في سبيل حلّ بعض الصّعوبات الّتي تواجه معلّم اللّغة العربيّة
جاء على لسان "غوتّه": أنّ اللّغة تصنع النّاس أكثر ممّا يصنع الناس اللّغة.
من دلالات هذا القول، تأكيد القدرة اللّغويّة الفاعلة وطاقاتها الخلاّقة في التّعبير عن حقيقة وجود الكائن الإنسانيّ، على اختلاف مستويات هذا الوجود. فكيف يمكن للّغة أن تصنع الإنسان؟
نحن نفهم أنّ اللّغة تولد على ألسنة النّاس، وعلى أقلام النّخبة بينهم. فما معنى أن تقوم اللّغة بمهمّة صنع الانسان؟ كيف تقوم اللّغة بتكوين الإنسان؟ أيّ بإعادة ولادته.
هنا نبادر إلى القول بأهمّيّة ولادة الإنسان مرّتين: الأولى ولادة جسديّة، والثّانية لغويّة. وكما أنّ أسارير الوجه ومعالمه لا تتكرّر مرّتين بين ملايين البشر، كذلك فإنّ أشكال اللّغة ومزاياها وخصائصها لا تتكرّر مرّتين. فلكلّ إنسان وجهُه وبصمتُه ولغته. ولكلّ فردٍ خصائصه وخصوصيّاتُه اللّغويّة.
ولا يغرب عن بالنا أنّ لكلّ لغة منظومةً من الاختبارات الحضاريّة مرتبطة ارتباطًا عضويًّا بنتاج هذه اللّغة، أو تلك، في الفنون والآداب والعلوم. فحين يعتبر إزرا باوند " أنّ الزمن بدأ يوم بدأتُ أهتمُّ بجمالات الوجود...يوم بدأت أرى لون الظّلال...يوم بدأتُ أصنعُ شيئًا من الضّوء والظلّ" إنّما يؤكّد على العلاقة العضويّة بين لغة الشّعر ولغة الفنّ، بين المفردة والرّيشة بين تراكيب الجُمل وتراكيب الألوان، بين فنّ الكتابة وفنّ التّشكيل. غير أنّ الكتابة حين تتّخذ لنفسها لغة ما، دون سواها، إنّما تختار عبر هذه اللّغة منطقها المعيّن الّذي تَكَوَّن بتكوُّن تقاليد تلك اللّغة وأحاسيسها وانفعالاتها وأحلامها ومشكلاتها ومدى استجابتها لأزمات أبنائها. فقد نقع هنا على قصيدتين أو روايتين حول موضوع واحد يختلفان في الأداء والتّعبير ولغة السّرد أو الحوار، أو لغة الصّورة الشّعريّة، لمجرّد أنّ كلاًّ من النّصّين المتشابهين، مستمدة من منطق اللّغة المعيّنة الّذي يختلف عن منطق اللّغة الأخرى.
فإذا ما كانت العربيّة مثلاً لغةً متحفّظةً تجاه النّزوات الإنسانيّة ووجوه التّحرّر الاجتماعي، فمن شأن الرواية المكتوبة بالعربيّة أن تراعي هذا التّحفّظ وبالتالي أن تخفّف من وطأة النّزوات ومظاهر التّحرّر المتفلّت من القيود الاجتماعيّة.
بناءً على كلّ ما تقدّم فإنّ لكلّ لغة، ولا سيّما العربيّة، خصوصيّة تتّصف بها. ومن المهم الحفاظ عليها.
ولكي يتمكّن التّلامذة من تعلّم العربيّة قراءة وكتابة وتعبيرًا، ويتفاعلون معها، لتتحوّل من مجرّد وسيلة تواصل إلى وسيلة خَلْق وإبداع، لا بدّ من ذكر بعض الأسباب والصّعوبات الّتي تنفِّر التّلميذ من اللّغة العربيّة، ولا تشجّعه على توظيف قدراته ووقته في تعلُّم هذه اللّغة.
أوّلاً: الأسباب
وضع سقف لعلامة اللّغة العربيّة
- يسألك تلميذ لماذا يمكنني أن أنال العلامة القصوى في المواد العلميّة وفي الجغرافيا والتّاريخ والتّربية المدنيّة، ولا يمكنني أن أتخطّى سقفًا معيّنًا في القراءة والإنشاء وتحليل النّصّ؟ لماذا مهما درسنا في القواعد يجد المعلّم دائمًا ما يسألنا إيّاه خارج الّذي ركّزنا عليه وتحضّرنا له؟ لماذا يختار المعلّم أصعب ما في الدّرس ليطرحه علينا؟ ونسأل أنفسنا لماذا لا نحدّد مبيّنات ومعايير ومعلومات معينة في موضوع الإنشاء مثلاً؟ وإذا استطاع التّلميذ تحقيقها وإثبات جدارته فيها ينالُ العلامة الّتي يستحق وفقًا لميزان تصحيح علميّ دقيق مهما بلغت هذه العلامة؟
لماذا يصرّ المعلّمون على تقييم إجماليّ لموضوع الإنشاء؟ والحكم بأنّه لا يمكن أن يُعطى على الإنشاء أكثر من 14 علامة مثلاً، فيصبح المعدّل سبع علامات بدل عشر بينما المعدّل المطلوب للنجاح هو 10 علامات. فهل في ذلك تشجيع للتّلميذ على بذل مزيد من الجهد لتحسين لغته وصياغته ومستواه؟ وهكذا دواليك في القراءة أو التّعبير الشّفويّ حيث العديد من المدارس تضع سقفًا للعلامة لا يمكن لأيّ تلميذ أن يتجاوزها مهما كان مجتهدًا أو موهوبًا. وهنا يرى التّلميذ إنّه لا ضرورة لبذل مزيد من الجهد طالما يمكنه بجهد أقلّ أن يبلغ العلامة ذاتها.
إنّ نظام العلامات المعتمد بشكل عام في اللّغة العربيّة لا يشجّع تلميذ هذا العصر على توظيف قدراته ووقته في تعلّم العربيّة، فقراءة عشرة كتب عربيّة قد لا تحسّن علامة الإنشاء عنده علامة واحدة، بينما حلّ عشر مسائل في الرّياضيّات قد يكسبه أربع أو خمس علامات.
- عدم أخذ المناهج الجديدة بعين الاعتبار التناسق بين المحتوى والطرائق والأنشطة من جهة، والوقت المخصّص لمادّة اللّغة العربيّة من جهة أخرى، فلا بدّ من زيادة عدد ساعات تدريس اللّغة العربيّة، خصوصًا في صفوف الحلقتين الأولى والثّانية من مرحلة التّعليم الأساسي.
- الجنوح بالمنهج الجديد بشكل عام نحو النّصوص العلميّة التّواصليّة محتوًى وأسلوبًا، وخصوصًا في مرحلة التعليم الثّانوي.وقد أفقد ذلك التّلامذة الذّوق الأدبي ومنعهم من التّعمّق في البعد الإنساني للأدب العربي، قديمه وحديثه، وضيّع عليهم فرصة عشق الأدب وحفظه. فلا نجد اليوم متخرّجًا في الصّفوف الثّانويّة، يحفظ أبياتًا شعريّة أو مقاطع نثريّة من درر التّراث العربي قديمه وحديثه.
- حين يضيع الهدف الأساسي للتقييم ويجد التلميذ نفسه يخسر العلامات بسبب القواعد والإملاء. وتراه يجهد نفسه مثلاً في إجراء بحث، فيوفّر المعلومات المطلوبة ويحاول صياغتها بكلّ ما يملك من قدرة.
وترانا أمام صياغة ضعيفة أو قواعد ناقصة لا تعطي هذا التلميذ حقّه في الجهد الّذي بذله ولا تفيده المعلومات الّتي يجمعها في تأمين علامة مقبولة أو الحصول على ثناء يستحقه. فهل تراه يهتمّ بعد بأي نشاط من أنشطة اللّغة العربيّة؟
- حين يتخطّى بعض المعلّمين في تدريس القواعد مرحلة الاكتشاف والفهم والاستيعاب لينتقلوا إلى تلقين القاعدة والمباشرة بالتطبيق والتحليل متناسين أنّ العقل البشريّ لا يمكنه أن يحلّل ويطبّق ويوظّف إن لم يكتشف ويفهم ويختبر. فغالبًا ما يلجأ بعض المعلّمين في تدريس القواعد العربيّة إلى التّلقين المباشر، متذرّعين أنّه يصعب، بل يستحيل بلوغ هذه القواعد بالاستقراء، ويشكو المعلّمون بعد ذلك من أنّ التّلميذ يغيّب القواعد، ولكنّه يعجز عن توظيفها في التّعبير. إنّ التّجارب أثبتت أنّ الاستقراء والاستنتاج والاكتشاف الذّاتيّ أمور ممكنة في تدريس القواعد العربيّة، لكنّها طبعًا تحتاج إلى الوقت وإلى طول بال المعلّم وحضوره الذّهنيّ وكفاءته اللّغويّة المعمّقة، كي يتمكّن من مرافقة التّلامذة في عمليّاتهم الذّهنيّة وتحليلاتهم واستنتاجاتهم، وإلى القدرة على اكتشاف مواطن الخطأ في عمليّات التّفكير الّتي تؤدّي إلى استنتاجات خاطئة.
- حين ننظر إلى لغتنا في ضوء التّطوّر الّذي تشهده اللّغات الأخرى، ولا سيّما الفرنسيّة والإنكليزيّة، بمنظار التّأخّر والتّقصير، ونحاول أن نلبسها النظريّات الجديدة والتطوّر اللّغويّ العام دونما النّظر إلى خصوصيّتها ومن دون العودة إلى تاريخها وما نجد فيه من بدايات صالحة لهذا التطوّر الّذي نشهده اليوم لننطلق منه ونحسّن ونطوّر، بدل أن ننسف القديم ونغرق ذواتنا والتلامذة في مصطلحات ومفاهيم جديدة، وغالبًا ما تكون غريبة عن اللّغة العربيّة فيما نحن قادرون على تطوير المصطلحات الموجودة، وتوسيع دلالاتها بدل اللّجوء إلى الترجمة والتّقليد والتّبنّي، لأنّ ذلك يسيء إلى اللّغة العربيّة وينفّر منها.
- إهمال القواعد المعياريّة تمثّلاً باللّغات الأجنبيّة، وخصوصًا الإنكليزيّة، متناسين أو جاهلين أنّ قواعد الإنكليزيّة أسهل وأقلّ تعقيدًا من قواعد اللّغة العربيّة ونظمها. إنّ تيّارًا كبيرًا بات يعمل باتّجاه التّخفيف من القواعد المعياريّة والتّركيز على القواعد الوظيفيّة. وإنّ التّجربة أثبتت أنّ لا قواعد وظيفيّة من دون قواعد معياريّة. وبات التّلامذة يهملون القواعد المعياريّة ولا يرون فائدة من درسها والتّعمّق فيها طالما أنّه لا حساب عليها ولا علامات.
- اهتمام الأهل بشكل عام بالنّاحية العلميّة ونظرتهم إلى مستقبل أولادهم من منظار سوق العمل المحلّي وحتّى سوق العمل الخارجي، ومن منظار العولمة والدّولرة، فتراهم يوجّهون أولادهم وبقوّة وإصرار نحو الموادّ العلميّة وعلوم التكنولوجيا الحديثة. وتراهم يتساهلون تجاه اللّغات عمومًا، ويهتمّون بالإنكليزيّة. وتتساوى هنا بنظري إلى حدّ ما اللّغتان الفرنسيّة والعربيّة، وإن لم يكُ ذلك ظاهرًا بعد بوضوح، كما أنّ هناك صعوبات ومشكلات أخرى نذكر منها:
أ - هجرة الأدمغة من رسالة التّعليم إلى المهن الأخرى، وتحاشي الطّلاّب الثّانويّين التّوجّه نحو التّدريس عمومًا وتدريس اللّغة العربيّة وآدابها خصوصًا؛ بسبب محدوديّة الإفادة الماديّة بالنّسبة إلى المهن الأخرى، وبسبب التفريق في بدل الساعات أحيانًا بين المواد العلميّة والمواد الأدبيّة.
ب - الشعور بالاكتفاء عند العديد من معلّمي اللّغة العربيّة فتراهم يعيدون ما يعرفون بالطريقة ذاتها وبالأسلوب ذاته وبالنّبرة ذاتها، دونما سعي إلى التّثقيف الذّاتيّ والإعداد الذّاتيّ المستمرّ، من خلال التّفتيش والاطّلاع والمطالعة ليجاروا التّطوّر الفكريّ وتطوّر أصول التّدريس وطرائقه، وتحديث استخدام الوسائل والأنشطة واستغلال الأحداث والظروف والمناسبات.
ج - الإصرار على المنحى الخطابيّ التّلقينيّ، ولا سيّما في الصّفوف المتوسّطة والثّانويّة. وذلك من خلال الشّرح وإسقاط الآراء والتّحليلات والأحكام على الطلاّب من دون أن يُترك لهم مجال مواجهة النّصّ شعرًا كان أم نثرًا أم محاولة اكتشاف عناصره وخصائصه وفقًا لمنهجيّة معيّنة. ذلك أنّ فرض النظريّات والخلاصات والعبر يمنع بناء شخصيّة حرّة قادرة على التّفكير والحُكْم وصياغة هذا الحُكْم بلغتها الخاصّة، انطلاقًا من مخزونها اللّغويّ ومستواها الفكريّ وتجربتها الحياتيّة.
د - غيرة بعضهم على اللّغة
إنّ عددًا كبيرًا من المعلّمين والمسؤولين والمنسّقين، يغارون على اللّغة الفصحى ويريدونها صافية نقية فصيحة بليغة، فلا يغضّون الطّرف عن الشائع ولا يتساهلون في تداخل العاميّة ولو جزئيًّا، حتّى إنّهم لا يرضون بلغة الإعلام والصّحافة والمجلاّت، ولا يرضون بالتّرجمة، ولا يرضون بالكلمات الدّخيلة ولو مرحليًّا في بعض الصّفوف الأولى. وهذا ما يولّد لدى التّلميذ قناعة بأنّ المعلّم يطلب إليه المستحيل، ما يجعله يتصوّر أنّ للّغة أربابها، وقلائل هم الّذين يتقنونها. وهنا لا بدّ من وضع سلّم تدرّج في التشدّد اللّغويّ من الصّفوف الأولى حتّى الصّفوف الثّانويّة وبدل أن نشير دائمًا إلى بعض الأخطاء عند التّلامذة، فلنسجّل لهم ما حقّقوه من تقدّم ولو جزئيّ، ولنقيّم أعمالهم وأنشطتهم وفقًا لمبيّنات ومعايير تراعي عصرهم وبيئتهم وتعطي المضمون والبنية حقّهما مقابل الشّكل صياغةً وقواعدَ وإملاءً.
هـ- الإصرار على تقديم الكتابيّ على الشّفويّ
إذا كانت الشّكوى من الخلط بين العاميّة والفصحى، فلأنّ التّلميذ لا يسمع الفصحى حين يتكلّم بها ويكتبها. ومعلوم أنّ الانسان في الطبيعة يتعلّم اللّغة بالأذن أوّلاً، وبالعين لاحقًا، فطفل لا يسمع لا يمكن أن يتكلّم. فالشّفويّ أهمّ من الكتابيّ، خصوصًا في الصّفوف الأولى، وما يكتسبه المرء بالسّماع قد لا يكتسبه من خلال القواعد والدروس النّظريّة. ألمْ يذهب المتنبّي إلى البادية، إلى الأعراب لتقويم لسانه، وكان بوسعه أن يقوّمه بمطالعة الكتب؟ إنّ معظم المعلّمين ما زالوا يعتبرون المجال الشّفويّ غير ذي أهمّية، وربّما مضيعة للوقت، ويركّزون على المجال الكتابيّ. في حين أنّ المناهج الجديدة والنّظريّات التّربويّة الحديثة تعطي المجال الشفويّ والوسائل السّمعيّة والسّمعيّة البصريّة أولويّة أثبتت جدواها وفائدتها، لأنّها توفّر للتلميذ الموادّ الأوّليّة للتّعبير. كما أنّ التّلميذ القادر على صياغة جملة صحيحة شفويًّا يستطيع بالتّالي أن يكتب جملة صحيحة، ولو شابتها بعض أخطاء القواعد والإملاء. وقد أجمع التّربويّون على أنّ اكتساب المهارات التّعبيريّة، كالاستخدام الصّحيح لأزمنة الأفعال، وأقسام الكلمة والتّسلسل السّليم للصّفات والأسماء والأفعال والظروف في الجمل، يكتسبها الطّفل من دون تعلّم مباشر، وقد ركّزت المناهج على المجال الشّفويّ، لكن قلّة من المعلّمين والمدارس احترموا هذا التّركيز وخصّصوا الوقت الكافي للتّعبير الشّفويّ المستقل.
و- قلّة من المعلّمين تتحدّث الفصحى في الصّفّ بشكل دائم، وغالبيّة تخلط في الشّرح بين العاميّة والفصحى. وقلّة قليلة تفرض على التّلامذة النّقاش باللّغة الفصحى، خصوصًا في الصّفوف المتوسّطة والثّانويّة. وكثيرون يتساهلون في أن يطرح التّلامذة أسئلتهم ويناقشونها باللّغة العاميّة أو المختلطة. وإذا كان صفّ اللّغة العربيّة لا تُفرض فيه اللّغة الفصحى على المعلّم والتّلميذ، فأين سيسمع التّلميذ الفصحى؟ وأستميح زملاءنا معلمي التّاريخ والجغرافيا والتّربية المدنيّة عذرًا، إن تمنّيت عليهم أن يشرحوا ويناقشوا باللّغة الفصحى وأن يفرضوها على التّلامذة أيضًا.
ز - إهمال الوسائل المعينة ووسائل الإيضاح، ولا سيّما السّمعيّة والسّمعيّة البصريّة منها وأعمال الفرق، وهي جميعها أساسيّة في تكوين شخصيّة التّلميذ وإثارة فضوله وتغذية مخزونه اللّغويّ.
ح - غياب الأدب المعاصر المناسب لنموّ التّلامذة ورغباتهم ما عدا قلّة من الكتب، خصوصًا بالنّسبة إلى سنوات الحلقة الثّالثة من مرحلة التّعليم الأساسي. إذ إنّ غالبيّة الكتّاب يكتبون للصّغار وللمراهقين بمنطق الكبار ولغتهم، بالإضافة إلى الكتب المترجمة الّتي تأتي لغتها دون المستوى المطلوب، وتبقى غريبة عن البيئة واللّون المحلّي، ويفضّل التّلامذة قراءتها في لغتها الأساسيّة.
ط - التراجع المستمر في مستوى حاملي الإجازات التّعليميّة من الجامعات ومن المعاهد الفنّيّة لجهة القواعد والكتابة وأصول التّدريس. إنّ مستوى العديد من حاملي الإجازات في اللّغة العربيّة وآدابها ليس كما نشتهي وتشتهي جامعاتهم ومعاهدهم.
إنّ هذه الصّعوبات الّتي تبدو في ظواهرها بسيطة، لكنّها أساسيّة ونستطيع إذا عالجناها أن نحسّن من مستوى تلامذتنا قبل أن نحلّ مشكلة اللّغة والتّكنولوجيا ومشكلة عدم وجود مجامع لغويّة دوريّة، ومشكلة تطوّر اللّغة العربيّة ومدى لحاقها بتطوّر اللّغات في العالم، وما إلى هنالك من الصّعوبات والإشكاليّات الّتي نأمل أن تحلّ ليصبح تعليم العربيّة وتعلُّمها مبسّطًا مرنًا وميسّرًا .
9- الأسباب المفتعلة من قبل المعلّمين والمربّين
والّتي بإمكانهم معالجتها دونما حاجة إلى انتظار مجمع لغويّ أو ثورة لغويّة. وتتجسّد هذه الأسباب في العوائق والموانع الّتي غالبًا ما يخلقها هؤلاء من باب لزوم ما لا يلزم أو من باب الغيرة والحبّ أو من باب إهمال الإعداد المستمرّ وعدم الانفتاح على الطّرائق التّربويّة الحديثة. عدا أنّهم في غالب الأحيان يهتمّون بمعالجة ظواهر المرض بمسكّنات، بدل التفتيش عن أسبابه الحقيقيّة ووصف الدواء الشّافي له:
- يعالجون مثلاً عجز الطّفل عن التّحكّم بعضلاته الصّغيرة بأن يجبروه على كتابة الحرف أو الكلمة مرّات عدّة.
- يعالجون مشكلة عدم فهم القواعد بالإصرار على حفظها غيبًا والتّشديد على الغريب منها والصّعب المعقّد.
- يعالجون صعوبات تعدّد أشكال الحرف العربيّ بالإصرار على تلقينه بالقوّة؛ مهما كلّف الأمر وفي سنٍّ مبكرة. ويعطون التّلميذ نماذج للنّسخ تارة من دفتره التّابع للكتاب، وتارةً أخرى من دفتر خطّ خاصّ، وتارة أخرى بخطّ المعلّمة، فيضيع التّلميذ بين الخطوط الثّلاثة الّتي لا يمكن أن تكون ذاتها.
- يعالجون الضّعف في التّعبير بالطّلب إلى التّلميذ أن يحفظ مواضيع إنشائيّة جاهزة... إلخ
- حين يتجاوز المعلّمون في أهدافهم التّعلّميّة مستوى التلميذ الذّهنيّ واللّغويّ والسّيكو-حركيّ.
- حين يتجاوزون محتوى المنهج المقرّر لكلّ سنة من سنوات التّعلّم.
- حين يخلطون بين أهداف الدرس الخاصّة وأهداف أخرى غير مكتسبة، فيضيع تركيز التلامذة على أهداف الدرس ويعجزون عن فهم غايته واستيعاب مفاهيمه.
- حين يفتّشون عن كلّ غريب ومعقّد ليكون جزءًا كبيرًا نسبيًّا من الاختبار والامتحان، معتمدين وضع التلامذة أمام صعوبات غير مكتسبة كلّيًّا وغالبيّتهم غير مؤهّلين لمواجهتها رغم متابعتهم الدّروس وقيامهم بالواجبات. وهذا ما يولّد الإحباط عند التلامذة فيشعرون أنّ الدّرس والعمل لا يجديان نفعًا طالما أنّ مواضيع الامتحان أو الاختبار لا ترتكز على ما درسوا وفهموا وطبّقوا...
- حين يعتمدون على التّجريد في الشّرح، فيما التلامذة في سنواتهم الأولى يحتاجون إلى المحسوس طريقًا إلى التّجريد.
- حين يصرّون على العمل وفقًا لمستوى معيّن، على الرّغم من أنّ غالبيّة التلامذة في الصّفّ هم دون هذا المستوى.
- حين يحاسبون التلميذ على أخطاء لم يدرسها بعد. ويملأ الأحمر توسيع الإنشاء من دون التفريق بين الأخطاء الّتي يجب أن يكون هو المسؤول عنها لأنّها يجب أن تكون مكتسبة، والأخطاء الّتي لا يمكن أن يكون هو المسؤول عنها لأنّه لم يدرسها بعد في درس خاص.
ثانيًا: الصّعوبات
وهي صعوبات معروفة، وخاصّة بنظام اللّغة العربيّة وخصوصيّتها كتعدّد أشكال الحروف والحركات وصعوبات الصّرف والنّحو... والصّراع التّاريخيّ بين الفصحى والعاميّة والصّعوبات النّاتجة من تحدّيات العصر والتّكنولوجيا الحديثة بمختلف وجوهها. إضافة إلى غياب مجامع لغويّة موحّدة... إلخ.
1- بين العامّيّة والفصحى
إنّ المخزون اللّغويّ للطّفل الّذي يدخل المدرسة في صفّ الحضانة أو الرّوضة الأولى هو مخزون عاميّ مئة في المئة، مع ما يخالط العاميّة من لهجات محلّيّة ولغات أجنبيّة أحيانًا. وإذا لم يعالج هذا الأمر في خلال سنوات الحضانة والرّوضة، فإنّه سينعكس سلبًا على لغة المتعلّمين في سنوات التّعلّم اللاّحقة. وبالفعل فإنّ التّلميذ في الصّفوف المتوسّطة والثّانويّة يميل إلى التّعبير بالعاميّة، وغالبًا ما تكون اللّغة عائقًا أمام التّعبير عن أفكاره. لقد بات من الثّابت أنّ للّغة دورًا ما في عمليّة التفكير والمعرفة، والعلاقة بين اللّغة والفكر، علاقة عضويّة وثيقة؛ وقد ذهب بعضهم إلى حدّ اعتبار أنّ اللّغة هي العنصر الأساس للفكر. فالفكر واللّغة هما شيء واحد، وغير قابلين للانفصال. لذا، كان لا بدّ من البدء بعمليّة تآلف بين الطفل واللّغة العربيّة الفصحى المبسّطة في الصّفوف الأولى، ومنذ دخوله المدرسة. وذلك في إطار تدرّج دقيق ومدروس للانتقال من العاميّة إلى الفصحى.
2- تعدّد أشكال الحرف العربيّ مع الحركات والسّكون، ما يجعل لكلّ حرف عربيّ أربعة أشكال مختلفة، بل ستّة عشر شكلاً وصوتًا: بـَ – بـُ – بـِ – بـْ – بَ – بُ – بِ – بْ - ـبْ - ـبَ - ـبِ - ـبُ - ـبَ - ـبِ - ـبُ - ـبْ.
وعلى الرّغم من كلّ هذا يصرّ بعض المعلّمين على تعليم الحرف بأشكاله كافّة دفعة واحدة في الرّوضة الثّانية وأحيانًا في بعض المدارس في الرّوضة الأولى.
إنّ تجاوز هذه الصّعوبة يتمّ من خلال تقسيم تعلّم الحرف إلى مراحل، كأن نبدأ بشكلين من أشكاله مع الحركات ثمّ في وقت لاحق وبعد التمكّن من هذين الشّكلين ننتقل إلى الشّكلين الآخرين والسّكون، مع الاقتناع بأنّ بعض التّلامذة لن يمتلكوا هذه المهارة إلاّ بعد السّنة السّادسة من العمر.
3- كتابة الحروف كتابة صحيحة بمختلف أشكالها في صفوف الرّوضة
في هذا المجال يُطلب إلى المتعلّمين ما يفوق قدراتهم العضليّة والذّهنيّة والسّيكو_حركيّة. والعجيب البدء منذ الحضانة بـ Graphisme، بالنّسبة للّغات الأجنبيّة ومن اليسار إلى اليمين تحضيرًا للكتابة، فيما نبدأ مباشرة بكتابة الحرف العربي من اليمين إلى اليسار من دون تمارين على الخطوط والأشكال الهندسيّة المجهّزة للكتابة.
ثالثًا: الاقتراحات
أ- في الحلقة الأولى من التعليم الأساسي
إنّ من يتولّى تدريس العربيّة، يواجه عددًا من الصّعوبات الّتي تتطلّب إيجاد الحلول المناسبة لها. على أن يُعتمد لتحقيق ذلك، بشكل أساسيّ، على الآتي:
- أن تتكلّم المعلّمة الفصحى المبسّطة مع التّلامذة، ولو كانت إجاباتهم باللّغة العاميّة.
- أن تعمد المعلّمة إلى تصحيح بعض البنى العاميّة وفقًا لتدرّج يدخل في أهداف الدّروس اليوميّة.
- أن تشدّد المعلّمة على استخدام الأسماء الفصيحة، لكلّ ما يحيط بالطّفل في المدرسة والبيت، خصوصًا تلك الأسماء الّتي تقرب كثيرًا من العاميّة ويسهل على الطّفل استعمالها (طاولي – طاولة) (راس – رأس).
- أن تعمل على تحرير الطّفل تدريجيًّا من الأسماء الأجنبيّة الّتي يستعملها في حياته اليوميّة: (لوح – Tableau) (آنسة – Mlle) ( جيّد – Bravo) ( صباح الخير – Bonjour).
- أن تستخدم النّصوص والقصص المسجّلة لتتآلف آذان الأطفال وأذهانهم مع اللّغة العربيّة الفصحى، ثمّ تُجرى حوارات بسيطة حولها.
- أن تستخدم الأفلام النّاطقة باللّغة الفصحى المبسّطة ثمّ تَجري حوارات بسيطة حولها.
- أن تعرض دمًى متحرّكة وناطقة باللّغة الفصحى، وتطلب إلى الأطفال أن يحاولوا تمثيل بعض أدوارها.
- ان تعمل على إعداد تمثيليّات قصيرة باللّغة الفصحى المبسّطة.
ب- في الحلقتين الثّانية والثّالثة من التّعليم الأساسي
- اقتراح زيادة عدد الساعات الأسبوعيّة لمادّة اللّغة العربية.
- توفير الوسائل المعينة مع الكتاب المدرسي لتأمين تكافؤ الفرص بين جميع المتعلّمين.
- تدريب المعلّمين على استخدام هذه الوسائل بشكل فعّال.
- ضرورة إعادة النظر في جداول كفابات اللّغة العربية لتتناسب مع المحتوى.
- تحديد واضح ومفصّل للمصطلحات (الأنواع-الأنماط-الحقول...) لإزالة الالتباس والتباين.
- إعادة توزيع بعض الكفايات بشكل يتلاءم وقدرات المتعلّمين.
- تجنب تكرار الكفاية بين الحلقات وسنوات كلّ حلقة بدون تنام.
- تحديد مفهوم التواصل الشفهي وآليّاته وتدرّجه بحسب السنوات.
- الانطلاق من الكفايات الواردة في دليل التقييم ووضع محكّات تقييم (مبيّنات) لكلّ كفاية.
- الفصل بين المحادثة التحليليّة وتقنيّات التعبير الكتابي.
- وضع محتوى للمحادثة التّحليليّة.
- إعادة توزيع دروس القواعد بنسب متوازنة بين صفوف الحلقتين الثّانية والثّالثة.
- تحديد مفهوم القواعد الوظيفيّة بدقّة.
- عدم إلغاء أيّ درس من دروس القواعد لأنّها تُستعمل وظيفيًّا في السّنة التّاسعة ولاحقًا في التّعليم الثّانوي.
- إثبات سلّم متدرّج لأهداف التعبير الكتابي، بدءًا من توظيف المفردة في بناء الجملة، إلى التوسّع في كتابة فقرة، إلى ترابط هذه الفقرات في موضوع محدّد وفقًا لنمط معيّن.
- تخصيص كلّ سنة منهجيّة بعدد من التّقنيّات المطلوبة وتفاصيلها لتأمين تدرّج عمودي بين السّنوات والحلقات.
- التنسيق بين محتوى التعبير الكتابي ودليل التقييم.
- وضع أسس ومعايير واضحة ودقيقة لتقييم التعبير الكتابي، مفصّلة على السنوات.
- تجزئة الكفايات وتوزيعها على السنوات.
ج- في المرحلة الثّانويّة
- رصد حصّة لتدريس القواعد والبلاغة والعَروض في المرحلة الثّانويّة.
- جعل القواعد والبلاغة والعَروض في خدمة دراسة النّصوص.
- في الثقافة الأدبيّة العالميّة، استبدال رائعة جديدة، كلّ ثلاث سنوات بالرّائعة المحدّدة في المنهج.
- اختيار رواية عربيّة ذات أبعاد إنسانيّة.
- ترجيح النّصوص الإبداعيّة على النصوص الإبلاغيّة.
- زيادة نصوص أدبيّة مشوّقة.
- زيادة نصوص تعالج قضايا وطنيّة معاصرة.
- زيادة نصوص مسرحيّة شعريّة.
- زيادة محور في "الوجدانيّات".
- إعداد نصوص مسموعة مسجّلة أو مصوّرة.
- توجيه التّلامذة إلى الكتابة الإبداعيّة في الفروع العلميّة، وعدم حصرها بالكتابة الإبلاغيّة فقط.
د- في التدريب
- تدريب المعلّمين والمعلّمات على استخدام الطّرائق الناشطة.
- توفير المكان والوقت والظّروف (عدد التّلامذة – مركز التوثيق – المكتبة – الوسائل المعينة...).
- تدريب المعلّمين على الطرائق والمداخل المختلفة للتدريس، بحيث يتمكّنون من توظيفها بحسب مقتضيات التعلّم المختلفة لتلامذتهم.
- ويجب على المعلّم أن يتمتّع بقدر من المهارات التدريسيّة اللازمة لتمكينه من القيام بمهام عمله، ويشمل ذلك مهارات تخطيط التدريس وتنفيذه، فضلاً عن مهارات إدارة الصفّ والتعلّم الصفّي. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أهميّة تدريب المعلّم على توظيف معارفه المختلفة في التّدريس الفصليّ.
المصادر والمراجع
- المرسوم رقم 10227 تاريخ 8/5/1997، (مناهج التّعليم العام وأهدافها).
- التّعاميم الصّادرة عن وزير التّربية، الّتي تحمل الأرقام:29/م/97، 31/م/98، 5/م/99.
- كتب اللّغة العربيّة، سلسلة الكتاب المدرسيّ الوطنيّ.
- اللّغة العربيّة... إلى أين، مشكلة تعلّم أم مشكلة إيصال؟ حلقة دراسيّة، جامعة سيّدة اللّويزة، 15 آذار 2003.
- دياب، كوكب: الاتّجاهات الحديثة في تعليم مهارات اللّغة العربيّة YGKPRESS، طرابلس، 2012.