تعلُّم العربية في المرحلة الابتدائية
تعلُّم العربية في المرحلة الابتدائية
ملاحظات على ثلاث مسائل
1- في غرض النصّ
1-1– تتجاوز ساعات تعلّم العربية "المعيارية" في المراحل ما قبل الجامعة الألف ساعة. ويضاف إلى هذا العدد رافدان عامّان؛ أُولهما، مجموع ساعات المواد المقرّرة في المنهج (في المؤسسات التي تعتمد العربية في تعليم الجغرافيا والتاريخ والتربية والحساب والعلوم)، وثانيهما، ما يتوافر من مناخ لغوي، تداولي من خلال الوسط الاجتماعي.
1– 2– لكنَّ "مُخْرَجات" تلك "المُدْخَلات" لم تكن في المستوى المأمول منه؛ فَمَلَكة المتعلّم اللّغوية بَدَت، في نهاية المرحلة الثانوية، ضعيفة من حيث المعجم اللّغوي والأداء وتركيب الجملة، والقدرة على التعبير بشكليه الشفهي والكتابي، ما حدا بالمعنيين بشأن التربية اللّغوية إلى مراجعة نقدية لفلسفة المنهج، عمومًا،
ولا سيّما مسألة الجدوى.
1– 3– وكانت معظم الدراسات، بهذا الخصوص، قد ركّزت على معالجة ثلاث مسائل، معتبرةً إيّاها مسائل خلافية، وهي: (1) مفهوم "اللّغة الأمّ" في مناهج التعليم الابتدائي؛ (2) مَواطن الخَلَل في بنية التربية اللّغوية، المعتمدة في المنهج؛ (3) مَواطن الخَلَل في طرائق التعليم والتقييم.
1– 4– وأيًّا كانت توجُّهات الباحثين، في هذه المسائل، فإن محور ما خَلُصَ إليه التربويون، تَمثَّل في اعتبار تعلّم اللّغة في المرحلة الابتدائية، عملاً تأسيسيًّا، وهو حجر الزاوية في السيطرة على "اللّغة الأم"، وهو أساس التحصيل في المواد الدراسية المختلفة (= التي تدرّس بالعربية)، وبالتالي فإن تحديد الأهداف العامة لتدريس اللّغة العربية التي تتصدّر العمل في المناهج، لا يمكن الشروع به، قبل جلاء فلسفة تعلّم العربية، وبيان الموقف الوطني من "شرعيّة" اللّغة العربية الأم، وفي خلاف هذا يُمسي الشروع في وضع المناهج، والاستغراق في مفرداتها وتفاصيلها استباقًا لمنطق الأمور والأحوال، وهو تسرّع يؤدي إلى فشل في مراحل تنفيذية.
2 – في نقاش المسائل الثلاث، الخلافية
2– 1– حول مفهوم "اللّغة الأمّ": لا يشكّل النصّ في الدستور اللبناني، القاضي باعتبار اللّغة العربية هي اللّغة الرسمية في الدولة، أمرًا كافيًا لتجاوز النقاش في هذه المسألة. فالمنهج، في المرحلة الابتدائية، يساوي بين العربية والأجنبية (الإنكليزية أو الفرنسية...) ففي استطلاع للرأي، بدا أن اللّغتين العربية والأجنبية هما لغة الإعداد الأوّلي، ثم تصبح اللّغتان العربية والأجنبية، في ما بعد، لُغَتَيْ تدريس بنسب متفاوتة، وقد أيّد هذا الواقع 58,3%(12-2- يضاف إلى ذلك تعليم مواد في المنهج باللّغة الأجنبية، وكان حقها أن تدرّس بالعربية. وفي المحصّلة يبقى للعربية ما بين 5 إلى 7 حصص أسبوعيًا، ما ينزع عنها مفهوم اللّغة الرسمية، بخلاف ما نصّ عليه الدستور اللبناني.
هذا الواقع، يكون مقرونًا، في حصص العربية ذاتها، باعتماد العامية والفصيحة في التدريس والتحصيل، وهو ما يتكرّس، أيضًا، في المهارات اللّغوية، ولا سيّما الأداء والتلقين والحوار.
وجاء في استطلاع الرأي، نفسه، أن 57% من المعلّمين، أجابوا أنهم يلمسون صعوبة لدى المتعلّمين في استخدام الفصحى، ورأى 57% منهم أن المتعلّمين يجدون صعوبة في التعبير الشفهي، ويلمس 43% من المعلّمين لدى طلابهم استسهال التعبير الشفهي بالعامية(2).
2– 3– ثم، إن ما يدعّم واقع تقديم اللّغة الأجنبية على العربية وجود "رأي عام" يزعم أن تعلّم الأجنبية، عمومًا، وفي سنٍّ مبكّرة، خصوصًا، يجعل المتعلّم أكثر ثقافةً من سواه ممّن لم يُتَح له ذلك، وأن اكتسابها في الصغر (قبل السادسة) يجعل الطفل أكثر تفوّقًا في المراحل اللّاحقة.
ثم رُجِّحَتْ مسألة تغليب الأجنبية على العربية، إذ اشترطت مؤسسات كثيرة، وطنية وأجنبية، إجادة الإنكليزية (أو الفرنسية) في قبول المرشّح للوظيفة، ويفضّل من تخرّج في جامعات تعتمد في مناهجها التدريس باللّغة الأجنبية.
هذا "المناخ اللّغوي" أخذ تدريجيًّا ينسحب على تقاليد الحياة الاجتماعية، حتى غدت عبارة "اللّغة العربية هي اللّغة الرسمية" مجرد نصٍّ مكتوب، بلا مفاعيل ملزمة. وفي استطلاع الرأي، أفاد ما نسبته 66% من المُسْتَطْلَع رأيهم أنهم لا يرون تطابق استخدام العربية في الحياة اليومية بما جاء في حرفية النصّ الدستوري، ورأى 70% أن العربية متداولة نسبيًّا في الوسط الاجتماعي مع لغة أجنبية أخرى(3)، وهذا معدل مرتفع يشير إلى فقدان العربية سيادة السيطرة في التداول.
2-4- في الجانب البحثي، وارتكازًا على استبيانات رأي، نلاحظ جملة نتائج توجّه النقاش في مسألة "اللّغة الأمّ"، أولها، أن الدراسات لم تنجح في تقديم أدلّة كافية على فعالية تعليم الأجنبية في سِنٍّ مبكّرة، وبالتالي لا صحة في القول إن الطفل الذي يُلقَّن الأجنبية مبكّرًا سيكون أكثر تفوّقًا في المراحل اللاحقة؛ فقد سجلت بعض الدراسات أن متعلّمي الأجنبية، الأكبر سنًا هم أكثر كفاءة من الصغار في السّنّ، وأن دراسة اللّغة الأجنبية بعد التمكّن من اللّغة الأمّ، أي بدءًا من الصف الأول المتوسط، قدّمت نتائج ملموسة؛ وثانيها، أن الدراسات لم تثبت بشكل مقنع أن عامل السّنّ المبكّرة في تعلّم الأجنبية هو سبب النجاح، وخلافه هو سبب الضعف في المراحل اللاحقة، فالمنطق التربوي لا يقوم على أحادية العامل، بل يرصد مجموعة عوامل تتضافر في توفير فرص النجاح، منها ما يتعلق بالاستعداد العقلي والنفسي لدى المتعلّم، ومنها ما يوفّره المناخ العائلي، وما يتعلق بسلاسة التواصل مع الآخرين، إضافة إلى ما تقدّمه المدرسة من طرائق ناجحة في التدريس، وما تتوسّله في مستجدّات التقنيّات التعليمية، وسواها(4).
ما يمكن الإشارة إليه، هنا، أن تعلّم الأجنبية إلى جانب اللّغة الأمّ (= العربية) لا يترك آثارًا سلبية، في حال كانت العربية ذات شأن قِيمي مرموق في المجتمع، والعكس صحيح.
3 – حول "مَواطن الخَلَل في بنية التربية اللّغوية"، التي تنشعب إلى مكوّنات ثلاثة: الأفراد، المواقع، المواد.
3-1- يتجه مكوّن الأفراد (المتعلِّم، المعلِّم، أسرة المتعلِّم، المجتمع المحلي والعام)، عندنا في لبنان، إلى قبول فلسفة التعدّدية الثقافية، والقبول بتفاوت المستويات الاجتماعية، الأمر الذي أفرز بُنىً تربوية لغوية، لا تتجانس إلا بالشكل المتمثّل في بعض الخطوط العريضة (= عدد سنوات المرحلة الابتدائية، مواد المنهج وليس مفرداته). وتبقى الركيزة في هذا المكوّن، وهي المعلِّم/ة، غير متخصّصة، في الغالب. نشير في هذا السياق إلى ما أفاد به المُسْتَطْلَع رأيهم في المجامع اللّغوية ومراكز البحث الأكاديمي، فـ 74% منهم أرجعوا سبب ضعف المتعلّمين بالعربية إلى تراجع مستوى معظم معلّمي العربية(5).
3-2- ثم يبتعد مكوّن الموقِع(6)، في الكثير من مؤسَّساتنا التربوية، عن التجانس المطلوب بين طابعه الحقيقي (مختبر لغوي، مكتبة متخصصة بالمرحلة الابتدائية، تقنيات خاصة بهذا الموقع) وطابعه الافتراضي (تواصل المتعلِّم بالإنترنت، والهاتف الذكي، والكمبيوتر...). وقد تتداخل أحوال تعامل المتعلّم مع هذين الطابعين، في حال توافرهما، ولا سيَّما الطابع الافتراضي، الذي يبقى خارج الضبط والرعاية، في كثير من الأحيان، ما يؤدي إلى مسارات ذاتية مربكة تشتِّت ذهن المتعلِّم، وتنمّي فيه سلوك الإدمان على ما تهواه الغريزة.
3-3- أمّا مكوّن الموادّ فالتوافق السائد يقرّ باعتماد الكتاب منذ السنة الأولى، ويقرّ بتدريس "القواعد" بدءًا من السنة الثالثة، إضافة إلى كتاب القراءة، وآخر للخط...، وهو توزيع يشتّت البنية اللّغوية الواحدة، ويبعثر لُحْمَة التربية اللّغوية (اللّغة والأدب والثقافة).
4- حول "مَواطن الخَلَل في طرائق التعليم والتقييم"
4-1- مبتدأ الأمر هنا هو التوفيق بين أهمية أن يتعلَّم الطفل لكي يقرأ، وأهمية أن يقرأ لكي يتعلَّم. والمدخل إلى التوفيق بين هاتين المسألتين يتمثّل في إحياء أسلوب "السَّماع"(7) الذي يشتمل على مجال الأداء السليم الصادر عن المعلِّم/ة، أو توافر مكوّنات المُرْسِل، من حيث التخصّص اللُّغوي، والزاد الثقافي، والبراعة في التلقين. هذا من جهة، ويقابل ذلك مجال المتلقِّي، أو المُرْسَل إليه (= المتعلِّم) الذي يكتسب اللّغة عن طريق "الاستماع"، شريطة تحقيق مستلزمات المجالَين، أو المهارتين؛ فالاستماع وفق ذا يمثّل بداية اكتساب اللّغة، سواء أكانت اللّغة الأمّ أم اللّغة الثانية. وانطلاقًا من هذا يكون تعليم اللّغة الوطنية منطلقًا من الاستماع إليها، وهو ما يتطلّب وجود وسائل سمعية مناسبة بلغة سليمة تجعل العربية المنطوقة والمسموعة مألوفة عند المتعلّم على نحو طبيعي.
4-2- والشرط الأساسي في نجاح أسلوب "السّماع" هو توافر ثلاثة أمور: الأول، معلِّم/ة مؤهّل لهذه الغاية، حائز على شهادة تخصّص في اللّغة العربية، مع دبلوم خاص بطرائق التدريس، وخبرة تطبيقية في إجادة النطق، بسلاسة، بالعربية الفصيحة الميسّرة. الأمر الثاني، جَعْلُ هذا المطلب ساريًا، من حيث إجادة العربية الفصيحة على قبول معلّمي مواد المرحلة الابتدائية (التاريخ، الجغرافيا، العلوم، الحساب، التربية...)، كي تصبح اللّغة العربية مادة تعلّم في منحىً أفقيّ، وليست عموديةً، أو قصرًا على ساعات مادة اللّغة العربية؛ الأمر الثالث، استثمار "السّماع" في "المحاكاة"، أو الجانب التطبيقي، الذي يكون في التكلّم والكتابة عند المتعلِّم.
4-3- أما التقييم في المرحلة الابتدائية فجهد موصول، في السنوات كلّها، وهو عمل فريقي ومنهجي (معلّم/ة المادة، معلِّمو المواد في السنة الواحدة، لجنة التوجيه التربوي في المدرسة)، إضافة إلى اعتماد الأصول العلمية في التقييم، ولا سيّما احتساب عدد الرموز وترجمتها إلى أرقام، كي يتحدّد مستوى النجاح أو الإخفاق في تحقّق المهارات والكفايات اللّغوية عمومًا.
ما يسجّل من نقد في التقييم، في شقّه التطبيقي، أنه، غالبًا، ما يُخْتَزَل في "مسابقة" أسبوعية أو شهرية، أو امتحانات (في منتصف العام الدراسي، أو في نهايته)، وهذا شكل تقييمي يعتمد "العلامة"، فقط، معيارًا في إطلاق الحكم التربوي، لكنه يغفل في الوقت نفسه، قياس القدرات والمهارات، ما يحرم هيئة التقييم فرصة التعرّف إلى الفوارق، ورصد الحالات التي تحتاج إلى عناية إضافية، وبالتالي عدم القدرة على وضع الخطط والبرامج الكفيلة بارتقاء مستويات المتعلِّمين، لجهة المعرفة والمهارة.
***
في خاتمة هذا المقال الوجيز، نقول: ألا يستحق تعليم اللّغة العربية، في المرحلة الابتدائية، فتح باب النقاش المسؤول للبحث في مختلف المسائل الخلافية التي تعرقل نمو التعلّم في سنوات التأسيس، وذلك من خلال ندوة متخصّصة، يتداول فيها المعنيون من ذوي الخبرة والاختصاص، مجموعة محاور ذات صلة، ويجهدون، من ثمّ، في وضع خارطة طريق جديدة تُقيل تعليم اللّغة العربية في المرحلة الابتدائية، من عثاره؟!
المراجع:
- راجع استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة الفكر العربي (بيروت) في العام 2012، ضمن كتاب: لننهض بلغتنا – مشروع لاستشراف مستقبل اللّغة العربية، ص 45.
- المرجع نفسه، ص 100-101.
- المرجع نفسه، ص 31 – 32.
- راجع في هذا الصدد: د. ريما سعد الجرف: هل نعلِّم اللّغة الإنجليزية للأطفال قبل سن السادسة؟ ضمن: اللقاء السنوي الثاني عشر للجمعية السعودية للعلوم التربوية والنفسية، بعنوان: "الطفولة المبكرة: خصائصها واحتياجاتها: 4-6 تشرين الأول/أكتوبر 2004.
- لننهض بلغتنا، ص 100 مؤسّسة الفكر العربي – بيروت 2012. رياض قاسم وآخرون.
- مصطلح لغوي، يعني كل أداة تواصل إجتماعي.
- مصطلح لغوي، كان قديماً يشمل السّماع والاستماع وما يتطلبان من تقنيات. وحديثاً ساد استعمال مصطلح "الاستماع". وكان "السّماع" يقترن بـ "المشافهة"، وكانوا يميّزون، من حيث تقنيات السّماع بين السّماع السلبي، وفيه يُكتفى بالسّماع لما يقوله المعلّم؛ والسّماع النشيط، وفيه يتدخل المعلّم وينشط فيه، فلا يكتفي بالسّماع والتسجيل بل يُعنى بإلقاء الأسئلة على المتعلّمين، ويكون ذلك على شكل حوار.