الإصغــاء والتّـعـبـيــر ألف باء اللّغة العربيّة

صورة للدكتور سلطان ناصر الدين

قال توماس جيفرسون (Thomas Jefferson):"ما تعلّمتُ شيئًا قطّ وأنا أتكلّم، لكنّني تعلّمتُ عندما كنتُ أُصغي"(1).

وذات يوم وقف رجل وسيم المنظر أنيق الهندام أمام سقراط، وشرع يَتَبختر، ويتباهى بلباسه، ويفاخر بنفسه؛ فقال له سقراط:"تكلّم حتّى أراك"(2).

ثلاث سنوات يقضي أولادنا في مرحلة الرّوضات، وستَّ سنوات في المرحلة الابتدائيّة، وثلاثًا في المرحلة المتوسّطة، ومثلها في المرحلة الثّانويّة. يودّع أبناؤنا المدرسة ليدخلوا الجامعة بعد أن يكونوا قد أمضَوْا في المدرسة خمسَ عشرةَ سنة، وبعد أن يكونوا قد أمضَوْا أربعمئة وخمسين(450) أسبوعًا، في هذه الأسابيع أمْضَوْا في تعلّم اللّغة العربيّة واللّغة الأجنبيّة، في المدرسة وحدها، عدد ساعات يقاربُ معدّلُها الوسطيّ ستّة آلاف ساعة. يودّع أبناؤنا المدرسة وأكثرهم  ليس متمكّنًا في اللّغات ولا في حسن التّواصل. وامتحانات الدّخول في الجامعات خير دليل على ما نقول. وما يعانيه المجتمع من آفة "ضعف الإصغاء" خير دليل على ما نقول.

ماذا نفعل في بيوتنا ومدارسنا؟ عجيب ما نقوم به! ستّة آلاف ساعة نصرفها نعلّم أولادنا اللّغات، والنتيجة أنهم يدخلون الجامعات أو سوق العمل وهم يعانون من ضعف في التواصل والتعبير اللغوييّن.  

 ما السّبب في ذلك؟

لعلّ الأسباب كثيرة، لكنّ أبعدها ما تُتّهم به اللّغات بأنّها لا تُطْعِمُ خبزًا؛ فاللّغة، كما يراها الدّكتور أنطوان طعمة، "ليست أداة اتّصال فحسب، بل أداةٌ لتكوين الفكر وأداةُ إبداع"(3).

فاللّغة موجودة في الإنترنت والرّياضيّات، في الفيزياء والكيمياء، في الطّبّ والصّيدلة، في الآداب والفنون، في الفلسفة والاجتماع، في علم النّفس والقانون، في التّجارة والاقتصاد، في الزّراعة والصّناعة، في كلّ مناحي الحياة ومجالاتها.

لا قيمة للإنترنت والرّياضيّات إلاّ باللّغة، ولا تتجلّى الفيزياء والكيمياء بغير اللّغة. لا يتطوّر الطّبّ والصّيدلة إلاّ باللّغة، ولا تحلّق الآداب والفنون بغير اللّغة. لا تظهر الفلسفة والاجتماع إلاّ باللّغة، ولا يحقّق علم النّفس مبتغاه والقانون مُرْتجاه بغير اللّغة. لا تزدهر التّجارة والاقتصاد إلاّ باللّغة، ولا تتقدّم الزّراعة والصّناعة بغير اللّغة. لا يَحْسُنُ التّواصل إلاّ باللّغة، ولا يتكوّن الفكر ويسمو ويبدع بغير اللّغة.

أولادُنا ليسوا متمكّنين في اللّغات ولا في حسن التّواصل؛ وحسن التّواصل قيمة يقلّ منسوبها يومًا بعد يوم في البيوت والمؤسّسات، ما يؤدّي إلى كثير من المشكلات؛ فما السّبب في ذلك؟

إنّ السّبب الرّئيس لما يحصل هو أنّنا أهملنا مبدأ "وادخلوا البيوت من أبوابها". مبدأ "وادخلوا البيوت من أبوابها" يَسري مُعَدَّلاً مَرِنًا مِطْواعًا في ميادين الحياة، فَيُقال:"وادخلوا اللّغات من أبوابها"؛ فهل لاكتساب اللّغة باب؟

إنّ الإصغاء هو الباب الّذي يُدخِلُنا عوالمَ اللّغة، يتلوه التّعبير، ومنهما تنفتح أمامَنا أسرار اللّغة قراءة وكتابة، واللّغة وساطة التّواصل وزيت الفكر وشعلة الإبداع.

·فما الإصغاء؟ وما التّعبير؟

·ما الكفايات المنضوية تحتهما؟

 ·ما نتائج إهمال هاتين المهارتين؟

·ما نتائج رعاية هاتين المهارتين؟

·كيف ننمّي هاتين المهارتين في أنفسنا وفي أجيالنا وفي البيوت والمدارس والمؤسّسات؟

أوّلاً: الإصغاء والتّعبير

إنّ مهارات اللّغة هي: الإصغاء، والتّكلّم، والقراءة، والكتابة(4).

فالاستماع يعني الإنصات بما يتضمّن من فهم واستيعاب وتركيز وتحليل. والتّكلّم هو القدرة على التّعبير والتّواصل شفويًّا بوضوح وطلاقة.

أمّا القراءة فتحمل معنيين متلازمين: الأوّل فكّ الرّموز لِمُرْسَلَة مكتوبة، والثّاني الفهم والاستيعاب والتّحليل. والمهارة الأخيرة، وهي الكتابة، هي القدرة على التّعبير عن الأفكار بوساطة الكلمات المكتوبة.

وثمّة فرق بين السّماع والاستماع (أو الإصغاء). فالسّماع هو استقبال الأذن لذبذبات صوتيّة من مصدر معيّن من دون إعارتها انتباهًا مقصودًا. أمّا الاستماع (أو الإصغاء) فهو مهارة يُعطي فيها المستمع اهتمامًا خاصًّا واهتمامًا مقصودًا لما تتلقّاه أذنه من أصوات ليتمكّن من استيعاب ما يقال(5). وربّما اسْتُعمِلَ السّماع، من باب المجاز، بمعنى الاستماع أو الإصغاء؛ فكثيرًا ما يُقال: أرجوك اسمعني بمعنى أصغِ إِلَيَّ، ويقال: أولادنا لا يسمعون، أي ليس لديهم مهارة الاستماع.

وثمّة فرق بين إطلاق الكلام والتّعبير. فإطلاق الكلام عمليّة آليّة لا تعتمد الانتباه المقصود. أمّا التّعبير فعمليّة تعتمد الانتباه والدّقّة لما ينطق به المرء ليتمكّن من إيصال رسالة محدّدة.

ما نقع فيه - نحن الأهلَ والمربّين والمعلّمين- أنّنا ندرّبُ أولادَنا على القراءة والكتابة والخطّ، ولا ننتبهُ لضرورة تدريبهم على الإصغاء وحسن التّعبير. وما نقع فيه أيضًا أنّنا لا ندرّب أنفسنا على الإصغاء وحسن التّعبير.

إنّ عمليّة التّنفّس اللاّإراديّة تبقينا على قيد الحياة، إذ تسمح بدخول الهواء إلى الرّئتين، لكنّها لا تنشّط الرّئتين. ما ينشّط الرّئتين هو تمارين وأنشطة في التّنفّس. ولعلّ أكثرنا يتعجّب إذا دُعِيَ إلى ورشة عمل لمدّة أسبوع تحت عنوان:"كيف نتنفّس؟".

إنّ الرّئتين تُصابان بالكسل والتّرهّل إذا لم تُنَشَّطا باستمرار بأنشطة هادفة مدروسة. وَكذا الأمر يتعلّق بالدّماغ؛ فإنْ لم ننشّطه بأنشطة مقصودة تستدعي الانتباه فإنّه يُصابُ بالكسل والتّرهّل. وفي الدّماغ مناطق عديدة، منها: منطقة القراءة، ومنطقة الكتابة، ومنطقة الإصغاء، ومنطقة التّكلّم. فما هي الكفايات المتعلّقة بمهارة الإصغاء ومهارة التّعبير؟

ثانيًا: كفايات الإصغاء والتّعبير

ليست كفايات الإصغاء والتّعبير آتية من كوكب المرّيخ أو من كوكب آخر. كفايات الإصغاء والتّعبير هي انعكاس لواقع الحياة. أليس في الحياة تعليمات وتوجيهات في البيوت والمدارس والجامعات والمؤسّسات والشّركات؟ في المطاعم من خلال لوائح المآكل والمشارب وفي السّفر وأدلَّة استعمال الأدوات التّي نشتريها والسّيّارات والإنترنت؟ ألا نحتاج في الحياة لسرد ما يحصل معنا أو لسرد القصص والحكايات؟ أليس التّعبير الشّفويّ حاجة قد تنفجر قلوبنا من دونها؟ ألا نوضع في كثير من المواقف لاتّخاذ قرار أو للاختيار؟ ألا نحتاج لتدوين رؤوس أقلام؟ ألا نحتاج لتقديم أفكارنا ومُنْتجاتنا؟

إنّ كفايات التّواصل الشّفهيّ أي كفايات الإصغاء والتّعبير لا تقتصر على قراءة فقرة في كتاب القراءة، أو على استظهار قطعة شعريّة أو نثريّة وتقديمها تقديمًا خاليًا من الحياة. وإنّ كفايات التّواصل الشّفهيّ ليست عناوين موسميّة فصليّة لأخذ علامة ووضعها على بيان العلامات زاعمين أنّنا نولي التّواصل الشّفهيّ اهتمامًا خاصًّا.

إنّ كفايات التّواصل الشّفهيّ كأخواتها في التّواصل الكتابيّ هي كفايات حياتيّة تعيش معنا وفينا. وهي كفايات مُسْتدامة، من حقّ أدمغتنا علينا أن ننمِّيها بها.

إنّ كفايات التّواصل الشّفهيّ هي نوع من أنواع الأنشطة الهادفة المدروسة. وهذه الكفايات هي(6):

  1.  الاستماع إلى التّعليمات وتنفيذها.
  2.  الإجابة عن أسئلة تتعلّق بمستند مسموع.
  3.  تدوين رؤوس الأقلام لمستند مسموع.
  4. إعادة سرد نصّ مسموع.
  5. الإلقاء الصّحيح المعبّر.
  6.  التّعبير الشّفويّ.
  7.  تقديم عرض شفويّ.

إذا لم ننشّط منطقة الإصغاء ومنطقة التّعبير بأنشطة هادفة مدروسة متنوّعة، فإنّ السّمع وإطلاق الكلام غير كافيين لتنشيطهما؛ عندئذٍ تُصاب منطقة الإصغاء ومنطقة التّكلّم بالكسل والتّرهّل، فتنغلق بوّابة اللّغة، وتكون الآثار السّلبيّة كثيرة؛ فما هي نتائج إهمال مهارتَي الإصغاء والتّعبير؟

 ثالثًا- نتائج إهمال مَهارتَي الإصغاء والتّعبير

لا تُكْتَسب لغةٌ إذا لم تُسْمَع. وابن خلدون قال:"السّمع أبو الملكات الإنسانيّة"(7). ولا يُصبح الإنسان ماهرًا بلغة إذا لم يتحدّث بها. وتأتي بعد ذلك مهارة القراءة، ثمّ مهارة الكتابة.

 إذًا، إنّ إهمـال مَهارَتَي الاستماع والتّكلّم من شأنه أن يترك آثارًا سلبيّة على شخصيّة المتعلّم، وعلى العمليّة التّعليميّة كلّها، وعلى حُسن التّواصل. وهذه الآثار هي:

1- خلل في التوازن: مهارات اللّغة أربع: الاستماع، التّكلّم، القراءة، الكتابة. وهي بعملها تشبه عجلات السّيّارة؛ فأيّ خلل في أيّ عجلة يؤدّي إلى خلل في الأداء العامّ للسّيّارة؛ وهذا ما ينسحب على اللّغة أيضًا.

2- تصحّر في الدّماغ: في الدّماغ مجال للسّمع، ومجال للنّطق، ومجال للقراءة، ومجال للكتابة. وكلّ مجال يحتاج إلى تدريبات. وكأنّنا بكلّ نشاط يشبه قسمًا من بستان. ولكي يثمر البستان كلّه لا بدّ من أن نروي أقسامه كلّها ونتعهدّها بالرّعاية والاهتمام. فإذا لم نهتمّ، عبر التّدريبات والأنّشطة، بمجال السّمع ومجال التّكلّم، يُخْشى على هذين المجالين من التّصحّر الفكريّ.

3- كسل الدّماغ: إنّ الاستماع مُنْطَلَقُه الأذن؛ "فحاسّة السّمع قد اختصّت بها الأذن حيث تستقبل الأصوات الخارجيّة على غشاء رقيق جدًّا من صور موجات تجعله يهتزّ اهتزازات معيّنة تصل ذبذباتها إلى مراكز السّمع العصبيّة"(8).

وفي غياب أنشطة الاستماع وأنشطة التّكلّم تكسل الموصلات العصبيّة، ويكسل الدّماغ بسبب غياب التّوازن في تنمية مجالاته كلّها. وهذا ما يؤدّي إلى "زيادة في إفراز هرمون الكورتيزول (cortisol) من قشرة الغدّة الجاركلويّة الّتي تؤثّر بدرجة كبيرة في عدد من الأجهزة العضويّة. في الجهاز المناعيّ نجد أنّ هرمون الكورتيزول له تأثير كابت قويّ في سير الخلايا المناعيّة وحركتها ووظيفتها. والكورتيزول يثبّط التّجاذب الكيمائيّ" بين الخلايا، ويقلّل من عمل الخلايا البالعة، فيصبح الإنسان أكثر عرضةً للإصابة بالميكروبات(9).

4- خمول في التّواصل الاجتماعيّ: عندما يتكلّم شخص أسمعه؛ وعندما أتكلّم يسمعُني. هذا يعني أنّ الاستماع يتطلّب، حتمًا، متكلِّمًا؛ وأنّ التّكلّم يتطلّب، حتمًا، الاستماع. وهذا يوضح أنّ ممارسة أنشطة الاستماع والتّكلّم تنمّي مهارة التّواصل الاجتماعيّ، وأنّ إهمالها يؤدّي إلى خمول في هذا التّواصل.

وعلينا أن ننتبه إلى أنّ "الوسائط الّتي بإمكاننا التّأثير فيها على حواسّ الآخرين تقتصر على وساطتين هما الـتّحرّك والصّوت. فتأثير التّحرّك مباشر باللّمس وغير مباشر بالحركات. واللّمس لا يمكن العمل به على مسافات؛ وذلك لأنّ حدوده هي طول الذّراع. أمّا الحركات فهي تعمل على طول مسافة الشّعاع النّظريّ. وهكذا يبقى فقط النّظر والسّمع وساطتين عضويّتين موجودتين في تصرّف اللّغة القائمة بين أناس مختلفين"(10).

5- ملل وتأفّف في حصص اللّغة العربيّة: في ظلّ الخلل وغياب التّوزان في وظائف الدّماغ، وفي غياب الأنّشطة الّتي تنمّي مهارات المتعلّمين في الاستماع وفي التّكلّم، إضافة إلى القراءة التّحليليّة والتّعبير الكتابيّ؛ في هذه الأجواء لا عجب إن سيطر الملل على المتعلّمين، وبدأنا نسمع منهم التّأفّف والانزعاج، بل والهروب من اللّغة العربيّة إلى لغات تؤمّن لهم نموًّا لمهاراتهم؛ فاللّغة لم تَعُدْ وسيلة للتّعبير، بل أصبحت حاجة للفكر والشّخصيّة والكيان.

6- ضعف في الطّلاقة والتّعبير الكتابيّ: من الثّابت أنّ الإنسان يكتسب ممّا يسمع أكثر ممّا يكتسب ممّا يقرأ. فإذا كان الإنسان على هذه الحال فكيف به إذا حُرِمَ مهارة الاستماع ومهارة التّكلّم. هذا ينعكس على مخزونه المعرفيّ. وهذا الأمر لا يتلاءَم وخصائصَ اللّغة العربيّة الغنيّة بمعارفها ومفرداتها وقاموسها؛ وهذا الفقر في المخزون اللّغويّ ينعكس تلكّؤًا في الطّلاقة وضعفًا في التّعبير الكتابيّ. كيف يُفَسَّرُ هذا التّلكّؤ في الطّلاقة وهذا الضّعف في التّعبير الكتابيّ؟

كلّ كلام نسمعه يدخل منطقة اللّحاء السّمعيّ، والقشرة السّمعيّة ترسل الكلام إلى منطقة فيرنيك (Wernicke). ومنطقة فيرنيك مسؤولة عن الكلام الوارد. وهذه المنطقة تُرْسِل بدورها الكلام الوارد إلى منطقة بروكا (Broka). ومنطقة بروكا مسؤولة عن الكلام الصّادر(11).

وكلّ كلام نقرأه يدخل إلى القشرة البصريّة، والقشرة البصريّة ترسل الكلام إلى منطقة فيرنيك، ومنطقة فيرنيك ترسله إلى منطقة بروكا(12).

فإذا لم تُزَوَّد منطقة بروكا بالكلام مسموعًا ومقروءًا فماذا يَصْدُر منها؟ إنّ القراءة المسموعة والقراءة المرئيّة هي ماء منهل الواردات؛ ولا عجب بعد هذا إذا توقّفتا مليًّا أمام الآية الأولى المنزلة في القرآن الكريم ﴿إقرأ﴾(13).

ومن خلال عرض نتائج إهمال مَهارَتَي الإصغاء والتّعبير تظهر نتائج رعاية هاتين المهارتين.

 رابعًا- نتائج رعاية مَهارتَي الإصغاء والتّعبير:

إذا درّبنا أنفسنا ودرّبنا أولادنا على الاستماع والتّكلّم تدريبًا مدروسًا هادفًا، فإنّنا بذلك نضمن النّتائج الآتية:

  1. التّوازن بين مهارات اللّغة؛ وهذا التّوازن يؤدّي إلى اكتساب اللّغة بيسر وسهولة واطمئنان وأمان(14).
  2.  حياة في الدّماغ؛ كلّ مناطق الدّماغ ترتوي، والأنشطة ماؤها.
  3.  النّشاط في الدّماغ، كلّ شيء ينقص بالاستخدام إلاّ الدّماغ، فإنّه ينشط، ويزداد حيويّة.
  4.  التّواصل الاجتماعيّ الفاعل، وهذا التّواصل ميزة من ميزات الإنسان.
  5.  الفرح في حصص اللّغات ، ولا سيّما اللّغة العربيّة، حيث نصغي بفرح، ونتكلّم بفرح، ونقرأ بفرح، ونكتب بفرح.
  6. القوّة في الطّلاقة والتّعبير الكتابيّ، إذ من المسلّم أنّ الإصغاء والتّعبير الشّفويّ يرفدان  التّعبير الكتابيّ.

 خامسًا- مقترحات عمليّة

انطلاقًا ممّا سبق، وبهدف تنمية مهارَتَي الإصغاء والتّعبير في أنفسنا وفي أجيالنا، في البيوت والمدارس والمؤسّسات نقدّم الاقتراحات الآتية:

  1. فحص دوريّ: كما نجري فحوصات دوريّة للدّم وغيره، فمن الأهمّيّة بمكان إجراء فحوصات دوريّة تتعلّق بمهارة الإصغاء؛ فإن كانت دون المستوى المطلوب يخضع صاحب الفحص لأنشطة حتى يرتفع المنسوب. لماذا هذا الفحص الدّوريّ للإصغاء؟

إذا كان الإصغاء جيِّدًا كان له أثر عميق في مشاعر مَن نتعامل معهم ونتحدّثُ معهم. فبحسن الإصغاء تشتعل المودّة، وتشرق المحبّة، ويَسْهُل الطّرْق على القلوب.

وقد قيل:"أنصِت يُحِبَّكَ النّاس". فالإصغاء مفتاح الهداية والحصن من الضّلال، وهو مفتاح التّعقّل والحصن من التّعصّب والعَمَه. والإصغاء فعلٌ غير أنانيّ يحرّرنا من العزلة والدّخول في دائرة حسن التّواصل والدّفء الإنسانيّ.

  1. أنشطة يوميّة: من المفترض ممارسة أنشطة يوميّة في الإصغاء والتّعبير الهادفين، وذلك للحفاظ على نشاط الجسم والفكر والوجدان؛ لأنّ المثل يقول:"درهم وقاية خير من قنطار علاج"(15). وهذه الأنّشطة تكون في البيت والمدرسة والعمل، تكون في السّيّارة والرّحلة والطّبيعة...
  2. تطبيق المناهج: رُبَّ مَن يقول:"هذا كلام جميل، ولكن من أين نأتي بالوقت؟ ومتى نُنهي المنهاج؟". ونحن نجيب:
  3. هل استثمرنا الوقت استثمارًا حسنًا وكان أولادنا متمكّنين في اللّغات وحسن التّواصل؟
  4. هل   أصبح  أولادنا متمكّنين في الإصغاء؟ و متمكّنين في التّكلّم؟
  5. ألم ينصّ المنهاج على تنمية مهارات أولادنا: إصغاء وتكلّمًا وقراءة وكتابة؟
  6. هل أدركنا أنّ الإصغاء والتّعبير يسهّلان عمليّة إتمام المنهاج وبنجاح مميّز؟

إنّ تطبيق المناهج واجب، وتدريب المتعلّمين لتنمية مهاراتهم اللّغويّة كلّها مسؤوليّة إنسانيّة ووطنيّة وأخلاقيّة.

  1. الاطّلاع على فوائد أنشطة الإصغاء والتّعبير: من الأهمّيّة أن نقرأ كلّ جديد يتعلّق بفوائد أنشطة الإصغاء والتّعبير من أبحاث ودراسات؛ وهاكم بعض الفوائد:

أ- الاستماع إلى التّعليمات وتنفيذها ينمّي الإصغاء، والمسؤوليّة، والالتزام، والدّقّة.

ب- الإجابة عن أسئلة تتعلّق بمستند مسموع تنمّي مهارة الاختيار، ومهارة اتّخاذ القرار.

  •  تدوين رؤوس الأقلام ينمّي الرّبط بين مهارات اللّغة كلّها، وسرعة البديهة.

د- إعادة سرد نصّ مسموع تنمّي الذّاكرة، وتنشّط خلايا الدّماغ والدّورة الدّمويّة.

ه_ الإلقاء ينمّي الجرأة، والدّماغ الموسيقيّ والعاطفة، وينشّط مناطق دماغيّة متعدّدة.

  • التّعبير الشّفويّ ينمّي التّعبير عن الذّات وتقديرها، ويؤدّي أحيانًا إلى التّنفيس عن المكبوتات، فيولِّد الرّاحة.
  •  تقديم عرض شفويّ ينمّي البحث، والتّخطيط، والتّواصل الاجتماعيّ.

5- فتح مراكز لتنمية الإصغاء والتّعبير: تتكاثر المشكلات في المؤسّسات وفي البيوت وبين الأزواج. ولو نظرنا في أسباب معظمها لوجدنا نقصًا في مهارَتَي الإصغاء وحسن التّحدّث؛ لذا نقترح إنشاء مراكز ذات مواصفات عالية لتنمية مهارات الإصغاء والتّحدّث أسوة بالمراكز الرّياضيّة والأندية ومعاهد الرّسم وغيرها.

لو كان عليّ أنّ أختار اقتراحًا واحدًا لوضع حلّ لجميع المشكلات الّتي نعانيها لاقترحتُ مهارة الإصغاء ومهارة التّعبير؛ فالإصغاء والتّعبير ألفباء التّواصل الفعّال. الإصغاء والتّعبير ألفباء "اقرأ". الإصغاء والتّعبير بذار طيّبة للقلوب الطّيّبة، والقلوب الطّيّبة لا تُنْبِتُ إلاّ الجنى الطّيّب.

واحتشد جمعٌ كثيرٌ، وأقبل النّاسُ إلى السّيّد المسيح من كُلّ مدينة، فكلّمهم بمثل، قال:"خرج الزّارع ليزرع زَرْعَهُ. وبينما هو يَزْرع وَقَعَ بَعْضُ الحَبِّ على جانب الطّريق، فداسَتْه الأقدام، وأكلته طيورُ السّماء؛ ومنه ما وقعَ على الصّخر، فما نَبَتَ حتّى يَبِس، لأنّه لم يجد رطوبة؛ ومنه ما وقع بين الشّوك، فنبتَ الشّوك معه فخنَقَه؛ ومنه ما وقع على الأرض الطّيّبة، فَنَبَتَ وأثمر مئة ضِعف". قال هذا وصاح:"أَلا مَنْ كانَ لهُ أذنان تسمعان فَلْيَسْمَع"(16).


الهوامش

(1) خالد وجدي خان، أجمل الاقتباسات من أعظم المفكّرين،  ar-ar.facebook.com.

(2) أحمد المهندس، تكلّم لكي أراك. جريدة الرّياض 19/7/2013. .www.alriyadh.com

(3) أنطوان طعمة، اللّغة ثروة فكيف نساعد الطّفل على اكتسابها؟ مقابلة من إعداد كارلا حدّاد وماري حصري. مجلّة الجيش، العدد 277، تمّوز 2008، www.lebarmy.gov.lb.

(4) علي أحمد مدكور، كيف تنمّي مهارة طفلك اللّغويّة؟ القاهرة- سفير. ط 1993، ص 9، 10.

  (5) يُراجع نعمت أحمد، درّب نفسك على حسن الاستماع والإنصات. منتديات المهندس كوم. www.eng2all.net

(6) مفيد قهوجي وآخرون، دليل التّقييم- اللّغة العربيّة. المركز التّربويّ للبحوث والإنماء. ط2000، ص 241.

(7) ابن خلدون: المقدّمة. بيروت. دار الكتاب اللّبنانيّ. ط1961، ص 1080.

(8) كامل محمّد عويضة، سيكولوجيّة العقل البشريّ. بيروت- دار الكتب العلميّة. ط1، 1996، ص18.

(9) مدحت خليل محمّد، علم الغدد الصّمّاء. العين/ الإمارات العربيّة المتحدّة- دار الكتاب الجامعيّ. ط2، 2002، ص84.

 (10) Jean - Jacques Rousseau، Essai sur l'origine des langues. Paris- Bibliothèque du graphe. 1970. P.500.

(11) سعادة خليل، علاقة الدّماغ باللّغة والتّعلّم. دار ناشري للنّشر الإلكترونيّ. www.nashiri.net

(12) المرجع السّابق نفسه.

(13) القرآن الكريم، سورة العلق، من الآية (1).

(14) المركز التّربويّ للبحوث والإنماء. مناهج التّعليم العامّ وأهدافها. وزارة التّربية- لبنان. 1997، ص 41.

(15) روحي بعلبكي، موسوعة روائع الحكمة والأقوال الخالدة. بيروت- دار العلم للملايين. ط1، 1997، ص 384.

(16) الإنجيل المقدّس، مثل الزّارع.

الإصغــاء والتّـعـبـيــر ألف باء اللّغة العربيّة

صورة للدكتور سلطان ناصر الدين

قال توماس جيفرسون (Thomas Jefferson):"ما تعلّمتُ شيئًا قطّ وأنا أتكلّم، لكنّني تعلّمتُ عندما كنتُ أُصغي"(1).

وذات يوم وقف رجل وسيم المنظر أنيق الهندام أمام سقراط، وشرع يَتَبختر، ويتباهى بلباسه، ويفاخر بنفسه؛ فقال له سقراط:"تكلّم حتّى أراك"(2).

ثلاث سنوات يقضي أولادنا في مرحلة الرّوضات، وستَّ سنوات في المرحلة الابتدائيّة، وثلاثًا في المرحلة المتوسّطة، ومثلها في المرحلة الثّانويّة. يودّع أبناؤنا المدرسة ليدخلوا الجامعة بعد أن يكونوا قد أمضَوْا في المدرسة خمسَ عشرةَ سنة، وبعد أن يكونوا قد أمضَوْا أربعمئة وخمسين(450) أسبوعًا، في هذه الأسابيع أمْضَوْا في تعلّم اللّغة العربيّة واللّغة الأجنبيّة، في المدرسة وحدها، عدد ساعات يقاربُ معدّلُها الوسطيّ ستّة آلاف ساعة. يودّع أبناؤنا المدرسة وأكثرهم  ليس متمكّنًا في اللّغات ولا في حسن التّواصل. وامتحانات الدّخول في الجامعات خير دليل على ما نقول. وما يعانيه المجتمع من آفة "ضعف الإصغاء" خير دليل على ما نقول.

ماذا نفعل في بيوتنا ومدارسنا؟ عجيب ما نقوم به! ستّة آلاف ساعة نصرفها نعلّم أولادنا اللّغات، والنتيجة أنهم يدخلون الجامعات أو سوق العمل وهم يعانون من ضعف في التواصل والتعبير اللغوييّن.  

 ما السّبب في ذلك؟

لعلّ الأسباب كثيرة، لكنّ أبعدها ما تُتّهم به اللّغات بأنّها لا تُطْعِمُ خبزًا؛ فاللّغة، كما يراها الدّكتور أنطوان طعمة، "ليست أداة اتّصال فحسب، بل أداةٌ لتكوين الفكر وأداةُ إبداع"(3).

فاللّغة موجودة في الإنترنت والرّياضيّات، في الفيزياء والكيمياء، في الطّبّ والصّيدلة، في الآداب والفنون، في الفلسفة والاجتماع، في علم النّفس والقانون، في التّجارة والاقتصاد، في الزّراعة والصّناعة، في كلّ مناحي الحياة ومجالاتها.

لا قيمة للإنترنت والرّياضيّات إلاّ باللّغة، ولا تتجلّى الفيزياء والكيمياء بغير اللّغة. لا يتطوّر الطّبّ والصّيدلة إلاّ باللّغة، ولا تحلّق الآداب والفنون بغير اللّغة. لا تظهر الفلسفة والاجتماع إلاّ باللّغة، ولا يحقّق علم النّفس مبتغاه والقانون مُرْتجاه بغير اللّغة. لا تزدهر التّجارة والاقتصاد إلاّ باللّغة، ولا تتقدّم الزّراعة والصّناعة بغير اللّغة. لا يَحْسُنُ التّواصل إلاّ باللّغة، ولا يتكوّن الفكر ويسمو ويبدع بغير اللّغة.

أولادُنا ليسوا متمكّنين في اللّغات ولا في حسن التّواصل؛ وحسن التّواصل قيمة يقلّ منسوبها يومًا بعد يوم في البيوت والمؤسّسات، ما يؤدّي إلى كثير من المشكلات؛ فما السّبب في ذلك؟

إنّ السّبب الرّئيس لما يحصل هو أنّنا أهملنا مبدأ "وادخلوا البيوت من أبوابها". مبدأ "وادخلوا البيوت من أبوابها" يَسري مُعَدَّلاً مَرِنًا مِطْواعًا في ميادين الحياة، فَيُقال:"وادخلوا اللّغات من أبوابها"؛ فهل لاكتساب اللّغة باب؟

إنّ الإصغاء هو الباب الّذي يُدخِلُنا عوالمَ اللّغة، يتلوه التّعبير، ومنهما تنفتح أمامَنا أسرار اللّغة قراءة وكتابة، واللّغة وساطة التّواصل وزيت الفكر وشعلة الإبداع.

·فما الإصغاء؟ وما التّعبير؟

·ما الكفايات المنضوية تحتهما؟

 ·ما نتائج إهمال هاتين المهارتين؟

·ما نتائج رعاية هاتين المهارتين؟

·كيف ننمّي هاتين المهارتين في أنفسنا وفي أجيالنا وفي البيوت والمدارس والمؤسّسات؟

أوّلاً: الإصغاء والتّعبير

إنّ مهارات اللّغة هي: الإصغاء، والتّكلّم، والقراءة، والكتابة(4).

فالاستماع يعني الإنصات بما يتضمّن من فهم واستيعاب وتركيز وتحليل. والتّكلّم هو القدرة على التّعبير والتّواصل شفويًّا بوضوح وطلاقة.

أمّا القراءة فتحمل معنيين متلازمين: الأوّل فكّ الرّموز لِمُرْسَلَة مكتوبة، والثّاني الفهم والاستيعاب والتّحليل. والمهارة الأخيرة، وهي الكتابة، هي القدرة على التّعبير عن الأفكار بوساطة الكلمات المكتوبة.

وثمّة فرق بين السّماع والاستماع (أو الإصغاء). فالسّماع هو استقبال الأذن لذبذبات صوتيّة من مصدر معيّن من دون إعارتها انتباهًا مقصودًا. أمّا الاستماع (أو الإصغاء) فهو مهارة يُعطي فيها المستمع اهتمامًا خاصًّا واهتمامًا مقصودًا لما تتلقّاه أذنه من أصوات ليتمكّن من استيعاب ما يقال(5). وربّما اسْتُعمِلَ السّماع، من باب المجاز، بمعنى الاستماع أو الإصغاء؛ فكثيرًا ما يُقال: أرجوك اسمعني بمعنى أصغِ إِلَيَّ، ويقال: أولادنا لا يسمعون، أي ليس لديهم مهارة الاستماع.

وثمّة فرق بين إطلاق الكلام والتّعبير. فإطلاق الكلام عمليّة آليّة لا تعتمد الانتباه المقصود. أمّا التّعبير فعمليّة تعتمد الانتباه والدّقّة لما ينطق به المرء ليتمكّن من إيصال رسالة محدّدة.

ما نقع فيه - نحن الأهلَ والمربّين والمعلّمين- أنّنا ندرّبُ أولادَنا على القراءة والكتابة والخطّ، ولا ننتبهُ لضرورة تدريبهم على الإصغاء وحسن التّعبير. وما نقع فيه أيضًا أنّنا لا ندرّب أنفسنا على الإصغاء وحسن التّعبير.

إنّ عمليّة التّنفّس اللاّإراديّة تبقينا على قيد الحياة، إذ تسمح بدخول الهواء إلى الرّئتين، لكنّها لا تنشّط الرّئتين. ما ينشّط الرّئتين هو تمارين وأنشطة في التّنفّس. ولعلّ أكثرنا يتعجّب إذا دُعِيَ إلى ورشة عمل لمدّة أسبوع تحت عنوان:"كيف نتنفّس؟".

إنّ الرّئتين تُصابان بالكسل والتّرهّل إذا لم تُنَشَّطا باستمرار بأنشطة هادفة مدروسة. وَكذا الأمر يتعلّق بالدّماغ؛ فإنْ لم ننشّطه بأنشطة مقصودة تستدعي الانتباه فإنّه يُصابُ بالكسل والتّرهّل. وفي الدّماغ مناطق عديدة، منها: منطقة القراءة، ومنطقة الكتابة، ومنطقة الإصغاء، ومنطقة التّكلّم. فما هي الكفايات المتعلّقة بمهارة الإصغاء ومهارة التّعبير؟

ثانيًا: كفايات الإصغاء والتّعبير

ليست كفايات الإصغاء والتّعبير آتية من كوكب المرّيخ أو من كوكب آخر. كفايات الإصغاء والتّعبير هي انعكاس لواقع الحياة. أليس في الحياة تعليمات وتوجيهات في البيوت والمدارس والجامعات والمؤسّسات والشّركات؟ في المطاعم من خلال لوائح المآكل والمشارب وفي السّفر وأدلَّة استعمال الأدوات التّي نشتريها والسّيّارات والإنترنت؟ ألا نحتاج في الحياة لسرد ما يحصل معنا أو لسرد القصص والحكايات؟ أليس التّعبير الشّفويّ حاجة قد تنفجر قلوبنا من دونها؟ ألا نوضع في كثير من المواقف لاتّخاذ قرار أو للاختيار؟ ألا نحتاج لتدوين رؤوس أقلام؟ ألا نحتاج لتقديم أفكارنا ومُنْتجاتنا؟

إنّ كفايات التّواصل الشّفهيّ أي كفايات الإصغاء والتّعبير لا تقتصر على قراءة فقرة في كتاب القراءة، أو على استظهار قطعة شعريّة أو نثريّة وتقديمها تقديمًا خاليًا من الحياة. وإنّ كفايات التّواصل الشّفهيّ ليست عناوين موسميّة فصليّة لأخذ علامة ووضعها على بيان العلامات زاعمين أنّنا نولي التّواصل الشّفهيّ اهتمامًا خاصًّا.

إنّ كفايات التّواصل الشّفهيّ كأخواتها في التّواصل الكتابيّ هي كفايات حياتيّة تعيش معنا وفينا. وهي كفايات مُسْتدامة، من حقّ أدمغتنا علينا أن ننمِّيها بها.

إنّ كفايات التّواصل الشّفهيّ هي نوع من أنواع الأنشطة الهادفة المدروسة. وهذه الكفايات هي(6):

  1.  الاستماع إلى التّعليمات وتنفيذها.
  2.  الإجابة عن أسئلة تتعلّق بمستند مسموع.
  3.  تدوين رؤوس الأقلام لمستند مسموع.
  4. إعادة سرد نصّ مسموع.
  5. الإلقاء الصّحيح المعبّر.
  6.  التّعبير الشّفويّ.
  7.  تقديم عرض شفويّ.

إذا لم ننشّط منطقة الإصغاء ومنطقة التّعبير بأنشطة هادفة مدروسة متنوّعة، فإنّ السّمع وإطلاق الكلام غير كافيين لتنشيطهما؛ عندئذٍ تُصاب منطقة الإصغاء ومنطقة التّكلّم بالكسل والتّرهّل، فتنغلق بوّابة اللّغة، وتكون الآثار السّلبيّة كثيرة؛ فما هي نتائج إهمال مهارتَي الإصغاء والتّعبير؟

 ثالثًا- نتائج إهمال مَهارتَي الإصغاء والتّعبير

لا تُكْتَسب لغةٌ إذا لم تُسْمَع. وابن خلدون قال:"السّمع أبو الملكات الإنسانيّة"(7). ولا يُصبح الإنسان ماهرًا بلغة إذا لم يتحدّث بها. وتأتي بعد ذلك مهارة القراءة، ثمّ مهارة الكتابة.

 إذًا، إنّ إهمـال مَهارَتَي الاستماع والتّكلّم من شأنه أن يترك آثارًا سلبيّة على شخصيّة المتعلّم، وعلى العمليّة التّعليميّة كلّها، وعلى حُسن التّواصل. وهذه الآثار هي:

1- خلل في التوازن: مهارات اللّغة أربع: الاستماع، التّكلّم، القراءة، الكتابة. وهي بعملها تشبه عجلات السّيّارة؛ فأيّ خلل في أيّ عجلة يؤدّي إلى خلل في الأداء العامّ للسّيّارة؛ وهذا ما ينسحب على اللّغة أيضًا.

2- تصحّر في الدّماغ: في الدّماغ مجال للسّمع، ومجال للنّطق، ومجال للقراءة، ومجال للكتابة. وكلّ مجال يحتاج إلى تدريبات. وكأنّنا بكلّ نشاط يشبه قسمًا من بستان. ولكي يثمر البستان كلّه لا بدّ من أن نروي أقسامه كلّها ونتعهدّها بالرّعاية والاهتمام. فإذا لم نهتمّ، عبر التّدريبات والأنّشطة، بمجال السّمع ومجال التّكلّم، يُخْشى على هذين المجالين من التّصحّر الفكريّ.

3- كسل الدّماغ: إنّ الاستماع مُنْطَلَقُه الأذن؛ "فحاسّة السّمع قد اختصّت بها الأذن حيث تستقبل الأصوات الخارجيّة على غشاء رقيق جدًّا من صور موجات تجعله يهتزّ اهتزازات معيّنة تصل ذبذباتها إلى مراكز السّمع العصبيّة"(8).

وفي غياب أنشطة الاستماع وأنشطة التّكلّم تكسل الموصلات العصبيّة، ويكسل الدّماغ بسبب غياب التّوازن في تنمية مجالاته كلّها. وهذا ما يؤدّي إلى "زيادة في إفراز هرمون الكورتيزول (cortisol) من قشرة الغدّة الجاركلويّة الّتي تؤثّر بدرجة كبيرة في عدد من الأجهزة العضويّة. في الجهاز المناعيّ نجد أنّ هرمون الكورتيزول له تأثير كابت قويّ في سير الخلايا المناعيّة وحركتها ووظيفتها. والكورتيزول يثبّط التّجاذب الكيمائيّ" بين الخلايا، ويقلّل من عمل الخلايا البالعة، فيصبح الإنسان أكثر عرضةً للإصابة بالميكروبات(9).

4- خمول في التّواصل الاجتماعيّ: عندما يتكلّم شخص أسمعه؛ وعندما أتكلّم يسمعُني. هذا يعني أنّ الاستماع يتطلّب، حتمًا، متكلِّمًا؛ وأنّ التّكلّم يتطلّب، حتمًا، الاستماع. وهذا يوضح أنّ ممارسة أنشطة الاستماع والتّكلّم تنمّي مهارة التّواصل الاجتماعيّ، وأنّ إهمالها يؤدّي إلى خمول في هذا التّواصل.

وعلينا أن ننتبه إلى أنّ "الوسائط الّتي بإمكاننا التّأثير فيها على حواسّ الآخرين تقتصر على وساطتين هما الـتّحرّك والصّوت. فتأثير التّحرّك مباشر باللّمس وغير مباشر بالحركات. واللّمس لا يمكن العمل به على مسافات؛ وذلك لأنّ حدوده هي طول الذّراع. أمّا الحركات فهي تعمل على طول مسافة الشّعاع النّظريّ. وهكذا يبقى فقط النّظر والسّمع وساطتين عضويّتين موجودتين في تصرّف اللّغة القائمة بين أناس مختلفين"(10).

5- ملل وتأفّف في حصص اللّغة العربيّة: في ظلّ الخلل وغياب التّوزان في وظائف الدّماغ، وفي غياب الأنّشطة الّتي تنمّي مهارات المتعلّمين في الاستماع وفي التّكلّم، إضافة إلى القراءة التّحليليّة والتّعبير الكتابيّ؛ في هذه الأجواء لا عجب إن سيطر الملل على المتعلّمين، وبدأنا نسمع منهم التّأفّف والانزعاج، بل والهروب من اللّغة العربيّة إلى لغات تؤمّن لهم نموًّا لمهاراتهم؛ فاللّغة لم تَعُدْ وسيلة للتّعبير، بل أصبحت حاجة للفكر والشّخصيّة والكيان.

6- ضعف في الطّلاقة والتّعبير الكتابيّ: من الثّابت أنّ الإنسان يكتسب ممّا يسمع أكثر ممّا يكتسب ممّا يقرأ. فإذا كان الإنسان على هذه الحال فكيف به إذا حُرِمَ مهارة الاستماع ومهارة التّكلّم. هذا ينعكس على مخزونه المعرفيّ. وهذا الأمر لا يتلاءَم وخصائصَ اللّغة العربيّة الغنيّة بمعارفها ومفرداتها وقاموسها؛ وهذا الفقر في المخزون اللّغويّ ينعكس تلكّؤًا في الطّلاقة وضعفًا في التّعبير الكتابيّ. كيف يُفَسَّرُ هذا التّلكّؤ في الطّلاقة وهذا الضّعف في التّعبير الكتابيّ؟

كلّ كلام نسمعه يدخل منطقة اللّحاء السّمعيّ، والقشرة السّمعيّة ترسل الكلام إلى منطقة فيرنيك (Wernicke). ومنطقة فيرنيك مسؤولة عن الكلام الوارد. وهذه المنطقة تُرْسِل بدورها الكلام الوارد إلى منطقة بروكا (Broka). ومنطقة بروكا مسؤولة عن الكلام الصّادر(11).

وكلّ كلام نقرأه يدخل إلى القشرة البصريّة، والقشرة البصريّة ترسل الكلام إلى منطقة فيرنيك، ومنطقة فيرنيك ترسله إلى منطقة بروكا(12).

فإذا لم تُزَوَّد منطقة بروكا بالكلام مسموعًا ومقروءًا فماذا يَصْدُر منها؟ إنّ القراءة المسموعة والقراءة المرئيّة هي ماء منهل الواردات؛ ولا عجب بعد هذا إذا توقّفتا مليًّا أمام الآية الأولى المنزلة في القرآن الكريم ﴿إقرأ﴾(13).

ومن خلال عرض نتائج إهمال مَهارَتَي الإصغاء والتّعبير تظهر نتائج رعاية هاتين المهارتين.

 رابعًا- نتائج رعاية مَهارتَي الإصغاء والتّعبير:

إذا درّبنا أنفسنا ودرّبنا أولادنا على الاستماع والتّكلّم تدريبًا مدروسًا هادفًا، فإنّنا بذلك نضمن النّتائج الآتية:

  1. التّوازن بين مهارات اللّغة؛ وهذا التّوازن يؤدّي إلى اكتساب اللّغة بيسر وسهولة واطمئنان وأمان(14).
  2.  حياة في الدّماغ؛ كلّ مناطق الدّماغ ترتوي، والأنشطة ماؤها.
  3.  النّشاط في الدّماغ، كلّ شيء ينقص بالاستخدام إلاّ الدّماغ، فإنّه ينشط، ويزداد حيويّة.
  4.  التّواصل الاجتماعيّ الفاعل، وهذا التّواصل ميزة من ميزات الإنسان.
  5.  الفرح في حصص اللّغات ، ولا سيّما اللّغة العربيّة، حيث نصغي بفرح، ونتكلّم بفرح، ونقرأ بفرح، ونكتب بفرح.
  6. القوّة في الطّلاقة والتّعبير الكتابيّ، إذ من المسلّم أنّ الإصغاء والتّعبير الشّفويّ يرفدان  التّعبير الكتابيّ.

 خامسًا- مقترحات عمليّة

انطلاقًا ممّا سبق، وبهدف تنمية مهارَتَي الإصغاء والتّعبير في أنفسنا وفي أجيالنا، في البيوت والمدارس والمؤسّسات نقدّم الاقتراحات الآتية:

  1. فحص دوريّ: كما نجري فحوصات دوريّة للدّم وغيره، فمن الأهمّيّة بمكان إجراء فحوصات دوريّة تتعلّق بمهارة الإصغاء؛ فإن كانت دون المستوى المطلوب يخضع صاحب الفحص لأنشطة حتى يرتفع المنسوب. لماذا هذا الفحص الدّوريّ للإصغاء؟

إذا كان الإصغاء جيِّدًا كان له أثر عميق في مشاعر مَن نتعامل معهم ونتحدّثُ معهم. فبحسن الإصغاء تشتعل المودّة، وتشرق المحبّة، ويَسْهُل الطّرْق على القلوب.

وقد قيل:"أنصِت يُحِبَّكَ النّاس". فالإصغاء مفتاح الهداية والحصن من الضّلال، وهو مفتاح التّعقّل والحصن من التّعصّب والعَمَه. والإصغاء فعلٌ غير أنانيّ يحرّرنا من العزلة والدّخول في دائرة حسن التّواصل والدّفء الإنسانيّ.

  1. أنشطة يوميّة: من المفترض ممارسة أنشطة يوميّة في الإصغاء والتّعبير الهادفين، وذلك للحفاظ على نشاط الجسم والفكر والوجدان؛ لأنّ المثل يقول:"درهم وقاية خير من قنطار علاج"(15). وهذه الأنّشطة تكون في البيت والمدرسة والعمل، تكون في السّيّارة والرّحلة والطّبيعة...
  2. تطبيق المناهج: رُبَّ مَن يقول:"هذا كلام جميل، ولكن من أين نأتي بالوقت؟ ومتى نُنهي المنهاج؟". ونحن نجيب:
  3. هل استثمرنا الوقت استثمارًا حسنًا وكان أولادنا متمكّنين في اللّغات وحسن التّواصل؟
  4. هل   أصبح  أولادنا متمكّنين في الإصغاء؟ و متمكّنين في التّكلّم؟
  5. ألم ينصّ المنهاج على تنمية مهارات أولادنا: إصغاء وتكلّمًا وقراءة وكتابة؟
  6. هل أدركنا أنّ الإصغاء والتّعبير يسهّلان عمليّة إتمام المنهاج وبنجاح مميّز؟

إنّ تطبيق المناهج واجب، وتدريب المتعلّمين لتنمية مهاراتهم اللّغويّة كلّها مسؤوليّة إنسانيّة ووطنيّة وأخلاقيّة.

  1. الاطّلاع على فوائد أنشطة الإصغاء والتّعبير: من الأهمّيّة أن نقرأ كلّ جديد يتعلّق بفوائد أنشطة الإصغاء والتّعبير من أبحاث ودراسات؛ وهاكم بعض الفوائد:

أ- الاستماع إلى التّعليمات وتنفيذها ينمّي الإصغاء، والمسؤوليّة، والالتزام، والدّقّة.

ب- الإجابة عن أسئلة تتعلّق بمستند مسموع تنمّي مهارة الاختيار، ومهارة اتّخاذ القرار.

  •  تدوين رؤوس الأقلام ينمّي الرّبط بين مهارات اللّغة كلّها، وسرعة البديهة.

د- إعادة سرد نصّ مسموع تنمّي الذّاكرة، وتنشّط خلايا الدّماغ والدّورة الدّمويّة.

ه_ الإلقاء ينمّي الجرأة، والدّماغ الموسيقيّ والعاطفة، وينشّط مناطق دماغيّة متعدّدة.

  • التّعبير الشّفويّ ينمّي التّعبير عن الذّات وتقديرها، ويؤدّي أحيانًا إلى التّنفيس عن المكبوتات، فيولِّد الرّاحة.
  •  تقديم عرض شفويّ ينمّي البحث، والتّخطيط، والتّواصل الاجتماعيّ.

5- فتح مراكز لتنمية الإصغاء والتّعبير: تتكاثر المشكلات في المؤسّسات وفي البيوت وبين الأزواج. ولو نظرنا في أسباب معظمها لوجدنا نقصًا في مهارَتَي الإصغاء وحسن التّحدّث؛ لذا نقترح إنشاء مراكز ذات مواصفات عالية لتنمية مهارات الإصغاء والتّحدّث أسوة بالمراكز الرّياضيّة والأندية ومعاهد الرّسم وغيرها.

لو كان عليّ أنّ أختار اقتراحًا واحدًا لوضع حلّ لجميع المشكلات الّتي نعانيها لاقترحتُ مهارة الإصغاء ومهارة التّعبير؛ فالإصغاء والتّعبير ألفباء التّواصل الفعّال. الإصغاء والتّعبير ألفباء "اقرأ". الإصغاء والتّعبير بذار طيّبة للقلوب الطّيّبة، والقلوب الطّيّبة لا تُنْبِتُ إلاّ الجنى الطّيّب.

واحتشد جمعٌ كثيرٌ، وأقبل النّاسُ إلى السّيّد المسيح من كُلّ مدينة، فكلّمهم بمثل، قال:"خرج الزّارع ليزرع زَرْعَهُ. وبينما هو يَزْرع وَقَعَ بَعْضُ الحَبِّ على جانب الطّريق، فداسَتْه الأقدام، وأكلته طيورُ السّماء؛ ومنه ما وقعَ على الصّخر، فما نَبَتَ حتّى يَبِس، لأنّه لم يجد رطوبة؛ ومنه ما وقع بين الشّوك، فنبتَ الشّوك معه فخنَقَه؛ ومنه ما وقع على الأرض الطّيّبة، فَنَبَتَ وأثمر مئة ضِعف". قال هذا وصاح:"أَلا مَنْ كانَ لهُ أذنان تسمعان فَلْيَسْمَع"(16).


الهوامش

(1) خالد وجدي خان، أجمل الاقتباسات من أعظم المفكّرين،  ar-ar.facebook.com.

(2) أحمد المهندس، تكلّم لكي أراك. جريدة الرّياض 19/7/2013. .www.alriyadh.com

(3) أنطوان طعمة، اللّغة ثروة فكيف نساعد الطّفل على اكتسابها؟ مقابلة من إعداد كارلا حدّاد وماري حصري. مجلّة الجيش، العدد 277، تمّوز 2008، www.lebarmy.gov.lb.

(4) علي أحمد مدكور، كيف تنمّي مهارة طفلك اللّغويّة؟ القاهرة- سفير. ط 1993، ص 9، 10.

  (5) يُراجع نعمت أحمد، درّب نفسك على حسن الاستماع والإنصات. منتديات المهندس كوم. www.eng2all.net

(6) مفيد قهوجي وآخرون، دليل التّقييم- اللّغة العربيّة. المركز التّربويّ للبحوث والإنماء. ط2000، ص 241.

(7) ابن خلدون: المقدّمة. بيروت. دار الكتاب اللّبنانيّ. ط1961، ص 1080.

(8) كامل محمّد عويضة، سيكولوجيّة العقل البشريّ. بيروت- دار الكتب العلميّة. ط1، 1996، ص18.

(9) مدحت خليل محمّد، علم الغدد الصّمّاء. العين/ الإمارات العربيّة المتحدّة- دار الكتاب الجامعيّ. ط2، 2002، ص84.

 (10) Jean - Jacques Rousseau، Essai sur l'origine des langues. Paris- Bibliothèque du graphe. 1970. P.500.

(11) سعادة خليل، علاقة الدّماغ باللّغة والتّعلّم. دار ناشري للنّشر الإلكترونيّ. www.nashiri.net

(12) المرجع السّابق نفسه.

(13) القرآن الكريم، سورة العلق، من الآية (1).

(14) المركز التّربويّ للبحوث والإنماء. مناهج التّعليم العامّ وأهدافها. وزارة التّربية- لبنان. 1997، ص 41.

(15) روحي بعلبكي، موسوعة روائع الحكمة والأقوال الخالدة. بيروت- دار العلم للملايين. ط1، 1997، ص 384.

(16) الإنجيل المقدّس، مثل الزّارع.

الإصغــاء والتّـعـبـيــر ألف باء اللّغة العربيّة

صورة للدكتور سلطان ناصر الدين

قال توماس جيفرسون (Thomas Jefferson):"ما تعلّمتُ شيئًا قطّ وأنا أتكلّم، لكنّني تعلّمتُ عندما كنتُ أُصغي"(1).

وذات يوم وقف رجل وسيم المنظر أنيق الهندام أمام سقراط، وشرع يَتَبختر، ويتباهى بلباسه، ويفاخر بنفسه؛ فقال له سقراط:"تكلّم حتّى أراك"(2).

ثلاث سنوات يقضي أولادنا في مرحلة الرّوضات، وستَّ سنوات في المرحلة الابتدائيّة، وثلاثًا في المرحلة المتوسّطة، ومثلها في المرحلة الثّانويّة. يودّع أبناؤنا المدرسة ليدخلوا الجامعة بعد أن يكونوا قد أمضَوْا في المدرسة خمسَ عشرةَ سنة، وبعد أن يكونوا قد أمضَوْا أربعمئة وخمسين(450) أسبوعًا، في هذه الأسابيع أمْضَوْا في تعلّم اللّغة العربيّة واللّغة الأجنبيّة، في المدرسة وحدها، عدد ساعات يقاربُ معدّلُها الوسطيّ ستّة آلاف ساعة. يودّع أبناؤنا المدرسة وأكثرهم  ليس متمكّنًا في اللّغات ولا في حسن التّواصل. وامتحانات الدّخول في الجامعات خير دليل على ما نقول. وما يعانيه المجتمع من آفة "ضعف الإصغاء" خير دليل على ما نقول.

ماذا نفعل في بيوتنا ومدارسنا؟ عجيب ما نقوم به! ستّة آلاف ساعة نصرفها نعلّم أولادنا اللّغات، والنتيجة أنهم يدخلون الجامعات أو سوق العمل وهم يعانون من ضعف في التواصل والتعبير اللغوييّن.  

 ما السّبب في ذلك؟

لعلّ الأسباب كثيرة، لكنّ أبعدها ما تُتّهم به اللّغات بأنّها لا تُطْعِمُ خبزًا؛ فاللّغة، كما يراها الدّكتور أنطوان طعمة، "ليست أداة اتّصال فحسب، بل أداةٌ لتكوين الفكر وأداةُ إبداع"(3).

فاللّغة موجودة في الإنترنت والرّياضيّات، في الفيزياء والكيمياء، في الطّبّ والصّيدلة، في الآداب والفنون، في الفلسفة والاجتماع، في علم النّفس والقانون، في التّجارة والاقتصاد، في الزّراعة والصّناعة، في كلّ مناحي الحياة ومجالاتها.

لا قيمة للإنترنت والرّياضيّات إلاّ باللّغة، ولا تتجلّى الفيزياء والكيمياء بغير اللّغة. لا يتطوّر الطّبّ والصّيدلة إلاّ باللّغة، ولا تحلّق الآداب والفنون بغير اللّغة. لا تظهر الفلسفة والاجتماع إلاّ باللّغة، ولا يحقّق علم النّفس مبتغاه والقانون مُرْتجاه بغير اللّغة. لا تزدهر التّجارة والاقتصاد إلاّ باللّغة، ولا تتقدّم الزّراعة والصّناعة بغير اللّغة. لا يَحْسُنُ التّواصل إلاّ باللّغة، ولا يتكوّن الفكر ويسمو ويبدع بغير اللّغة.

أولادُنا ليسوا متمكّنين في اللّغات ولا في حسن التّواصل؛ وحسن التّواصل قيمة يقلّ منسوبها يومًا بعد يوم في البيوت والمؤسّسات، ما يؤدّي إلى كثير من المشكلات؛ فما السّبب في ذلك؟

إنّ السّبب الرّئيس لما يحصل هو أنّنا أهملنا مبدأ "وادخلوا البيوت من أبوابها". مبدأ "وادخلوا البيوت من أبوابها" يَسري مُعَدَّلاً مَرِنًا مِطْواعًا في ميادين الحياة، فَيُقال:"وادخلوا اللّغات من أبوابها"؛ فهل لاكتساب اللّغة باب؟

إنّ الإصغاء هو الباب الّذي يُدخِلُنا عوالمَ اللّغة، يتلوه التّعبير، ومنهما تنفتح أمامَنا أسرار اللّغة قراءة وكتابة، واللّغة وساطة التّواصل وزيت الفكر وشعلة الإبداع.

·فما الإصغاء؟ وما التّعبير؟

·ما الكفايات المنضوية تحتهما؟

 ·ما نتائج إهمال هاتين المهارتين؟

·ما نتائج رعاية هاتين المهارتين؟

·كيف ننمّي هاتين المهارتين في أنفسنا وفي أجيالنا وفي البيوت والمدارس والمؤسّسات؟

أوّلاً: الإصغاء والتّعبير

إنّ مهارات اللّغة هي: الإصغاء، والتّكلّم، والقراءة، والكتابة(4).

فالاستماع يعني الإنصات بما يتضمّن من فهم واستيعاب وتركيز وتحليل. والتّكلّم هو القدرة على التّعبير والتّواصل شفويًّا بوضوح وطلاقة.

أمّا القراءة فتحمل معنيين متلازمين: الأوّل فكّ الرّموز لِمُرْسَلَة مكتوبة، والثّاني الفهم والاستيعاب والتّحليل. والمهارة الأخيرة، وهي الكتابة، هي القدرة على التّعبير عن الأفكار بوساطة الكلمات المكتوبة.

وثمّة فرق بين السّماع والاستماع (أو الإصغاء). فالسّماع هو استقبال الأذن لذبذبات صوتيّة من مصدر معيّن من دون إعارتها انتباهًا مقصودًا. أمّا الاستماع (أو الإصغاء) فهو مهارة يُعطي فيها المستمع اهتمامًا خاصًّا واهتمامًا مقصودًا لما تتلقّاه أذنه من أصوات ليتمكّن من استيعاب ما يقال(5). وربّما اسْتُعمِلَ السّماع، من باب المجاز، بمعنى الاستماع أو الإصغاء؛ فكثيرًا ما يُقال: أرجوك اسمعني بمعنى أصغِ إِلَيَّ، ويقال: أولادنا لا يسمعون، أي ليس لديهم مهارة الاستماع.

وثمّة فرق بين إطلاق الكلام والتّعبير. فإطلاق الكلام عمليّة آليّة لا تعتمد الانتباه المقصود. أمّا التّعبير فعمليّة تعتمد الانتباه والدّقّة لما ينطق به المرء ليتمكّن من إيصال رسالة محدّدة.

ما نقع فيه - نحن الأهلَ والمربّين والمعلّمين- أنّنا ندرّبُ أولادَنا على القراءة والكتابة والخطّ، ولا ننتبهُ لضرورة تدريبهم على الإصغاء وحسن التّعبير. وما نقع فيه أيضًا أنّنا لا ندرّب أنفسنا على الإصغاء وحسن التّعبير.

إنّ عمليّة التّنفّس اللاّإراديّة تبقينا على قيد الحياة، إذ تسمح بدخول الهواء إلى الرّئتين، لكنّها لا تنشّط الرّئتين. ما ينشّط الرّئتين هو تمارين وأنشطة في التّنفّس. ولعلّ أكثرنا يتعجّب إذا دُعِيَ إلى ورشة عمل لمدّة أسبوع تحت عنوان:"كيف نتنفّس؟".

إنّ الرّئتين تُصابان بالكسل والتّرهّل إذا لم تُنَشَّطا باستمرار بأنشطة هادفة مدروسة. وَكذا الأمر يتعلّق بالدّماغ؛ فإنْ لم ننشّطه بأنشطة مقصودة تستدعي الانتباه فإنّه يُصابُ بالكسل والتّرهّل. وفي الدّماغ مناطق عديدة، منها: منطقة القراءة، ومنطقة الكتابة، ومنطقة الإصغاء، ومنطقة التّكلّم. فما هي الكفايات المتعلّقة بمهارة الإصغاء ومهارة التّعبير؟

ثانيًا: كفايات الإصغاء والتّعبير

ليست كفايات الإصغاء والتّعبير آتية من كوكب المرّيخ أو من كوكب آخر. كفايات الإصغاء والتّعبير هي انعكاس لواقع الحياة. أليس في الحياة تعليمات وتوجيهات في البيوت والمدارس والجامعات والمؤسّسات والشّركات؟ في المطاعم من خلال لوائح المآكل والمشارب وفي السّفر وأدلَّة استعمال الأدوات التّي نشتريها والسّيّارات والإنترنت؟ ألا نحتاج في الحياة لسرد ما يحصل معنا أو لسرد القصص والحكايات؟ أليس التّعبير الشّفويّ حاجة قد تنفجر قلوبنا من دونها؟ ألا نوضع في كثير من المواقف لاتّخاذ قرار أو للاختيار؟ ألا نحتاج لتدوين رؤوس أقلام؟ ألا نحتاج لتقديم أفكارنا ومُنْتجاتنا؟

إنّ كفايات التّواصل الشّفهيّ أي كفايات الإصغاء والتّعبير لا تقتصر على قراءة فقرة في كتاب القراءة، أو على استظهار قطعة شعريّة أو نثريّة وتقديمها تقديمًا خاليًا من الحياة. وإنّ كفايات التّواصل الشّفهيّ ليست عناوين موسميّة فصليّة لأخذ علامة ووضعها على بيان العلامات زاعمين أنّنا نولي التّواصل الشّفهيّ اهتمامًا خاصًّا.

إنّ كفايات التّواصل الشّفهيّ كأخواتها في التّواصل الكتابيّ هي كفايات حياتيّة تعيش معنا وفينا. وهي كفايات مُسْتدامة، من حقّ أدمغتنا علينا أن ننمِّيها بها.

إنّ كفايات التّواصل الشّفهيّ هي نوع من أنواع الأنشطة الهادفة المدروسة. وهذه الكفايات هي(6):

  1.  الاستماع إلى التّعليمات وتنفيذها.
  2.  الإجابة عن أسئلة تتعلّق بمستند مسموع.
  3.  تدوين رؤوس الأقلام لمستند مسموع.
  4. إعادة سرد نصّ مسموع.
  5. الإلقاء الصّحيح المعبّر.
  6.  التّعبير الشّفويّ.
  7.  تقديم عرض شفويّ.

إذا لم ننشّط منطقة الإصغاء ومنطقة التّعبير بأنشطة هادفة مدروسة متنوّعة، فإنّ السّمع وإطلاق الكلام غير كافيين لتنشيطهما؛ عندئذٍ تُصاب منطقة الإصغاء ومنطقة التّكلّم بالكسل والتّرهّل، فتنغلق بوّابة اللّغة، وتكون الآثار السّلبيّة كثيرة؛ فما هي نتائج إهمال مهارتَي الإصغاء والتّعبير؟

 ثالثًا- نتائج إهمال مَهارتَي الإصغاء والتّعبير

لا تُكْتَسب لغةٌ إذا لم تُسْمَع. وابن خلدون قال:"السّمع أبو الملكات الإنسانيّة"(7). ولا يُصبح الإنسان ماهرًا بلغة إذا لم يتحدّث بها. وتأتي بعد ذلك مهارة القراءة، ثمّ مهارة الكتابة.

 إذًا، إنّ إهمـال مَهارَتَي الاستماع والتّكلّم من شأنه أن يترك آثارًا سلبيّة على شخصيّة المتعلّم، وعلى العمليّة التّعليميّة كلّها، وعلى حُسن التّواصل. وهذه الآثار هي:

1- خلل في التوازن: مهارات اللّغة أربع: الاستماع، التّكلّم، القراءة، الكتابة. وهي بعملها تشبه عجلات السّيّارة؛ فأيّ خلل في أيّ عجلة يؤدّي إلى خلل في الأداء العامّ للسّيّارة؛ وهذا ما ينسحب على اللّغة أيضًا.

2- تصحّر في الدّماغ: في الدّماغ مجال للسّمع، ومجال للنّطق، ومجال للقراءة، ومجال للكتابة. وكلّ مجال يحتاج إلى تدريبات. وكأنّنا بكلّ نشاط يشبه قسمًا من بستان. ولكي يثمر البستان كلّه لا بدّ من أن نروي أقسامه كلّها ونتعهدّها بالرّعاية والاهتمام. فإذا لم نهتمّ، عبر التّدريبات والأنّشطة، بمجال السّمع ومجال التّكلّم، يُخْشى على هذين المجالين من التّصحّر الفكريّ.

3- كسل الدّماغ: إنّ الاستماع مُنْطَلَقُه الأذن؛ "فحاسّة السّمع قد اختصّت بها الأذن حيث تستقبل الأصوات الخارجيّة على غشاء رقيق جدًّا من صور موجات تجعله يهتزّ اهتزازات معيّنة تصل ذبذباتها إلى مراكز السّمع العصبيّة"(8).

وفي غياب أنشطة الاستماع وأنشطة التّكلّم تكسل الموصلات العصبيّة، ويكسل الدّماغ بسبب غياب التّوازن في تنمية مجالاته كلّها. وهذا ما يؤدّي إلى "زيادة في إفراز هرمون الكورتيزول (cortisol) من قشرة الغدّة الجاركلويّة الّتي تؤثّر بدرجة كبيرة في عدد من الأجهزة العضويّة. في الجهاز المناعيّ نجد أنّ هرمون الكورتيزول له تأثير كابت قويّ في سير الخلايا المناعيّة وحركتها ووظيفتها. والكورتيزول يثبّط التّجاذب الكيمائيّ" بين الخلايا، ويقلّل من عمل الخلايا البالعة، فيصبح الإنسان أكثر عرضةً للإصابة بالميكروبات(9).

4- خمول في التّواصل الاجتماعيّ: عندما يتكلّم شخص أسمعه؛ وعندما أتكلّم يسمعُني. هذا يعني أنّ الاستماع يتطلّب، حتمًا، متكلِّمًا؛ وأنّ التّكلّم يتطلّب، حتمًا، الاستماع. وهذا يوضح أنّ ممارسة أنشطة الاستماع والتّكلّم تنمّي مهارة التّواصل الاجتماعيّ، وأنّ إهمالها يؤدّي إلى خمول في هذا التّواصل.

وعلينا أن ننتبه إلى أنّ "الوسائط الّتي بإمكاننا التّأثير فيها على حواسّ الآخرين تقتصر على وساطتين هما الـتّحرّك والصّوت. فتأثير التّحرّك مباشر باللّمس وغير مباشر بالحركات. واللّمس لا يمكن العمل به على مسافات؛ وذلك لأنّ حدوده هي طول الذّراع. أمّا الحركات فهي تعمل على طول مسافة الشّعاع النّظريّ. وهكذا يبقى فقط النّظر والسّمع وساطتين عضويّتين موجودتين في تصرّف اللّغة القائمة بين أناس مختلفين"(10).

5- ملل وتأفّف في حصص اللّغة العربيّة: في ظلّ الخلل وغياب التّوزان في وظائف الدّماغ، وفي غياب الأنّشطة الّتي تنمّي مهارات المتعلّمين في الاستماع وفي التّكلّم، إضافة إلى القراءة التّحليليّة والتّعبير الكتابيّ؛ في هذه الأجواء لا عجب إن سيطر الملل على المتعلّمين، وبدأنا نسمع منهم التّأفّف والانزعاج، بل والهروب من اللّغة العربيّة إلى لغات تؤمّن لهم نموًّا لمهاراتهم؛ فاللّغة لم تَعُدْ وسيلة للتّعبير، بل أصبحت حاجة للفكر والشّخصيّة والكيان.

6- ضعف في الطّلاقة والتّعبير الكتابيّ: من الثّابت أنّ الإنسان يكتسب ممّا يسمع أكثر ممّا يكتسب ممّا يقرأ. فإذا كان الإنسان على هذه الحال فكيف به إذا حُرِمَ مهارة الاستماع ومهارة التّكلّم. هذا ينعكس على مخزونه المعرفيّ. وهذا الأمر لا يتلاءَم وخصائصَ اللّغة العربيّة الغنيّة بمعارفها ومفرداتها وقاموسها؛ وهذا الفقر في المخزون اللّغويّ ينعكس تلكّؤًا في الطّلاقة وضعفًا في التّعبير الكتابيّ. كيف يُفَسَّرُ هذا التّلكّؤ في الطّلاقة وهذا الضّعف في التّعبير الكتابيّ؟

كلّ كلام نسمعه يدخل منطقة اللّحاء السّمعيّ، والقشرة السّمعيّة ترسل الكلام إلى منطقة فيرنيك (Wernicke). ومنطقة فيرنيك مسؤولة عن الكلام الوارد. وهذه المنطقة تُرْسِل بدورها الكلام الوارد إلى منطقة بروكا (Broka). ومنطقة بروكا مسؤولة عن الكلام الصّادر(11).

وكلّ كلام نقرأه يدخل إلى القشرة البصريّة، والقشرة البصريّة ترسل الكلام إلى منطقة فيرنيك، ومنطقة فيرنيك ترسله إلى منطقة بروكا(12).

فإذا لم تُزَوَّد منطقة بروكا بالكلام مسموعًا ومقروءًا فماذا يَصْدُر منها؟ إنّ القراءة المسموعة والقراءة المرئيّة هي ماء منهل الواردات؛ ولا عجب بعد هذا إذا توقّفتا مليًّا أمام الآية الأولى المنزلة في القرآن الكريم ﴿إقرأ﴾(13).

ومن خلال عرض نتائج إهمال مَهارَتَي الإصغاء والتّعبير تظهر نتائج رعاية هاتين المهارتين.

 رابعًا- نتائج رعاية مَهارتَي الإصغاء والتّعبير:

إذا درّبنا أنفسنا ودرّبنا أولادنا على الاستماع والتّكلّم تدريبًا مدروسًا هادفًا، فإنّنا بذلك نضمن النّتائج الآتية:

  1. التّوازن بين مهارات اللّغة؛ وهذا التّوازن يؤدّي إلى اكتساب اللّغة بيسر وسهولة واطمئنان وأمان(14).
  2.  حياة في الدّماغ؛ كلّ مناطق الدّماغ ترتوي، والأنشطة ماؤها.
  3.  النّشاط في الدّماغ، كلّ شيء ينقص بالاستخدام إلاّ الدّماغ، فإنّه ينشط، ويزداد حيويّة.
  4.  التّواصل الاجتماعيّ الفاعل، وهذا التّواصل ميزة من ميزات الإنسان.
  5.  الفرح في حصص اللّغات ، ولا سيّما اللّغة العربيّة، حيث نصغي بفرح، ونتكلّم بفرح، ونقرأ بفرح، ونكتب بفرح.
  6. القوّة في الطّلاقة والتّعبير الكتابيّ، إذ من المسلّم أنّ الإصغاء والتّعبير الشّفويّ يرفدان  التّعبير الكتابيّ.

 خامسًا- مقترحات عمليّة

انطلاقًا ممّا سبق، وبهدف تنمية مهارَتَي الإصغاء والتّعبير في أنفسنا وفي أجيالنا، في البيوت والمدارس والمؤسّسات نقدّم الاقتراحات الآتية:

  1. فحص دوريّ: كما نجري فحوصات دوريّة للدّم وغيره، فمن الأهمّيّة بمكان إجراء فحوصات دوريّة تتعلّق بمهارة الإصغاء؛ فإن كانت دون المستوى المطلوب يخضع صاحب الفحص لأنشطة حتى يرتفع المنسوب. لماذا هذا الفحص الدّوريّ للإصغاء؟

إذا كان الإصغاء جيِّدًا كان له أثر عميق في مشاعر مَن نتعامل معهم ونتحدّثُ معهم. فبحسن الإصغاء تشتعل المودّة، وتشرق المحبّة، ويَسْهُل الطّرْق على القلوب.

وقد قيل:"أنصِت يُحِبَّكَ النّاس". فالإصغاء مفتاح الهداية والحصن من الضّلال، وهو مفتاح التّعقّل والحصن من التّعصّب والعَمَه. والإصغاء فعلٌ غير أنانيّ يحرّرنا من العزلة والدّخول في دائرة حسن التّواصل والدّفء الإنسانيّ.

  1. أنشطة يوميّة: من المفترض ممارسة أنشطة يوميّة في الإصغاء والتّعبير الهادفين، وذلك للحفاظ على نشاط الجسم والفكر والوجدان؛ لأنّ المثل يقول:"درهم وقاية خير من قنطار علاج"(15). وهذه الأنّشطة تكون في البيت والمدرسة والعمل، تكون في السّيّارة والرّحلة والطّبيعة...
  2. تطبيق المناهج: رُبَّ مَن يقول:"هذا كلام جميل، ولكن من أين نأتي بالوقت؟ ومتى نُنهي المنهاج؟". ونحن نجيب:
  3. هل استثمرنا الوقت استثمارًا حسنًا وكان أولادنا متمكّنين في اللّغات وحسن التّواصل؟
  4. هل   أصبح  أولادنا متمكّنين في الإصغاء؟ و متمكّنين في التّكلّم؟
  5. ألم ينصّ المنهاج على تنمية مهارات أولادنا: إصغاء وتكلّمًا وقراءة وكتابة؟
  6. هل أدركنا أنّ الإصغاء والتّعبير يسهّلان عمليّة إتمام المنهاج وبنجاح مميّز؟

إنّ تطبيق المناهج واجب، وتدريب المتعلّمين لتنمية مهاراتهم اللّغويّة كلّها مسؤوليّة إنسانيّة ووطنيّة وأخلاقيّة.

  1. الاطّلاع على فوائد أنشطة الإصغاء والتّعبير: من الأهمّيّة أن نقرأ كلّ جديد يتعلّق بفوائد أنشطة الإصغاء والتّعبير من أبحاث ودراسات؛ وهاكم بعض الفوائد:

أ- الاستماع إلى التّعليمات وتنفيذها ينمّي الإصغاء، والمسؤوليّة، والالتزام، والدّقّة.

ب- الإجابة عن أسئلة تتعلّق بمستند مسموع تنمّي مهارة الاختيار، ومهارة اتّخاذ القرار.

  •  تدوين رؤوس الأقلام ينمّي الرّبط بين مهارات اللّغة كلّها، وسرعة البديهة.

د- إعادة سرد نصّ مسموع تنمّي الذّاكرة، وتنشّط خلايا الدّماغ والدّورة الدّمويّة.

ه_ الإلقاء ينمّي الجرأة، والدّماغ الموسيقيّ والعاطفة، وينشّط مناطق دماغيّة متعدّدة.

  • التّعبير الشّفويّ ينمّي التّعبير عن الذّات وتقديرها، ويؤدّي أحيانًا إلى التّنفيس عن المكبوتات، فيولِّد الرّاحة.
  •  تقديم عرض شفويّ ينمّي البحث، والتّخطيط، والتّواصل الاجتماعيّ.

5- فتح مراكز لتنمية الإصغاء والتّعبير: تتكاثر المشكلات في المؤسّسات وفي البيوت وبين الأزواج. ولو نظرنا في أسباب معظمها لوجدنا نقصًا في مهارَتَي الإصغاء وحسن التّحدّث؛ لذا نقترح إنشاء مراكز ذات مواصفات عالية لتنمية مهارات الإصغاء والتّحدّث أسوة بالمراكز الرّياضيّة والأندية ومعاهد الرّسم وغيرها.

لو كان عليّ أنّ أختار اقتراحًا واحدًا لوضع حلّ لجميع المشكلات الّتي نعانيها لاقترحتُ مهارة الإصغاء ومهارة التّعبير؛ فالإصغاء والتّعبير ألفباء التّواصل الفعّال. الإصغاء والتّعبير ألفباء "اقرأ". الإصغاء والتّعبير بذار طيّبة للقلوب الطّيّبة، والقلوب الطّيّبة لا تُنْبِتُ إلاّ الجنى الطّيّب.

واحتشد جمعٌ كثيرٌ، وأقبل النّاسُ إلى السّيّد المسيح من كُلّ مدينة، فكلّمهم بمثل، قال:"خرج الزّارع ليزرع زَرْعَهُ. وبينما هو يَزْرع وَقَعَ بَعْضُ الحَبِّ على جانب الطّريق، فداسَتْه الأقدام، وأكلته طيورُ السّماء؛ ومنه ما وقعَ على الصّخر، فما نَبَتَ حتّى يَبِس، لأنّه لم يجد رطوبة؛ ومنه ما وقع بين الشّوك، فنبتَ الشّوك معه فخنَقَه؛ ومنه ما وقع على الأرض الطّيّبة، فَنَبَتَ وأثمر مئة ضِعف". قال هذا وصاح:"أَلا مَنْ كانَ لهُ أذنان تسمعان فَلْيَسْمَع"(16).


الهوامش

(1) خالد وجدي خان، أجمل الاقتباسات من أعظم المفكّرين،  ar-ar.facebook.com.

(2) أحمد المهندس، تكلّم لكي أراك. جريدة الرّياض 19/7/2013. .www.alriyadh.com

(3) أنطوان طعمة، اللّغة ثروة فكيف نساعد الطّفل على اكتسابها؟ مقابلة من إعداد كارلا حدّاد وماري حصري. مجلّة الجيش، العدد 277، تمّوز 2008، www.lebarmy.gov.lb.

(4) علي أحمد مدكور، كيف تنمّي مهارة طفلك اللّغويّة؟ القاهرة- سفير. ط 1993، ص 9، 10.

  (5) يُراجع نعمت أحمد، درّب نفسك على حسن الاستماع والإنصات. منتديات المهندس كوم. www.eng2all.net

(6) مفيد قهوجي وآخرون، دليل التّقييم- اللّغة العربيّة. المركز التّربويّ للبحوث والإنماء. ط2000، ص 241.

(7) ابن خلدون: المقدّمة. بيروت. دار الكتاب اللّبنانيّ. ط1961، ص 1080.

(8) كامل محمّد عويضة، سيكولوجيّة العقل البشريّ. بيروت- دار الكتب العلميّة. ط1، 1996، ص18.

(9) مدحت خليل محمّد، علم الغدد الصّمّاء. العين/ الإمارات العربيّة المتحدّة- دار الكتاب الجامعيّ. ط2، 2002، ص84.

 (10) Jean - Jacques Rousseau، Essai sur l'origine des langues. Paris- Bibliothèque du graphe. 1970. P.500.

(11) سعادة خليل، علاقة الدّماغ باللّغة والتّعلّم. دار ناشري للنّشر الإلكترونيّ. www.nashiri.net

(12) المرجع السّابق نفسه.

(13) القرآن الكريم، سورة العلق، من الآية (1).

(14) المركز التّربويّ للبحوث والإنماء. مناهج التّعليم العامّ وأهدافها. وزارة التّربية- لبنان. 1997، ص 41.

(15) روحي بعلبكي، موسوعة روائع الحكمة والأقوال الخالدة. بيروت- دار العلم للملايين. ط1، 1997، ص 384.

(16) الإنجيل المقدّس، مثل الزّارع.