراث .. وعَونٌ على فَهْم "ديوان العرب" [أيْ: الشِّعْر].

فأساسيَّات النَّحْو طموحُ عقلٍ هادف، والإعراب والبناء منهجان متكاملان لِنُعرب عن ذواتنا بأصواتٍ أصيلة، والفعلُ إعرابٌ عن بناءٍ داخليٍّ يحاول الإعراب عن الذاتِ الإنسانيّة للوصول إلى الحرية/ الإبداع، وفي البدءِ كان الكلمة / الفعل / (Le verbe) (Logos) والفعلُ قراءةُ الإبداع في الخلقِ/ الإبداع.

    والحديث على: في سبيل قواعد اللُّغة يسوقنا إلى قول كلمة في الأَلْسنيّة.

    في الألسُنيَّة:

    يسأل بعضهم قائلاً: إنَّ الألسنيّة هي المنهج النقديُّ والعلميُّ الذي يمكن له أنْ يكون مفتاح الدُّخول إلى النُّصوص الأدبيَّة وغير الأدبيَّة. أمّا بعضهم الآخر فيرى أن الألسنيَّة انتهت وأبدت عَجْزها عن القيام بذلك الدَّوْر؟

    نجيب: هل من المفيد هنا، والحديث موجَّه إلى القرَّاء كافة على مختلف مستوياتهم ومعلوماتهم وثقافاتهم، أن نقول: إن الألسنيَّة – وأفضِّل لفظ "اللِّسانيَّات" – هي "عِلْم اللُّغة" ونقصد باللُّغة، اللُّغة في أوسع معانيها باعتبارها ظاهرة إنسانيَّة عامَّة. ونضيف إنَّها ظاهرة من جملة الظَّواهر الاجتماعيَّة. وقد اصطُلح عليها في هذا السِّياق بما يسمَّى في الفرنسيّة (Langage).

    وتبرز اللُّغة بأنَّها أداة أو وسيلة تواصل واتصال بين النَّاس. واللُّغة أيُّ لغة يمكن أن تندرج تحت عناوين كبرى: اللُّغة الفصحى أو اللُّغة الكلاسيكيَّة، واللُّغات / اللَّهجات، محكيَّة عامَّة أو إقليميَّة. ويمكن أيضًا أن ترتسم تحت: اللُّغة البَصَريَّة، واللُّغة السَّمْعيَّة، والبحث في هذا المقام ينسحب على اللُّغة السَّمْعيَّة المنطوقة وفيها تدخل اللُّغة المكتوبة على ما في هذا البحث من تشعُّبات وآراء واجتهادات.

    وعلى الرَّغم من تعدُّد أسماء الَّذين أسَّسوا للألسنيَّة وعلى الرَّغم  من تعدُّد الدِّراسات في هذا المجال أتوقَّف عند ثلاثةٍ من رؤوس هذا العِلْم، وهم يمثِّلون مراحل أساسيَّة في تأسيس عِلْم الألسنيَّة.

    أوَّل هؤلاء "فردينان دي سوسير" الذي يعدُّ مؤسِّس المدرسة الاجتماعيَّة في الدِّراسات اللُّغويَّة، ولا يزال له الأثر الأكبر في المدرسة الفرنسيَّة السّويسريَّة. ويُعتبر كتاب "اللُّغة" لڤندريِّس" من الكتب المتأثِّرة بنظريَّات دي سوسير، وكذلك آراء "أنطوان ماييه" ومباحثه. وأذكر هنا مبحثه الذي ترجمه محمد مندور. عِلْم اللِّسان حيث "ماييه" نفسه يقول: "إن عِلْم اللِّسان (Linguistique) جزء من عِلْم الاجتماع. وهنا يحضرني أن دي سوسير بنى نظرته الاجتماعيَّة في اللُّغة على أساس نظريَّة (دوركيم) الاجتماعيَّة. واللاَّفت في هذا الموضوع أن دي سوسير وضع تصوَّرات متكاملة لنظريَّته اللُّغويَّة، فجعل اللُّغة في مستويات ثلاثة، وهي:

1 – اللُّغة (Langage) وتعني اللُّغة في أوسع معانيها.

2 – اللّغة المعيَّنة (Langue) كالعربيَّة أو الفرنسيَّة أو الإنكليزيَّة.

3 – الكلام (Parole) والمقصود به إظهار الفرد اللُّغةَ وتحقيقه إيَّاها من طريق الأصوات الملفوظة أو العلامات المكتوبة.

    ولهذه المستويات مجتمعة ومتشعِّبة مباحث لا مجال للخوض فيها ههنا، مع الإشارة إلى أن ألسنيِّين آخرين لا يَرَوْن هذا الرأي أو لا يستعملون هذه المصطلحات في مباحثهم.

    وثاني رؤوس الألسُنيِّين في هذا الرَّأي/ الكلمة، هو "ليونارد بلومفيلد" الذي أقام دراساته على أساس المذهب السلوكيِّ في علم النَّفس وكان لكتابه "اللُّغة" الأثر الأكبر في التَّرويج لهذا الاتجاه ... وأسجِّل أن الدِّراسات تجد أن اللُّغة تقوم على أساس أنَّها: فعل فيزيولوجيٌّ، وفعل نفسانيٌّ، وفعل اجتماعيٌّ، وحقيقةٌ تاريخيَّة. وأضرب صفحًا عن مُريدي دي سوسير وبلومفيلد وأضرابهما.

    ونصل إلى رأسٍ ثالث في عِلْم اللِّسانيّات وهو: نعوم تشومسكي وكتابه ... "التَّراكيب النَّحْويَّة"، رُّدُّ فعل ثورة على المناهج والمفاهيم التي سادت النّصف الأول من القرن العشرين.

    تأثَّر "تشومسكي" بالفلسفة العقلانيَّة وأشهر أعلامها، "ديكارت". ومن الصَّعْب حصر ما جاء به تشومسكي في عِلْم اللُّغة في كلمتي هذه. وقد استعمل هذا الألسُنيُّ، للتعبير عن نظراته مصطلحاتٍ صعبةً لا يفقهها إلاّ المتخصِّصون. والواضح أن تشومسكي أخذ ببعض تقسيمات "دي سوسير" من حيث اللُّغة لغة وكلام. وقد أطلق على ظاهرة اللُّغة تعبير (القدرة اللّغويَّة) “Compétence”، وعلى ظاهرة الكلام تعبير (الأداء اللُّغويّ) “Performance”، ومدار رأيه قائم على أن مجال الملكة اللّسانيَّة "المعرفة اللّغويَّة". وقد أطلق على قواعد درس اللُّغة اسم "القواعد التَّحويليَّة" وهي التي تضبط العلائق بين المبنى والمعنى، وكلُّها تدخل في نطاق القواعد الصرفيَّة النَّحْويَّة الصَّوتيَّة المعنويَّة. ومن هنا كانت تسمية القواعد: القواعد التَّحويليَّة “Transformational Grammar”. ولا تزال الدِّراسات تَتْرى في مجال "تشومسكي" شرقًا وغربًا. وقد أثرى هذا العالِم عِلْم اللُّغة وعلم الاجتماع وعِلْم النَّفْس والفلسفة وعِلْم الأجناس ...

    وفي كلِّ ما يدور في فلك "عِلْم اللِّسان" أو اللُّغة، أو الألسُنيَّة، أو اللِّسانيّات، ترتسم أمامنا عناوين مهمَّة في البحوث اللُّغويَّة. فهناك: الألسُنيَّة الوصفيَّة، والألسُنيَّة التَّاريخيَّة، والألسُنيَّة العامَّة، ولكلٍّ منها قنوات بحوث وتشعُّبات وآراء وتقرير نظريَّات. زِدْ على ذلك تراكيب اللُّغة وأنظمتها المختلفة.

    من خلال اللَّمحات المتقدِّمة، وهي سريعة، ومن مراجعة البحوث في عِلْم اللِّسانيَّات، يتَّضح للمرء أن هذا العِلْم ينصرف إلى دراسة اللُّغة، في مختلف مستوياتها وموازينها وأبعادها وأفعالها. فهو إذًا، عِلْم لغويٌّ محض، لا منهج نقديٌّ أدبيٌّ بالمعنى الفنّيِّ العلميِّ لهذا المصطلح.

    إنَّما أردتُ في ما قدّمت، وضع القارئ على سكَّة المنهج: لغويًّا ونقديًّا، وإذا كانت الألسُنيَّة طريقة في الرُّؤية والمنهج في معاينة الوجود، فهي تاليًا نظام يدرس البنى اللّغويَّة والتَّلاحم العضويّ بين المعنى والمبنى والمستوى الصوتيِّ والمستوى النَّحْويِّ. وقد تتَّصل الألسُنيَّة بالمستوى الدَّلاليِّ أو بعلم الأسلوب، وهي لا تأخذ صفة المنهج النَّقديِّ إلاَّ بتلاحمها مع سائر العلوم الأدبيَّة / النَّقديَّة. وأغلب الظَّن أنها تصبح منهجًا نقديًّا متى ما توكَّأت على البِنيوية بخاصة مثلما فعل ثزفتان تودوروف، أو مثلما فعل "غريماس" و"جولي كريستيفا".

    وإذا كانت الألسُنيَّة تتوجَّه إلى الخطاب تدرسه وتحلِّله وتشرحه وتفسِّره فإنَّ توجهها لا يكون إلى النصِّ بل إلى الجمل أو الكلمات/ الألفاظ، أيْ إلى التَّفكيك. هي تعزل النصَّ عن بيئته ومناخه وعصره والمؤثِّرات كلِّها، فتصبح الكتابة/ الخطاب، والموقف هذا، كلمات وأصواتًا، تنطبق عليها المقاييس النَّقديَّة اللّغويَّة والنَّحْويَّة، تمامًا كما فعل قديمًا – في تراثنا – علماء اللُّغة والنَّحْو والبيان، أو ما يصحُّ أن نُطلق عليهم أصحاب "النَّقد اللّغويّ" المحض، ومع الألسُنيَّة يفقد النصَّ المنقود وحدته العضويَّة والموضوعيَّة والرُّؤية الشَّاملة، كما يُعْوِزه النظرة الجماليَّة والتَّحليل النَّفسيُّ أو ما يصحَّ أن نسمِّيَه: البسيكو- سوسيو- ثقافيّ، وإن اعتنت الألسُنيَّة ببعض مظاهر مناهج النَّقد المعروفة، فإنّها تقصِّر دون الدخول في الأبعاد الفكريَّة والنَّفسيَّة والاجتماعيَّة والسِّياسيَّة والوجدانيَّة لأيِّ نصٍّ. وهي إن صحَّتْ في دراسة اللُّغة فإنَّها لا تُوفَّق في أن تكون منهجًا نقديًّا أدبيًّا بحتًا. والعرب قديمًا فهمت العلائق بين علوم العربيَّة. ولم تجد صعوبة في تحديد المعنى والمبنى والصَّرف والنَّحْو والصَّوت ووظيفته، لكنْ كلُّ هذا أدخل في علوم اللُّغة، من عدَّة النَّقد، وإنْ قاربت المناهج النَّقديَّة، وكُتُب التُّراث مليئة بمثل هذا. فكأنَّني أرى أن العرب فهمت الألسُنيَّة على قَدْر.

    والمطلوب في النَّقد أنْ يتعامل مع النصِّ معاملة إنسانيَّة، وإنْ كانت اللُّغة / اللِّسان، إنسانًا، فالنصُّ إنسان يفكِّر ويُحسُّ وله علائق ثقافيَّة ومؤثِّرات حياتيَّة ووجدانيَّة، لُغويَّة وجماليّة. ليس النَّصَّ جثَّة على مشرحة، النَّصّ كَوْن مغلق وكونٍ مفتوح. والألسُنيَّة قد تنصُّ على مثل هذا. ولكنَّها وما يدور في فلكها ليست منهجًا نقديًّا بالمعنى الحصريِّ للكلمة. وإنَّما هي مقاربة منهجيَّة أو مقاربة لُغويَّة نقديَّة. وإذا كانت تصلح منهجًا في المباحث اللُّغويَّة، فهي لا تصلح منهجًا أكاديميًّا في عِلْم النَّقد والأدب. والألسُنيَّة مغلقة في مقارباتها على القارئ العاديِّ والطَّالب والقارئ المثقَّف، منفتحة على المتخصِّص المهتمِّ بعلومها ونظريَّاتها واتجاهاتها. ودور النَّقد أن يكون للمتخصِّص والطَّالب والمثقَّف والعاديِّ جميعًا.


[1] راجع، نفوسة زكريا سعيد: تاريخ الدعوة إلى العاميّة وآثارها في مصر، ط1، دار المعارف، بمصر، 1964، ص 7.

[2] راجع ثبتًا بهذه الكتب في كتاب: عبد العزيز مطر: لحن العامة في ضوء الدراسات اللغويّة الحديثة، ط2، دار المعارف، مصر،

  1981، ص 70 – 94. وأنظر أيضًا مجموعة مؤلفات القدماء في اللَّهجات العربيّة أو الدخيلة أو المعرّبة في مقالتين لعيسى اسكندر

  المعلوف في:

   1 – مجلة مجمع اللّغة العربيّة، ج1، 1934، ص 352، طبع القاهرة 1935.

   2 – مجلة مجمع اللّغة العربيّة، ج3، 1936، ص 349، طبع القاهرة 1937.

[3] ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد: المقدمة، ط. دار إحياء التراث العربيّ، لا. ت.، بيروت، ص 379، 554، 565.

[4] م.ن.، ص 546.

[5] ابن جني، أبو الفتح عثمان: الخصائص، ط2، ج1، دار الهدى، بيروت، تحقيق: محمد علي النجار، لا. ت. 1/144-164. [باب في

  تخصيص العلل]. وراجع أيضًا: صبحي الصالح: دراسات في فقه اللّغة، ط 11، دار العلم للملايين، بيروت، 1986، ص 135 –136.

[6] محمد الطنطاوي: نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة، لا.ط.، دار المعارف، مصر، 1973، ص 231 – 232.

[7] صبحي الصالح: دراسات في فقه اللّغة، ط 11، دار العلم للملايين، بيروت، 1986، ص 135.

[8] هنري فليش: العربية الفصحى، نحو بناء لغوي جديد، ط1، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ترجمة: عبد الصبور شاهين، 1966، ص 36.

[9] راجع: نايف خرما: "أضواء على الدراسات اللّغويّة المعاصرة"، سلسلة عالم المعرفة، رقم 9، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1978، ص 208.

[10] راجع، نوري جعفر: اللّغة والفكر، لا.ط.، مكتبة التومي، الرباط، 1971، ص 152.

[11] راجع: سمر روحي الفيصل: المشكلة اللّغوية العربيّة، ط 1، جرُّوس برس، طرابلس، لبنان، 1992، ص 63 – 64.

[12] راجع: ماييه في "علم اللِّسان" في كتاب منهج البحث في الأدب واللّغة، للانسون وماييه، ط 2، دار العلم للملايين، بيروت، ترجمة:

  محمد مندور، 1982، ص 39 – 173.

[13] سمر روحي الفيصل: المشكلة اللّغويّة العربيّة، ط 1، جروس برس، طرابلس، لبنان، 1992، ص 70.

[14] ابن جنِّي، أبو الفتح عثمان: المنصف في شرح كتاب التصريف للمازني، تحقيق: إبراهيم مصطفى وعبد الله أمين، القاهرة، 1954،   ص 4.

في قواعد اللّغة العربيَّة والألسنيَّة*

في سبيل قواعد اللُّغة:

    في كلِّ مرَّةٍ نروحُ فيها إلى الحديث على اللّغة، يستقيم في ذهننا أمران:

-  الأوّل: الصِّراع بين العاميَّة والفصحى.

-  الثاني: مسألة تيسير النَّحْو العربيِّ أو قواعد اللُّغة العربيَّة، وما يرافقها من نظرات في التعلُّم والتَّعليم. وحديثنا هنا ينسحب على قواعد اللّغة والألسنيَّة.

وفي قضية اللّغة من حيث هي أداة كلام وكتابة، وصِلَة اتصال وتواصل ووسيلة فَهْم وإفهام وتفهيم، يرتسم مُشوِّر أساسيٌّ هو الحرف/الصوت الذي به يُكتب الكَلِم أو يُنطق. وتبرز ترسيمة (Esquisse) الصِّراع بين اللُّغة الفصحى والعاميَّات (أي اللُّغات واللَّهجات المحكيّة) من جهة، ومن جهة ثانية مسألة الكتابة أي الحرف، الذي يجب أن تُكتب به اللّغة، فهل تكون القضيّة في تبسيط الحرف العربيِّ القائم، أو كتابة اللُّغة بالحرف اللاَّتينيّ؟ [كون المبحث هذا يهتم بقضايا العربيّة وقواعدها].

    ومهما قيل في العاميَّة، وفي مسألة معالجة إحلالها محلَّ الفصحى، فإنّ القضيَّة ليست جديدة عند الرُّوَّاد، لا في عصر النَّهضة العربيَّة ولا في العصر الحديث، فقد عُني العرب قديمًا بها من أجل خدمة الفصحى عينها والمحافظة عليها سالمة من التَّحريف واللَّحن والدَّخيل. فلما انتشر الإسلام وامتدّت فتوحاته، ازداد اختلاف لهجات المحادثة بسبب اختلاط العرب بغيرهم من الأمم، وكان من أوّل مظاهر ابتعادها عن الفصحى اللَّحن [واللَّحن هنا يعني الخطأ في اللُّغة]، وهو أوَّل أدواء العاميَّة. وقيل: إنَّ اللَّحن ظهر أوّل ما ظهر في عهد النبيِّ العربيِّ (ص)، فقد رُوي أنّ رجلاً لحن بحضرته، فقال (ص): "أرشدوا أخاكم فقد ضلّ" ... ورُويت أخبار كثيرة عن شيوع اللّحن منذ القرن الأوّل في عصر الدولة الأمويّة، واستهجان خلفائها وولاتها وأدبائها له[1].

    ولما ازدادت أدواء اللَّحن، الذي طرأ على اللِّسان العربيِّ، اتَّجه العلماء إلى كلام العامَّة محاولين إصلاحه لا تدوينه فألَّفوا في ذلك عشرات الكتب منبّهين إلى لحن العَوامّ والخواصّ، الَّذين تطرّق الفساد إلى ألسنتهم. ومن هذه الكتب نذكر على سبيل المثال: لحن العوامّ، المنسوب إلى علي بن حمزة الكِسائيّ (ت 189هـ). ولحن العامَّة، لأبي زكريَّا الفرَّاء (ت 207هـ)، وما يلحن فيه العامَّة، لأبي عبيدة معمر بن المثنى (ت 210 هـ)، وما يلحن فيه العامَّة لعبد الملك بن قُرَيب الأصمعي (ت 216 هـ) ..، وإصلاح المنطق، لأبي يوسف يعقوب بن إسحق بن السِّكِّيت (ت 244 هـ)، ولحن العامَّة لأبي حاتم سهل بن محمد السّجستانيّ (ت 255 هـ)، وكتاب النَّحْو ومَنْ كان يلحن من النَّحْويِّين، لأبي زيد عمر بن شبة البصري (ت 262 هـ) ..، ولحن الخاصَّة لأبي هلال الحسن بن عبد الله العسكري (ت 395 هـ)، ودرّة الغوّاص في أوهام الخواص، لأبي محمد القاسم بن علي الحريريّ (ت 516 هـ) ..، وأغلاط الضعفاء من الفقهاء، لأبي محمد عبد الله بن بري بن عبد الجبار (ت 582 هـ)، وتقويم اللِّسان، لعبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي (ت 597 هـ). وغيرها كثير. والذي أوردناه، إنما هو نماذج من الكتب التي تدلّل على اهتمام الأقدمين بمسألة العاميِّ والفصيح[2]، أو ما يُشابهه. والمؤلَّفات هذه لم تكن دراسات في العاميَّة، وإنما كانت تهدف إلى تقويم ألسنة العامّة، من هنا كانت في بُعدها اللغويِّ نوعًا من دراسة الفصحى والحفاظ عليها، سالمةً من اللَّحن والتَّحريف والدَّخيل، ولم يشذَّ عن هذه القاعدة غير ابن خلدون حيث نظر إلى العاميَّة، في مقدّمته، نظرة قريبة من نظرة المستشرقين ومَنْ شايَعَهم في العصر الحديث[3]. ذاك أن العلماء القدماء لم يروا في العاميَّة لغة غير الفصحى، وإنما رأوا فيها تحريفًا لها [أي الفصحى]. ويقول ابن خلدون في هذا الموقف: "وكانت الملكة [أي اللّغة] الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات" .. فلما جاء الإسلام وفارقوا الحجاز لطلب الملك الذي كان في أيدي الأمم والدول وخالطوا العجم تغيَّرت تلك الملكة بما ألقى إليها السَّمْعُ من المخالفات التي للمستعربين، والسَّمع أبو الملكاتِ اللِّسانيّة، ففسدت بما أُلقيَ إليها مما يغايرها لِجُنُوحها إليه باعتبار السَّمْع، وخَشِيَ أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأسًا ويطول العهد بها فينغلق القرآن والحديث على المفهوم، فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطَّردةً شِبْهَ الكلِّيات والقواعد، يقيسون عليها سائر أنواع الكلام ويُلحقون الأشباه بالأشباه مثل: أنّ الفاعل مرفوع، والمفعول منصوب، والمبتدأ مرفوع، ثم رأوا تغيُّر الدلالة بتغيُّر حركات هذه الكلمات، فاصطلحوا على تسميته إعرابًا. وتسمية المُوجِب لذلك التغيُّر عاملاً وأمثال ذلك. وصارت كلّها اصطلاحات خاصَّة بهم، فقيَّدوها بالكتاب وجعلوها صناعة لهم مخصوصة، واصطلحوا على تسميتها بعِلْم النَّحو"[4].

    فإذا كان فساد اللِّسان العربيِّ قديمًا وما اعتور اللّغة من تحريف ولحن ودخيل قد أدّت جميعُها إلى ضبط اللّغة وضرورة وضع قواعد لها تحفظها وتصونها؛ فما الرَّأي، اليوم، وقد أصاب لساننا من الرَّطانة والعُجْمة، وأحيانًا، من العدائيّة ما قد يؤدّي به إلى الانهيار.

    والقضيّة في اللُّغة وتفرعاتها وتعدُّد لهجاتها، أو إذا شئت تعدُّد اللُّغات داخل اللُّغة الواحدة ليست بجديدة، لكنّ استفحال الضَّعف والتَّرهُّل في اللِّسان العربيِّ لم يعرف وقتًا حَرِجًا أكثر من وقتنا الحاضر. لذا كان لا بدَّ من قيام نهضة لغويَّة قواعديَّة جديدة تقنِّن أصول تيسير قواعد اللُّغة وتقريبها إلى النَّاس ..

    وأسارع إلى القول: إنّ التَّرهُّل في اللِّسان العربيِّ لا يعود إلى اللُّغة وقواعدها – وإن كان في القواعد بعض الصُّعوبة – وإنَّما يعود إلى صاحب اللُّغة أوّلًا وإلى طرائق التَّدريس، ثانيًا.

    وإذا كانت الشَّكوى أنّ أولادنا لا يفقهون اللُّغة وقواعدها ولا يعرفون ماذا يدرسون ويتعلّمون، أبادر إلى التّذكير بقول أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب (ع): "لا يُقرئ القرآن إلاّ عالم باللُّغة". لذلك، لا يجوز أن يعلِّم العربيّة ويدرّسها حتّى في الصُّفوف الابتدائيَّة إلَّا عارف باللُّغة، فاهم بقواعدها، مدرك أسرارها، عَلِيم بأصولها، خبير بطرائق التَّدريس والتَّعليم.

    وقديمًا، كان للنُّحاة غايتان، فأمَّا النُّحاة العرب الأوائل، الذين صنَّفوا النَّحْو، فقد قَعَّدوا القواعد وجعلوا من النَّحو عِلْمًا مهمًّا من علوم العربيَّة، وأمّا النُّحاة الموالي فقد حوَّلوا النَّحْو العربيَّ من منهج علميٍّ إلى منهج تعليميٍّ، وأخذوا يضعون المختصرات والشُّروحات، واتّضحت الغاية النَّحْوية التعليميَّة في أذهان العرب أيضًا ومنهم أبو الأسود الدُّؤليّ نفسه.

    وفي قضية تيسير النَّحْو العربيِّ، لم يألُ النُّحاة الأقدمون جهدًا في النظر إلى هذه المسألة. فهذا، مثلاً، ابن جِنِّي (ت 392)، وهو يحكي آراء النَّحْويين، وتعجبه تعليلاتهم لظواهر الإعراب، ولكنَّه يستشعر بين الحين والحين ضعف تلك العِلَل. لا يملك نفسه من التَّصريح بضعفها، كأنه يراها لا تخلو من الصَّنعة والتكلّف[5].

    ويكاد يكون ابن مضاء القرطبيُّ (ت 592) أوعى مَنْ وَعَى إشكاليَّة صعوبة النَّحْو وضرورة تيسيره، وله في ذلك كتاب "الرَّدّ على النُّحاة"، وهو "كتاب هجم فيه على نُحاة المشرق، وفنَّد بعض قواعدهم في اعتبار العامل وفي توجيه العِلَل، وفي اعتبار القياس، وفي التَّعويل على التَّمارين الفرضيَّة"[6]. ورأى أن أكثر تعسّف النحاة إنَّما جاءهم من إسرافهم في الصِّيَغ والأبنية، وحذّر من هذه الوسائل المتحجّرة الجامدة في صوغ الكلام العربيّ[7]. وإذا كان قد وقع في بعض الشَّطط أو المغالطة، فذلك بسبب حُبِّه النَّحْو وَوُلُوعه بالإعراب، ومع ذلك، لم يبلغ حدَّ إنكار ما للحركة الإعرابيَّة من مدلول، كما يفعل بعض مَنْ يدَّعي تيسير النَّحْو في العصر الحديث.

    ونسجِّل هنا، أن عمليَّة تيسير النَّحْو ليست وليدة العصر الحاضر أو عصر النَّهضة، فإنَّ البذور المنهجيَّة لعمل تربويٍّ تعليميٍّ نَحْويٍّ، قديمة في التُّراث، وإن المؤلَّفات في هذا المضمار بلغت ذروتها في القرن الرَّابع الهجريِّ عند الزَّجَّاجي (ت 340 هـ) في كتاب "الجُمل"، والزَّبيدي الإشبيليّ (ت 379 هـ) في كتاب "الواضح". ثمَّ تَتَرى الكُتُب من هذا القبيل في القرن الثَّامن عند ابن هشام الأنصاريّ (ت 761 هـ) في "شُذُور الذَّهب"، لتبلغَ الغاية التَّعليميَّة عنده في كتابه "مُغْني اللَّبيب"، الذي يكاد يضاهي كتبنا العصريّة في الشَّرح والتَّبسيط والتَّيْسير. "والمهمُّ في هذه الكتب التُّراثيَّة التَّعليميَّة، منهجها المعبِّر عن أنَّ النَّحو في الحقل التربويِّ ينطلق من معايير تلبّي حاجة المُتعلّم.

    فالنَّحْو العربيُّ ليس عقبة كما يتوهَّم بعضهم، ولكنَّه بحاجة إلى طرائق تعليميَّة علميَّة تبسِّطه وتيسِّره وتقرِّبه من الأفهام. ولا سيَّما في مدارسنا وجامعاتنا. وهذا ما انطوى عليه في المدَّة الأخيرة من دعوات إلى وضع "بيداغوجية" عربيّة تنطلق من أصَالة لغتنا وغناها، فاللُّغة العربيَّة قابلة للتَّطوُّر والحياة والإفادة من العلوم اللِّسانيَّة وما يدور في فَلَكها، لأنَّها "لغة تنظيميَّة"[8]، ولأنَّها لغة كسائر اللُّغات، هي وعاء لفكر ما معبِّر عن أمور مَحْضِ عقليَّة وعن أمور تتعلَّق بالعواطف والأحاسيس والرَّغبات الإنسانيَّة. وأنَّها أيضًا، كما يفضِّل علماء اللِّسانيّات، في درس أي لغة – لغة اتصال (Communication)[9]. أمّا جانبها المهمُّ – ولا غلوَّ في ذلك – فهو كونها أداة الفكر، وذلك لأن أبرز صفات الكلمة هي التَّجريد والتَّعميم، وهذا الذي يجعل الفِكْر الإنسانيَّ نشطًا فاعلاً موثّرًا[10] ...

    وإذا كان بنا حاجة إلى وضع خطَّة "بيداغوجيَّة" عربيَّة شاملة، تأخذ بها وزارات التربيّة والتَّعليم عند العرب بشكل جدِّيِّ وأساسيٍ، كي لا تظلَّ الجهود الفرديَّة أو الرَّسميَّة خجولة أو حبرًا على ورق، نذكر أن بعض الغيارى اهتمُّوا بتبسيط قواعد اللُّغة العربيَّة. أمثال: حفني ناصف ومحمد دياب و مصطفى طموم ومحمود عمر و سلطان محمّد في كتابهم كتاب "الدُّروس العربيَّة"، وكتابهم كتاب "قواعد اللُّغة العربيّة" (1909)، و جبر ضومط في "الخواطر العِراب في النَّحْو والإعراب" (1909)، وفي النظريَّات، نذكر على سبيل المثال: إبراهيم مصطفى في "إحياء النَّحْو" (1937)، وأنيس فريحة في: "نَحْو عربيَّة ميسَّرة" (1955)، و"تبسيط القواعد العربيَّة" (1952)،
وشوقي ضيف في "تجديد النَّحْو" (1982). ويكاد يكون كتاب يوسف السُّودا "الأحرفيَّة"، (ط2، 1960)، مميّزًا من حيث قواعد اللُّغة المقارنة في التَّنظير والتَّطبيق. هذا عدا عن الجهود الرسميَّة التي ابتدأت منذ العام 1928. لكنَّ وزارة عربيَّة مختصَّة لم تأخذ بما كان يُقترح[11].

    اللُّغة عقل وتاريخ، وظاهرة بسيكو- سوسيو- ثقافيَّة، وخاضعة لمنطق النُّموِّ والتَّطوُّر. وقواعد اللُّغة، ضرورة لِضَبط نظام اللِّسان، ليست القواعد تَرَفًا عقليًّا أو لغويًّا، إنَّها الضابط الماهر، الذي يحفظ اللُّغة ولكنّه ضابط مَرِن، والإشكاليَّة ليست في النَّحْو، الإشكاليَّة في طرائق التَّدريس – مع التَّشديد على أصوليَّة اللُّغة وأصالتها وسموِّها اللِّسانيِّ الحضاريِّ العصريِّ لِتظلَّ لغة عصر وحياة – ومن هنا ضرورة تقنين النَّحْو العربيِّ في سياقٍ يلبِّي المُتَغيِّر من دون إسفاف[12] ومن هنا أيضًا ضرورة أن يكون منهج تيسير قواعد اللُّغة منهجًا متكاملاً شاملاً في الطَّرائق والأساليب، ملزمًا الأُمة جمعاء من أجل ثقافة لغويَّة عربيَّة واحدة موحِّدة، "فَنَصِل بين علم اللُّغة القديم وعلم اللُّغة الحديث"[13].

    ونشير أنّ هذا البحث ليس بحثًا في علم اللُّغة (Science du Langage) ولا في اللِّسانيَّات (Linguistiques)، ولا في فقه اللُّغة (Philologie)، وإنّما هو إطلالة على اللُّغة، وعلى قواعدها في نحوها، أملاه هاجس عندي، وتجربة وخبرة، وملاحظات تربويَّة تعليميَّة كابدتُها في أثناء تدريسي اللُّغة العربيَّة وآدابها، وصراع الأجيال. وندرك أنّ كثيرًا من مسائل الصَّرف لا يمكن فهمه من دون دراسة الأصوات وبخاصة في موضوع كـ"الإعلال"، و"الإبدال". كما أنّ عددًا من مسائل النَّحْو لا يمكن فهمه إلاّ بعد دراسة الصَّرف. ومن هنا يدرس معظم اللُّغويِّين المُحْدثين الصَّرف والنَّحْو تحت عنوان واحد هو "النَّحْو"، ويسمُّونه والحال هذه (Grammaire) وفيه:

- الصرف Morphologie، وهو يدرس بِنية "الكلمة".

- النَّظم Syntaxe أو النَّحْو وهو يدرس الجملة وأواخر الكلمات إعرابًا.

    وهذا الكلام له عند ابن جنّي الأساس. يقول ابن جنِّيٍّ في كتابه المصنف: "فالتصريف إنَّما هو لمعرفة أنفس الكلمة الثَّابتة، والنَّحْو إنَّما هو لمعرفة أحواله المتنقلة .." ويضيف: "وإذا كان ذلك كذلك فقد كان من الواجب على مَنْ أراد معرفة النَّحو أن يبدأ بمعرفة التَّصريف لأن معرفة ذات الشيء الثَّابت ينبغي أن يكون أصلاً لمعرفة حاله المتنقلة ..."[14].

    ونسأل: هل أبناء العربيّة اليوم يُجيدونها ويُجيدون قواعدها؟ أرى أنّ هذا نادر، بل نادر جدًا في هذا العصر: فإذا كان النَّحْو قد وُضِع في زمن قريب لسلامة اللِّسان العربيِّ نتيجة ما اعتوره من لحن وفساد، فكيف الأمر اليوم وقد قطعنا قرونًا في البعد عن السَّليقة العربيَّة. فالنَّحْو، إذًا، يوجَّه إلى كلِّ إنسان يريد النُّطق والكتابة بالعربيَّة إن كان عربيًّا أو غير عربيٍّ، وفي أيِّ لغة لا بُدّ من القواعد لضبطها والكتابة بها والنُّطق بشكل صحيح سليم، فالقواعد تعلِّمنا أن نتكلَّم وأن نكتب من دون أن نرتكب الأخطاء. وكثير من أبناء العربيّة اليوم لا يُجيدونها، ولا يُجيدون قواعدها.

    والنَّحْو ممارسة ضمن النصِّ أو الخطاب. فهو، "وسيلة لغاية. فإذا تعلَّمنا الوسيلة وطبَّقناها تطبيقًا مُحبًا ومبدعًا، وصلنا إلى غايتنا في محاكاة كلام العرب من دون خطأ، لأَنْ لا فائدة من كلِّ الضَّوابط والقواعد الموجودة في بطون أُمَّاتِ الكتب القديمة والحديثة إذا لم تُمارس، يوميًّا بلذَّة، وبمحبة، وبشوق، وفي أثناء الإصغاء والتكلّم، وفي أثناء الكتابة والقراءة، لأن انتحاء سَمْتِ كلام العرب يتمُّ بالممارسة".

    ونذكِّر أنَّ الصَّرف رديف مهمٌّ للنَّحْو. لذا يتوجَّب درس الصَّرف قبل درس النَّحْو، ولا سيَّما درس عِلم الأصوات. واللُّغة العربيَّة ليست صعبة، ولا قواعدها، فإتقان قواعد اللُّغة، قواعد اللِّسان، تعميرٌ للّسان بقواعد الفصاحة، وإنشاءٌ لعمارة الإنسان السعيد، وإتقان قواعد اللِّسان العربيِّ حفظٌ للتُّراث .. وعَونٌ على فَهْم "ديوان العرب" [أيْ: الشِّعْر].

فأساسيَّات النَّحْو طموحُ عقلٍ هادف، والإعراب والبناء منهجان متكاملان لِنُعرب عن ذواتنا بأصواتٍ أصيلة، والفعلُ إعرابٌ عن بناءٍ داخليٍّ يحاول الإعراب عن الذاتِ الإنسانيّة للوصول إلى الحرية/ الإبداع، وفي البدءِ كان الكلمة / الفعل / (Le verbe) (Logos) والفعلُ قراءةُ الإبداع في الخلقِ/ الإبداع.

    والحديث على: في سبيل قواعد اللُّغة يسوقنا إلى قول كلمة في الأَلْسنيّة.

    في الألسُنيَّة:

    يسأل بعضهم قائلاً: إنَّ الألسنيّة هي المنهج النقديُّ والعلميُّ الذي يمكن له أنْ يكون مفتاح الدُّخول إلى النُّصوص الأدبيَّة وغير الأدبيَّة. أمّا بعضهم الآخر فيرى أن الألسنيَّة انتهت وأبدت عَجْزها عن القيام بذلك الدَّوْر؟

    نجيب: هل من المفيد هنا، والحديث موجَّه إلى القرَّاء كافة على مختلف مستوياتهم ومعلوماتهم وثقافاتهم، أن نقول: إن الألسنيَّة – وأفضِّل لفظ "اللِّسانيَّات" – هي "عِلْم اللُّغة" ونقصد باللُّغة، اللُّغة في أوسع معانيها باعتبارها ظاهرة إنسانيَّة عامَّة. ونضيف إنَّها ظاهرة من جملة الظَّواهر الاجتماعيَّة. وقد اصطُلح عليها في هذا السِّياق بما يسمَّى في الفرنسيّة (Langage).

    وتبرز اللُّغة بأنَّها أداة أو وسيلة تواصل واتصال بين النَّاس. واللُّغة أيُّ لغة يمكن أن تندرج تحت عناوين كبرى: اللُّغة الفصحى أو اللُّغة الكلاسيكيَّة، واللُّغات / اللَّهجات، محكيَّة عامَّة أو إقليميَّة. ويمكن أيضًا أن ترتسم تحت: اللُّغة البَصَريَّة، واللُّغة السَّمْعيَّة، والبحث في هذا المقام ينسحب على اللُّغة السَّمْعيَّة المنطوقة وفيها تدخل اللُّغة المكتوبة على ما في هذا البحث من تشعُّبات وآراء واجتهادات.

    وعلى الرَّغم من تعدُّد أسماء الَّذين أسَّسوا للألسنيَّة وعلى الرَّغم  من تعدُّد الدِّراسات في هذا المجال أتوقَّف عند ثلاثةٍ من رؤوس هذا العِلْم، وهم يمثِّلون مراحل أساسيَّة في تأسيس عِلْم الألسنيَّة.

    أوَّل هؤلاء "فردينان دي سوسير" الذي يعدُّ مؤسِّس المدرسة الاجتماعيَّة في الدِّراسات اللُّغويَّة، ولا يزال له الأثر الأكبر في المدرسة الفرنسيَّة السّويسريَّة. ويُعتبر كتاب "اللُّغة" لڤندريِّس" من الكتب المتأثِّرة بنظريَّات دي سوسير، وكذلك آراء "أنطوان ماييه" ومباحثه. وأذكر هنا مبحثه الذي ترجمه محمد مندور. عِلْم اللِّسان حيث "ماييه" نفسه يقول: "إن عِلْم اللِّسان (Linguistique) جزء من عِلْم الاجتماع. وهنا يحضرني أن دي سوسير بنى نظرته الاجتماعيَّة في اللُّغة على أساس نظريَّة (دوركيم) الاجتماعيَّة. واللاَّفت في هذا الموضوع أن دي سوسير وضع تصوَّرات متكاملة لنظريَّته اللُّغويَّة، فجعل اللُّغة في مستويات ثلاثة، وهي:

1 – اللُّغة (Langage) وتعني اللُّغة في أوسع معانيها.

2 – اللّغة المعيَّنة (Langue) كالعربيَّة أو الفرنسيَّة أو الإنكليزيَّة.

3 – الكلام (Parole) والمقصود به إظهار الفرد اللُّغةَ وتحقيقه إيَّاها من طريق الأصوات الملفوظة أو العلامات المكتوبة.

    ولهذه المستويات مجتمعة ومتشعِّبة مباحث لا مجال للخوض فيها ههنا، مع الإشارة إلى أن ألسنيِّين آخرين لا يَرَوْن هذا الرأي أو لا يستعملون هذه المصطلحات في مباحثهم.

    وثاني رؤوس الألسُنيِّين في هذا الرَّأي/ الكلمة، هو "ليونارد بلومفيلد" الذي أقام دراساته على أساس المذهب السلوكيِّ في علم النَّفس وكان لكتابه "اللُّغة" الأثر الأكبر في التَّرويج لهذا الاتجاه ... وأسجِّل أن الدِّراسات تجد أن اللُّغة تقوم على أساس أنَّها: فعل فيزيولوجيٌّ، وفعل نفسانيٌّ، وفعل اجتماعيٌّ، وحقيقةٌ تاريخيَّة. وأضرب صفحًا عن مُريدي دي سوسير وبلومفيلد وأضرابهما.

    ونصل إلى رأسٍ ثالث في عِلْم اللِّسانيّات وهو: نعوم تشومسكي وكتابه ... "التَّراكيب النَّحْويَّة"، رُّدُّ فعل ثورة على المناهج والمفاهيم التي سادت النّصف الأول من القرن العشرين.

    تأثَّر "تشومسكي" بالفلسفة العقلانيَّة وأشهر أعلامها، "ديكارت". ومن الصَّعْب حصر ما جاء به تشومسكي في عِلْم اللُّغة في كلمتي هذه. وقد استعمل هذا الألسُنيُّ، للتعبير عن نظراته مصطلحاتٍ صعبةً لا يفقهها إلاّ المتخصِّصون. والواضح أن تشومسكي أخذ ببعض تقسيمات "دي سوسير" من حيث اللُّغة لغة وكلام. وقد أطلق على ظاهرة اللُّغة تعبير (القدرة اللّغويَّة) “Compétence”، وعلى ظاهرة الكلام تعبير (الأداء اللُّغويّ) “Performance”، ومدار رأيه قائم على أن مجال الملكة اللّسانيَّة "المعرفة اللّغويَّة". وقد أطلق على قواعد درس اللُّغة اسم "القواعد التَّحويليَّة" وهي التي تضبط العلائق بين المبنى والمعنى، وكلُّها تدخل في نطاق القواعد الصرفيَّة النَّحْويَّة الصَّوتيَّة المعنويَّة. ومن هنا كانت تسمية القواعد: القواعد التَّحويليَّة “Transformational Grammar”. ولا تزال الدِّراسات تَتْرى في مجال "تشومسكي" شرقًا وغربًا. وقد أثرى هذا العالِم عِلْم اللُّغة وعلم الاجتماع وعِلْم النَّفْس والفلسفة وعِلْم الأجناس ...

    وفي كلِّ ما يدور في فلك "عِلْم اللِّسان" أو اللُّغة، أو الألسُنيَّة، أو اللِّسانيّات، ترتسم أمامنا عناوين مهمَّة في البحوث اللُّغويَّة. فهناك: الألسُنيَّة الوصفيَّة، والألسُنيَّة التَّاريخيَّة، والألسُنيَّة العامَّة، ولكلٍّ منها قنوات بحوث وتشعُّبات وآراء وتقرير نظريَّات. زِدْ على ذلك تراكيب اللُّغة وأنظمتها المختلفة.

    من خلال اللَّمحات المتقدِّمة، وهي سريعة، ومن مراجعة البحوث في عِلْم اللِّسانيَّات، يتَّضح للمرء أن هذا العِلْم ينصرف إلى دراسة اللُّغة، في مختلف مستوياتها وموازينها وأبعادها وأفعالها. فهو إذًا، عِلْم لغويٌّ محض، لا منهج نقديٌّ أدبيٌّ بالمعنى الفنّيِّ العلميِّ لهذا المصطلح.

    إنَّما أردتُ في ما قدّمت، وضع القارئ على سكَّة المنهج: لغويًّا ونقديًّا، وإذا كانت الألسُنيَّة طريقة في الرُّؤية والمنهج في معاينة الوجود، فهي تاليًا نظام يدرس البنى اللّغويَّة والتَّلاحم العضويّ بين المعنى والمبنى والمستوى الصوتيِّ والمستوى النَّحْويِّ. وقد تتَّصل الألسُنيَّة بالمستوى الدَّلاليِّ أو بعلم الأسلوب، وهي لا تأخذ صفة المنهج النَّقديِّ إلاَّ بتلاحمها مع سائر العلوم الأدبيَّة / النَّقديَّة. وأغلب الظَّن أنها تصبح منهجًا نقديًّا متى ما توكَّأت على البِنيوية بخاصة مثلما فعل ثزفتان تودوروف، أو مثلما فعل "غريماس" و"جولي كريستيفا".

    وإذا كانت الألسُنيَّة تتوجَّه إلى الخطاب تدرسه وتحلِّله وتشرحه وتفسِّره فإنَّ توجهها لا يكون إلى النصِّ بل إلى الجمل أو الكلمات/ الألفاظ، أيْ إلى التَّفكيك. هي تعزل النصَّ عن بيئته ومناخه وعصره والمؤثِّرات كلِّها، فتصبح الكتابة/ الخطاب، والموقف هذا، كلمات وأصواتًا، تنطبق عليها المقاييس النَّقديَّة اللّغويَّة والنَّحْويَّة، تمامًا كما فعل قديمًا – في تراثنا – علماء اللُّغة والنَّحْو والبيان، أو ما يصحُّ أن نُطلق عليهم أصحاب "النَّقد اللّغويّ" المحض، ومع الألسُنيَّة يفقد النصَّ المنقود وحدته العضويَّة والموضوعيَّة والرُّؤية الشَّاملة، كما يُعْوِزه النظرة الجماليَّة والتَّحليل النَّفسيُّ أو ما يصحَّ أن نسمِّيَه: البسيكو- سوسيو- ثقافيّ، وإن اعتنت الألسُنيَّة ببعض مظاهر مناهج النَّقد المعروفة، فإنّها تقصِّر دون الدخول في الأبعاد الفكريَّة والنَّفسيَّة والاجتماعيَّة والسِّياسيَّة والوجدانيَّة لأيِّ نصٍّ. وهي إن صحَّتْ في دراسة اللُّغة فإنَّها لا تُوفَّق في أن تكون منهجًا نقديًّا أدبيًّا بحتًا. والعرب قديمًا فهمت العلائق بين علوم العربيَّة. ولم تجد صعوبة في تحديد المعنى والمبنى والصَّرف والنَّحْو والصَّوت ووظيفته، لكنْ كلُّ هذا أدخل في علوم اللُّغة، من عدَّة النَّقد، وإنْ قاربت المناهج النَّقديَّة، وكُتُب التُّراث مليئة بمثل هذا. فكأنَّني أرى أن العرب فهمت الألسُنيَّة على قَدْر.

    والمطلوب في النَّقد أنْ يتعامل مع النصِّ معاملة إنسانيَّة، وإنْ كانت اللُّغة / اللِّسان، إنسانًا، فالنصُّ إنسان يفكِّر ويُحسُّ وله علائق ثقافيَّة ومؤثِّرات حياتيَّة ووجدانيَّة، لُغويَّة وجماليّة. ليس النَّصَّ جثَّة على مشرحة، النَّصّ كَوْن مغلق وكونٍ مفتوح. والألسُنيَّة قد تنصُّ على مثل هذا. ولكنَّها وما يدور في فلكها ليست منهجًا نقديًّا بالمعنى الحصريِّ للكلمة. وإنَّما هي مقاربة منهجيَّة أو مقاربة لُغويَّة نقديَّة. وإذا كانت تصلح منهجًا في المباحث اللُّغويَّة، فهي لا تصلح منهجًا أكاديميًّا في عِلْم النَّقد والأدب. والألسُنيَّة مغلقة في مقارباتها على القارئ العاديِّ والطَّالب والقارئ المثقَّف، منفتحة على المتخصِّص المهتمِّ بعلومها ونظريَّاتها واتجاهاتها. ودور النَّقد أن يكون للمتخصِّص والطَّالب والمثقَّف والعاديِّ جميعًا.


[1] راجع، نفوسة زكريا سعيد: تاريخ الدعوة إلى العاميّة وآثارها في مصر، ط1، دار المعارف، بمصر، 1964، ص 7.

[2] راجع ثبتًا بهذه الكتب في كتاب: عبد العزيز مطر: لحن العامة في ضوء الدراسات اللغويّة الحديثة، ط2، دار المعارف، مصر،

  1981، ص 70 – 94. وأنظر أيضًا مجموعة مؤلفات القدماء في اللَّهجات العربيّة أو الدخيلة أو المعرّبة في مقالتين لعيسى اسكندر

  المعلوف في:

   1 – مجلة مجمع اللّغة العربيّة، ج1، 1934، ص 352، طبع القاهرة 1935.

   2 – مجلة مجمع اللّغة العربيّة، ج3، 1936، ص 349، طبع القاهرة 1937.

[3] ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد: المقدمة، ط. دار إحياء التراث العربيّ، لا. ت.، بيروت، ص 379، 554، 565.

[4] م.ن.، ص 546.

[5] ابن جني، أبو الفتح عثمان: الخصائص، ط2، ج1، دار الهدى، بيروت، تحقيق: محمد علي النجار، لا. ت. 1/144-164. [باب في

  تخصيص العلل]. وراجع أيضًا: صبحي الصالح: دراسات في فقه اللّغة، ط 11، دار العلم للملايين، بيروت، 1986، ص 135 –136.

[6] محمد الطنطاوي: نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة، لا.ط.، دار المعارف، مصر، 1973، ص 231 – 232.

[7] صبحي الصالح: دراسات في فقه اللّغة، ط 11، دار العلم للملايين، بيروت، 1986، ص 135.

[8] هنري فليش: العربية الفصحى، نحو بناء لغوي جديد، ط1، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ترجمة: عبد الصبور شاهين، 1966، ص 36.

[9] راجع: نايف خرما: "أضواء على الدراسات اللّغويّة المعاصرة"، سلسلة عالم المعرفة، رقم 9، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1978، ص 208.

[10] راجع، نوري جعفر: اللّغة والفكر، لا.ط.، مكتبة التومي، الرباط، 1971، ص 152.

[11] راجع: سمر روحي الفيصل: المشكلة اللّغوية العربيّة، ط 1، جرُّوس برس، طرابلس، لبنان، 1992، ص 63 – 64.

[12] راجع: ماييه في "علم اللِّسان" في كتاب منهج البحث في الأدب واللّغة، للانسون وماييه، ط 2، دار العلم للملايين، بيروت، ترجمة:

  محمد مندور، 1982، ص 39 – 173.

[13] سمر روحي الفيصل: المشكلة اللّغويّة العربيّة، ط 1، جروس برس، طرابلس، لبنان، 1992، ص 70.

[14] ابن جنِّي، أبو الفتح عثمان: المنصف في شرح كتاب التصريف للمازني، تحقيق: إبراهيم مصطفى وعبد الله أمين، القاهرة، 1954،   ص 4.