ميخائيل نعيمة: الإبداع الفكريّ والأدبيّ من لبنان إلى العالَم

ميخائيل نعيمة:  الإبداع الفكريّ والأدبيّ

من لبنان إلى العالَم                       

                        

لا شكّ في أن نهضة الشعوب وتقدّمها، والتطوّر الذي شَهدته المجتمعات والدول، قد صَنعَه أبناؤها المُبدِعون، من أدباء ومفكّرين وفلاسفة وعلماء.

والكلّ يُجمع على أن فلاسفة القرن الثامن عشر، عصر التنوير في فرنسا، أمثال جان جاك روسو وڤولتير قد بعثوا روحًا جديدة من خلال مؤلّفاتهم الأدبيّة والفلسفيّة والفكريّة التي كان لها الأثر الكبير في التغيير والتجديد على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والإداري. فللمفكّرين والأدباء قوّة هائلة عظيمة وطاقاتٌ خلاّقة تدفع الشعوب إلى إعادة النظر في القضايا التي تتعلّق بحياة الناس وسعادتهم أو شقائهم، بفقرهم أو غناهم، بحرّيتهم أو عبوديتهم باستقلالهم أو استغلالهم.

وقد عرف لبنان أدباء ومفكِّرين مُبدِعين، عمِلوا في سبيل الإصلاح اللّغويّ والنهضة الأدبيّة والفكريّة والاجتماعيّة. ومن أهم هؤلاء المبدِعين أديبُنا الكبير ميخائيل نعيمة.

يقول نعيمة في مذكّراته في كتاب " سَبعون " وتحديدًا في  " باب الكتاب " : "فأُعطي الناس من حياتي على  قدر نصيبِهم من حياتي – أو ما أظنّهُ نصيبهم.  أعطيهم من زادِ قلبي وفِكري إذا ما خُيّل إليّ أنّ فيه زادًا  صالحًا لقلوبهم وأفكارِهم".

ويذكِّر ميخائيل نعيمة بتاريخ مهم بالنسبة إلى النهضة الفكريّة والأدبيّة في لبنان والعالم العربي، ألا وهو تاريخ ولادة الرابطة القلميّة في نيويورك في العشرين من نيسان سنة 1920. إنّه حقّاً لتاريخٌ مباركٌ بالنسبة للأدب واللّغُة والفكر في لبنان وفي دنيا العرب. ويؤكّد نعيمة: " ليس كلّ ما سُطّرٍ بمِدادٍ على قرطاس أدبًا. ولا كلّ من حرَّر مقالاً أو نظَم قصيدةً موزونةً بالأديب . فالأدب الذي نعتبره هو الذي يستمدّ غذاءه من تربة الحياة ونورها وهوائها ... والأديب الذي نكرّمه هو الاديب الذي خُصَّ برقّة الحسّ، ودقّة الفكر، وبُعد النظر في تموُّجات الحياة وتقلّبُاتها، وبمقدرة البيان عمّا تُحدِثُه الحياة في نفسه من التأثير ... "

هذا بعض ما جاء في دستور الرابطة الذي وضعه ميخائيل نعيمة. وصِفات الأديب الناجح هذه، قد تحَلّى بها نعيمة.  إنّه من كبار مفكِّرينا الذين أسهموا في دفع النهضة العربيّة نحو التوفيق بين ثلاثيّة العقل والروح والمادة.

وقد استطاع نعيمة الاندماج في المجتمعات التي عاش فيها وبخاصة في روسيا . فقرأ نتاجها الفكريّ والادبيّ وتعلّم لغات تلك المجتمعات، فاتّسَع أفقُه من دون أن يَنسَلِخ عن محيطه، وظلَّ الحنين يشدّه إلى لبنان وإلى بلدته " بسكنتا " وأرض أجداده في "الشخروب"  وجبل صنّين مُلهِمه الأكبر!

فمن المشرِق إلى المغرِب، مسيرةٌ أدبيّةٌ طويلة قضاها نعيمة مُواظِبًا على الكتابة والعمل من دون انقطاع. كتب بالعربيّة والروسيّة والإنكليزيّة وترجم بعضًا من كتبه بنفسه.

وقد تخطّى بإنسانيّته وأخوّته للبشر، حدود الوطن الصغير إلى " أبعد من موسكو ومن واشنطن "  !قد تُرجِمت بعض مؤلّفاته إلى الفرنسيّة والهنديّة والألمانيّة والبرتغاليّة والإسبانيّة. إنّه كاتبٌ عالميّ،ٌ عَمِل على شدّ الأواصر ما بين الشرق والغرب وثبّتَ الحضور اللبناني في العالم: روسيا، أميركا، الهند، الصين، فلسطين... إلخ.

فَصَدَق الأستاذ شفيق المعلوف إذ قال عن أدباء المهجر: " متى رُحْن يَشقِقن البحار، تصاعدت خلفهنّ الللآلئ". وصَدَق جبران خليل جبران عندما قال: " أبناء لبناني... يولدون في الأكواخ ويموتون في قصور العِلم".

ميخائيل نعيمة، كاتبٌ مناضلٌ حمل وطنه في قلبه في خلال سفره إلى بلدان وعواصِم العالم. عَشِق الطبيعة اللبنانية، وبخاصة الصنّينّبة البسكنتاويّة الشخروبيّة، حتى الهيام!  فوصف طبيعة بلاده ورسمها بقلَمه بأدقّ تفاصيلها وأجمل ألوانها وأعذَب نغَماتها.  وبالرغم من اعترافه بفضل البلدان التي عاش فيها وتعلّمَ في مدارسها، وطالع روائع آدابها، لم يكن يحتمل الابتعاد عن لبنان وتألّم من "بشاعة الضائقة "التي كانت تعيشها بلاده فعبّرَ عن ألَمِه وحسرتِه واعدًا ومعاهدًا " الشخروب" بالعودة " للهّ، للهّ!  أين كنّا، وأين صرنا، وكيف تَشتّتنا!  أيعود الشَّملُ فيلتئِم؟ أم أنّهَ  مقضيّ علينا، كلّما شبَّ واحدٌ منا عن الطوق، أن نضرب في الارض شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا، وأن لا يبقى لنا من العشّ الذي فيه نَقَفنا ومنه دَرَجنا غير الرسم والذكرى؟ لا.لا. سنعود إلى بسكنتا. سنعود إلى صنّين والشخروب".

عاد نعيمة إلى لبنان وجعل من الشخروب واحة طمأنينة، ومحجّةَ للأدباء والشعراء يزورونه طالبين نصائحه في الأدب والفلسقة. فكان يعلّمِ ويصحّح " ويغربل " إلى أن تصبح الغلّةَ حنطة نقيةّ ليَس فيها زؤانة واحدة.

ويعتقد نعيمة أن " وجه لبنان الحقيقي إنّمَا يتمثّلَ في القرية" ويضيف مؤكِّدًا في أحد أحاديثه مع الصحافة:  " وهذه القرية باتت اليوم يتيمة أو أرملة.   وبات العمل في الأرض آخر ما يفكر فيه اللبناني!.. وها هنا النذير بالخراب وأي خراب أكبر من أن يبتعد الإنسان عن التراب الذي جُبِل منه ".

ميخائيل نعيمة فكرٌ نيّرِ،ٌ ومضيء، وباحث موسوعيّ الاطّلاع. مؤمنٌ يحترم الديانات السّماويّة كافة . وقد درس بعمق ودقّة ديانات ومذاهب وفلسفة الشرق والغرب.  فآمن باالله وبِطيبَة الإنسان وقدرته على معرفة نفسه وتخليصها  من الهلاك "الإنسان إله في القُمط ". ولكنّه، وبالرغم من اعتقاده بأن الإنسان قادِرٌ على الإصلاح من اجل بناء عالمٍ  يسوده السلام والمحبة، كان نعيمة يحذّرِ من الفساد والمفسدين والتقليد والمقلّدِين والظلم والظالمين، وينبّهِ الإنسان من اقتراب سقوطه في الهاوية: " الويل كل الويل لشعب يهدم ولا يبني ولشعب يبني ويهدم"!. وفي كتابه " البيادر" حذّر العالم من الغرور " يا ويل هذا العالم من غروره!  فهو يدّعَي المعرفة ولا يزال بعيدًا حتى عن عتَبَتِها".

دافع عن حريّة المعتقد فسأل في مقالة " المذاهب والمتمذهبون": " فما دامت غايتك من مذهبك الوصول إلى لله وغايتي من مذهبي الوصول إلى لله، فما شأنك معي أيّ طريق أسلك للوصول إلى الهدف. وما شأني معك إذا سلكت إليه طريقًا غير طريقي؟".

إن المجلّدات التسعة التي تضمّ مؤلّفَات ميخائيل نعيمة هي ثروة لنا وللعالم، لا تُقدّرَ بثمن. ففي مطالعتها غذاءٌ للعقل والقلب والروح في آن.  فبين طيّاتها يجد القارىء ارتياحًا وطمأنينة وسلام، وجوابًا عن تساؤلات ما زال يطرحها الفلاسفة والمفكِّرون والأدباء منذ أن كانت بدايات الفلسفة والفكر والأدب. فيحدّثِنا عن الفقر والغنى مناديًا: " ألا أخبروني ما هو الفقر؟ (...) أهو الفقر أن تفترش الأرض وتلتحف السماء، وأن تقاسمك العافية فراشك ولحافك؟ أم هو الفقر أن تأكل رغيفًا معجونًا بعرق جبينك ومخبوزًا بنار إيمانك بدلاً من أن تأكل رغيفين معجونَين بدم قريبك ومخبوزَين بنار بغضائِه وألمِه؟"

ويختم نداءه قائلاً: " يا ابناء بلادي!  لايبهرنّكم برقٌ يُلعلِع في عيون المدنيّةَ الغربيّةَ (...) بلادكم بلاد عمل وسلام (...) بلادكم بلاد وحي وجَمال.فليكن ما تقدّمِونه لإخوانكم الناس وحيًا وجمالاً".

ونحن نقول لأديبنا الكبير ميخائل نعيمة بأن نتاجه نتاج وَحي وجَمال ومحبّةَ!  ومن موقع مسؤوليتنا، في المركزالتربوي للبحوث والإنماء، ندعو المعلّمِين والتلامذة والطلاب إلى مطالعة مؤلّفاته ودراستها وتحليلها.

وختامًا نتوجّهَ بالشكر والتقدير إلى الكتّاب والمعلّمِين الذين شاركوا في إصدار هذا العدد الخاص من  "المجلّة  التربوية" ومنهم من له مؤلّفَات ودراسات حول فكر وأدب ميخائيل نعيمة. عسى هذا العدد يعود بالفائدة على جميع التربويين إنّهَ أمَلُنا •

ميخائيل نعيمة: الإبداع الفكريّ والأدبيّ من لبنان إلى العالَم

ميخائيل نعيمة:  الإبداع الفكريّ والأدبيّ

من لبنان إلى العالَم                       

                        

لا شكّ في أن نهضة الشعوب وتقدّمها، والتطوّر الذي شَهدته المجتمعات والدول، قد صَنعَه أبناؤها المُبدِعون، من أدباء ومفكّرين وفلاسفة وعلماء.

والكلّ يُجمع على أن فلاسفة القرن الثامن عشر، عصر التنوير في فرنسا، أمثال جان جاك روسو وڤولتير قد بعثوا روحًا جديدة من خلال مؤلّفاتهم الأدبيّة والفلسفيّة والفكريّة التي كان لها الأثر الكبير في التغيير والتجديد على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والإداري. فللمفكّرين والأدباء قوّة هائلة عظيمة وطاقاتٌ خلاّقة تدفع الشعوب إلى إعادة النظر في القضايا التي تتعلّق بحياة الناس وسعادتهم أو شقائهم، بفقرهم أو غناهم، بحرّيتهم أو عبوديتهم باستقلالهم أو استغلالهم.

وقد عرف لبنان أدباء ومفكِّرين مُبدِعين، عمِلوا في سبيل الإصلاح اللّغويّ والنهضة الأدبيّة والفكريّة والاجتماعيّة. ومن أهم هؤلاء المبدِعين أديبُنا الكبير ميخائيل نعيمة.

يقول نعيمة في مذكّراته في كتاب " سَبعون " وتحديدًا في  " باب الكتاب " : "فأُعطي الناس من حياتي على  قدر نصيبِهم من حياتي – أو ما أظنّهُ نصيبهم.  أعطيهم من زادِ قلبي وفِكري إذا ما خُيّل إليّ أنّ فيه زادًا  صالحًا لقلوبهم وأفكارِهم".

ويذكِّر ميخائيل نعيمة بتاريخ مهم بالنسبة إلى النهضة الفكريّة والأدبيّة في لبنان والعالم العربي، ألا وهو تاريخ ولادة الرابطة القلميّة في نيويورك في العشرين من نيسان سنة 1920. إنّه حقّاً لتاريخٌ مباركٌ بالنسبة للأدب واللّغُة والفكر في لبنان وفي دنيا العرب. ويؤكّد نعيمة: " ليس كلّ ما سُطّرٍ بمِدادٍ على قرطاس أدبًا. ولا كلّ من حرَّر مقالاً أو نظَم قصيدةً موزونةً بالأديب . فالأدب الذي نعتبره هو الذي يستمدّ غذاءه من تربة الحياة ونورها وهوائها ... والأديب الذي نكرّمه هو الاديب الذي خُصَّ برقّة الحسّ، ودقّة الفكر، وبُعد النظر في تموُّجات الحياة وتقلّبُاتها، وبمقدرة البيان عمّا تُحدِثُه الحياة في نفسه من التأثير ... "

هذا بعض ما جاء في دستور الرابطة الذي وضعه ميخائيل نعيمة. وصِفات الأديب الناجح هذه، قد تحَلّى بها نعيمة.  إنّه من كبار مفكِّرينا الذين أسهموا في دفع النهضة العربيّة نحو التوفيق بين ثلاثيّة العقل والروح والمادة.

وقد استطاع نعيمة الاندماج في المجتمعات التي عاش فيها وبخاصة في روسيا . فقرأ نتاجها الفكريّ والادبيّ وتعلّم لغات تلك المجتمعات، فاتّسَع أفقُه من دون أن يَنسَلِخ عن محيطه، وظلَّ الحنين يشدّه إلى لبنان وإلى بلدته " بسكنتا " وأرض أجداده في "الشخروب"  وجبل صنّين مُلهِمه الأكبر!

فمن المشرِق إلى المغرِب، مسيرةٌ أدبيّةٌ طويلة قضاها نعيمة مُواظِبًا على الكتابة والعمل من دون انقطاع. كتب بالعربيّة والروسيّة والإنكليزيّة وترجم بعضًا من كتبه بنفسه.

وقد تخطّى بإنسانيّته وأخوّته للبشر، حدود الوطن الصغير إلى " أبعد من موسكو ومن واشنطن "  !قد تُرجِمت بعض مؤلّفاته إلى الفرنسيّة والهنديّة والألمانيّة والبرتغاليّة والإسبانيّة. إنّه كاتبٌ عالميّ،ٌ عَمِل على شدّ الأواصر ما بين الشرق والغرب وثبّتَ الحضور اللبناني في العالم: روسيا، أميركا، الهند، الصين، فلسطين... إلخ.

فَصَدَق الأستاذ شفيق المعلوف إذ قال عن أدباء المهجر: " متى رُحْن يَشقِقن البحار، تصاعدت خلفهنّ الللآلئ". وصَدَق جبران خليل جبران عندما قال: " أبناء لبناني... يولدون في الأكواخ ويموتون في قصور العِلم".

ميخائيل نعيمة، كاتبٌ مناضلٌ حمل وطنه في قلبه في خلال سفره إلى بلدان وعواصِم العالم. عَشِق الطبيعة اللبنانية، وبخاصة الصنّينّبة البسكنتاويّة الشخروبيّة، حتى الهيام!  فوصف طبيعة بلاده ورسمها بقلَمه بأدقّ تفاصيلها وأجمل ألوانها وأعذَب نغَماتها.  وبالرغم من اعترافه بفضل البلدان التي عاش فيها وتعلّمَ في مدارسها، وطالع روائع آدابها، لم يكن يحتمل الابتعاد عن لبنان وتألّم من "بشاعة الضائقة "التي كانت تعيشها بلاده فعبّرَ عن ألَمِه وحسرتِه واعدًا ومعاهدًا " الشخروب" بالعودة " للهّ، للهّ!  أين كنّا، وأين صرنا، وكيف تَشتّتنا!  أيعود الشَّملُ فيلتئِم؟ أم أنّهَ  مقضيّ علينا، كلّما شبَّ واحدٌ منا عن الطوق، أن نضرب في الارض شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا، وأن لا يبقى لنا من العشّ الذي فيه نَقَفنا ومنه دَرَجنا غير الرسم والذكرى؟ لا.لا. سنعود إلى بسكنتا. سنعود إلى صنّين والشخروب".

عاد نعيمة إلى لبنان وجعل من الشخروب واحة طمأنينة، ومحجّةَ للأدباء والشعراء يزورونه طالبين نصائحه في الأدب والفلسقة. فكان يعلّمِ ويصحّح " ويغربل " إلى أن تصبح الغلّةَ حنطة نقيةّ ليَس فيها زؤانة واحدة.

ويعتقد نعيمة أن " وجه لبنان الحقيقي إنّمَا يتمثّلَ في القرية" ويضيف مؤكِّدًا في أحد أحاديثه مع الصحافة:  " وهذه القرية باتت اليوم يتيمة أو أرملة.   وبات العمل في الأرض آخر ما يفكر فيه اللبناني!.. وها هنا النذير بالخراب وأي خراب أكبر من أن يبتعد الإنسان عن التراب الذي جُبِل منه ".

ميخائيل نعيمة فكرٌ نيّرِ،ٌ ومضيء، وباحث موسوعيّ الاطّلاع. مؤمنٌ يحترم الديانات السّماويّة كافة . وقد درس بعمق ودقّة ديانات ومذاهب وفلسفة الشرق والغرب.  فآمن باالله وبِطيبَة الإنسان وقدرته على معرفة نفسه وتخليصها  من الهلاك "الإنسان إله في القُمط ". ولكنّه، وبالرغم من اعتقاده بأن الإنسان قادِرٌ على الإصلاح من اجل بناء عالمٍ  يسوده السلام والمحبة، كان نعيمة يحذّرِ من الفساد والمفسدين والتقليد والمقلّدِين والظلم والظالمين، وينبّهِ الإنسان من اقتراب سقوطه في الهاوية: " الويل كل الويل لشعب يهدم ولا يبني ولشعب يبني ويهدم"!. وفي كتابه " البيادر" حذّر العالم من الغرور " يا ويل هذا العالم من غروره!  فهو يدّعَي المعرفة ولا يزال بعيدًا حتى عن عتَبَتِها".

دافع عن حريّة المعتقد فسأل في مقالة " المذاهب والمتمذهبون": " فما دامت غايتك من مذهبك الوصول إلى لله وغايتي من مذهبي الوصول إلى لله، فما شأنك معي أيّ طريق أسلك للوصول إلى الهدف. وما شأني معك إذا سلكت إليه طريقًا غير طريقي؟".

إن المجلّدات التسعة التي تضمّ مؤلّفَات ميخائيل نعيمة هي ثروة لنا وللعالم، لا تُقدّرَ بثمن. ففي مطالعتها غذاءٌ للعقل والقلب والروح في آن.  فبين طيّاتها يجد القارىء ارتياحًا وطمأنينة وسلام، وجوابًا عن تساؤلات ما زال يطرحها الفلاسفة والمفكِّرون والأدباء منذ أن كانت بدايات الفلسفة والفكر والأدب. فيحدّثِنا عن الفقر والغنى مناديًا: " ألا أخبروني ما هو الفقر؟ (...) أهو الفقر أن تفترش الأرض وتلتحف السماء، وأن تقاسمك العافية فراشك ولحافك؟ أم هو الفقر أن تأكل رغيفًا معجونًا بعرق جبينك ومخبوزًا بنار إيمانك بدلاً من أن تأكل رغيفين معجونَين بدم قريبك ومخبوزَين بنار بغضائِه وألمِه؟"

ويختم نداءه قائلاً: " يا ابناء بلادي!  لايبهرنّكم برقٌ يُلعلِع في عيون المدنيّةَ الغربيّةَ (...) بلادكم بلاد عمل وسلام (...) بلادكم بلاد وحي وجَمال.فليكن ما تقدّمِونه لإخوانكم الناس وحيًا وجمالاً".

ونحن نقول لأديبنا الكبير ميخائل نعيمة بأن نتاجه نتاج وَحي وجَمال ومحبّةَ!  ومن موقع مسؤوليتنا، في المركزالتربوي للبحوث والإنماء، ندعو المعلّمِين والتلامذة والطلاب إلى مطالعة مؤلّفاته ودراستها وتحليلها.

وختامًا نتوجّهَ بالشكر والتقدير إلى الكتّاب والمعلّمِين الذين شاركوا في إصدار هذا العدد الخاص من  "المجلّة  التربوية" ومنهم من له مؤلّفَات ودراسات حول فكر وأدب ميخائيل نعيمة. عسى هذا العدد يعود بالفائدة على جميع التربويين إنّهَ أمَلُنا •

ميخائيل نعيمة: الإبداع الفكريّ والأدبيّ من لبنان إلى العالَم

ميخائيل نعيمة:  الإبداع الفكريّ والأدبيّ

من لبنان إلى العالَم                       

                        

لا شكّ في أن نهضة الشعوب وتقدّمها، والتطوّر الذي شَهدته المجتمعات والدول، قد صَنعَه أبناؤها المُبدِعون، من أدباء ومفكّرين وفلاسفة وعلماء.

والكلّ يُجمع على أن فلاسفة القرن الثامن عشر، عصر التنوير في فرنسا، أمثال جان جاك روسو وڤولتير قد بعثوا روحًا جديدة من خلال مؤلّفاتهم الأدبيّة والفلسفيّة والفكريّة التي كان لها الأثر الكبير في التغيير والتجديد على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والإداري. فللمفكّرين والأدباء قوّة هائلة عظيمة وطاقاتٌ خلاّقة تدفع الشعوب إلى إعادة النظر في القضايا التي تتعلّق بحياة الناس وسعادتهم أو شقائهم، بفقرهم أو غناهم، بحرّيتهم أو عبوديتهم باستقلالهم أو استغلالهم.

وقد عرف لبنان أدباء ومفكِّرين مُبدِعين، عمِلوا في سبيل الإصلاح اللّغويّ والنهضة الأدبيّة والفكريّة والاجتماعيّة. ومن أهم هؤلاء المبدِعين أديبُنا الكبير ميخائيل نعيمة.

يقول نعيمة في مذكّراته في كتاب " سَبعون " وتحديدًا في  " باب الكتاب " : "فأُعطي الناس من حياتي على  قدر نصيبِهم من حياتي – أو ما أظنّهُ نصيبهم.  أعطيهم من زادِ قلبي وفِكري إذا ما خُيّل إليّ أنّ فيه زادًا  صالحًا لقلوبهم وأفكارِهم".

ويذكِّر ميخائيل نعيمة بتاريخ مهم بالنسبة إلى النهضة الفكريّة والأدبيّة في لبنان والعالم العربي، ألا وهو تاريخ ولادة الرابطة القلميّة في نيويورك في العشرين من نيسان سنة 1920. إنّه حقّاً لتاريخٌ مباركٌ بالنسبة للأدب واللّغُة والفكر في لبنان وفي دنيا العرب. ويؤكّد نعيمة: " ليس كلّ ما سُطّرٍ بمِدادٍ على قرطاس أدبًا. ولا كلّ من حرَّر مقالاً أو نظَم قصيدةً موزونةً بالأديب . فالأدب الذي نعتبره هو الذي يستمدّ غذاءه من تربة الحياة ونورها وهوائها ... والأديب الذي نكرّمه هو الاديب الذي خُصَّ برقّة الحسّ، ودقّة الفكر، وبُعد النظر في تموُّجات الحياة وتقلّبُاتها، وبمقدرة البيان عمّا تُحدِثُه الحياة في نفسه من التأثير ... "

هذا بعض ما جاء في دستور الرابطة الذي وضعه ميخائيل نعيمة. وصِفات الأديب الناجح هذه، قد تحَلّى بها نعيمة.  إنّه من كبار مفكِّرينا الذين أسهموا في دفع النهضة العربيّة نحو التوفيق بين ثلاثيّة العقل والروح والمادة.

وقد استطاع نعيمة الاندماج في المجتمعات التي عاش فيها وبخاصة في روسيا . فقرأ نتاجها الفكريّ والادبيّ وتعلّم لغات تلك المجتمعات، فاتّسَع أفقُه من دون أن يَنسَلِخ عن محيطه، وظلَّ الحنين يشدّه إلى لبنان وإلى بلدته " بسكنتا " وأرض أجداده في "الشخروب"  وجبل صنّين مُلهِمه الأكبر!

فمن المشرِق إلى المغرِب، مسيرةٌ أدبيّةٌ طويلة قضاها نعيمة مُواظِبًا على الكتابة والعمل من دون انقطاع. كتب بالعربيّة والروسيّة والإنكليزيّة وترجم بعضًا من كتبه بنفسه.

وقد تخطّى بإنسانيّته وأخوّته للبشر، حدود الوطن الصغير إلى " أبعد من موسكو ومن واشنطن "  !قد تُرجِمت بعض مؤلّفاته إلى الفرنسيّة والهنديّة والألمانيّة والبرتغاليّة والإسبانيّة. إنّه كاتبٌ عالميّ،ٌ عَمِل على شدّ الأواصر ما بين الشرق والغرب وثبّتَ الحضور اللبناني في العالم: روسيا، أميركا، الهند، الصين، فلسطين... إلخ.

فَصَدَق الأستاذ شفيق المعلوف إذ قال عن أدباء المهجر: " متى رُحْن يَشقِقن البحار، تصاعدت خلفهنّ الللآلئ". وصَدَق جبران خليل جبران عندما قال: " أبناء لبناني... يولدون في الأكواخ ويموتون في قصور العِلم".

ميخائيل نعيمة، كاتبٌ مناضلٌ حمل وطنه في قلبه في خلال سفره إلى بلدان وعواصِم العالم. عَشِق الطبيعة اللبنانية، وبخاصة الصنّينّبة البسكنتاويّة الشخروبيّة، حتى الهيام!  فوصف طبيعة بلاده ورسمها بقلَمه بأدقّ تفاصيلها وأجمل ألوانها وأعذَب نغَماتها.  وبالرغم من اعترافه بفضل البلدان التي عاش فيها وتعلّمَ في مدارسها، وطالع روائع آدابها، لم يكن يحتمل الابتعاد عن لبنان وتألّم من "بشاعة الضائقة "التي كانت تعيشها بلاده فعبّرَ عن ألَمِه وحسرتِه واعدًا ومعاهدًا " الشخروب" بالعودة " للهّ، للهّ!  أين كنّا، وأين صرنا، وكيف تَشتّتنا!  أيعود الشَّملُ فيلتئِم؟ أم أنّهَ  مقضيّ علينا، كلّما شبَّ واحدٌ منا عن الطوق، أن نضرب في الارض شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا، وأن لا يبقى لنا من العشّ الذي فيه نَقَفنا ومنه دَرَجنا غير الرسم والذكرى؟ لا.لا. سنعود إلى بسكنتا. سنعود إلى صنّين والشخروب".

عاد نعيمة إلى لبنان وجعل من الشخروب واحة طمأنينة، ومحجّةَ للأدباء والشعراء يزورونه طالبين نصائحه في الأدب والفلسقة. فكان يعلّمِ ويصحّح " ويغربل " إلى أن تصبح الغلّةَ حنطة نقيةّ ليَس فيها زؤانة واحدة.

ويعتقد نعيمة أن " وجه لبنان الحقيقي إنّمَا يتمثّلَ في القرية" ويضيف مؤكِّدًا في أحد أحاديثه مع الصحافة:  " وهذه القرية باتت اليوم يتيمة أو أرملة.   وبات العمل في الأرض آخر ما يفكر فيه اللبناني!.. وها هنا النذير بالخراب وأي خراب أكبر من أن يبتعد الإنسان عن التراب الذي جُبِل منه ".

ميخائيل نعيمة فكرٌ نيّرِ،ٌ ومضيء، وباحث موسوعيّ الاطّلاع. مؤمنٌ يحترم الديانات السّماويّة كافة . وقد درس بعمق ودقّة ديانات ومذاهب وفلسفة الشرق والغرب.  فآمن باالله وبِطيبَة الإنسان وقدرته على معرفة نفسه وتخليصها  من الهلاك "الإنسان إله في القُمط ". ولكنّه، وبالرغم من اعتقاده بأن الإنسان قادِرٌ على الإصلاح من اجل بناء عالمٍ  يسوده السلام والمحبة، كان نعيمة يحذّرِ من الفساد والمفسدين والتقليد والمقلّدِين والظلم والظالمين، وينبّهِ الإنسان من اقتراب سقوطه في الهاوية: " الويل كل الويل لشعب يهدم ولا يبني ولشعب يبني ويهدم"!. وفي كتابه " البيادر" حذّر العالم من الغرور " يا ويل هذا العالم من غروره!  فهو يدّعَي المعرفة ولا يزال بعيدًا حتى عن عتَبَتِها".

دافع عن حريّة المعتقد فسأل في مقالة " المذاهب والمتمذهبون": " فما دامت غايتك من مذهبك الوصول إلى لله وغايتي من مذهبي الوصول إلى لله، فما شأنك معي أيّ طريق أسلك للوصول إلى الهدف. وما شأني معك إذا سلكت إليه طريقًا غير طريقي؟".

إن المجلّدات التسعة التي تضمّ مؤلّفَات ميخائيل نعيمة هي ثروة لنا وللعالم، لا تُقدّرَ بثمن. ففي مطالعتها غذاءٌ للعقل والقلب والروح في آن.  فبين طيّاتها يجد القارىء ارتياحًا وطمأنينة وسلام، وجوابًا عن تساؤلات ما زال يطرحها الفلاسفة والمفكِّرون والأدباء منذ أن كانت بدايات الفلسفة والفكر والأدب. فيحدّثِنا عن الفقر والغنى مناديًا: " ألا أخبروني ما هو الفقر؟ (...) أهو الفقر أن تفترش الأرض وتلتحف السماء، وأن تقاسمك العافية فراشك ولحافك؟ أم هو الفقر أن تأكل رغيفًا معجونًا بعرق جبينك ومخبوزًا بنار إيمانك بدلاً من أن تأكل رغيفين معجونَين بدم قريبك ومخبوزَين بنار بغضائِه وألمِه؟"

ويختم نداءه قائلاً: " يا ابناء بلادي!  لايبهرنّكم برقٌ يُلعلِع في عيون المدنيّةَ الغربيّةَ (...) بلادكم بلاد عمل وسلام (...) بلادكم بلاد وحي وجَمال.فليكن ما تقدّمِونه لإخوانكم الناس وحيًا وجمالاً".

ونحن نقول لأديبنا الكبير ميخائل نعيمة بأن نتاجه نتاج وَحي وجَمال ومحبّةَ!  ومن موقع مسؤوليتنا، في المركزالتربوي للبحوث والإنماء، ندعو المعلّمِين والتلامذة والطلاب إلى مطالعة مؤلّفاته ودراستها وتحليلها.

وختامًا نتوجّهَ بالشكر والتقدير إلى الكتّاب والمعلّمِين الذين شاركوا في إصدار هذا العدد الخاص من  "المجلّة  التربوية" ومنهم من له مؤلّفَات ودراسات حول فكر وأدب ميخائيل نعيمة. عسى هذا العدد يعود بالفائدة على جميع التربويين إنّهَ أمَلُنا •