ذاكرة المجلة - النور العجيب

العدد الثاني (1981)

جبران - النّور العجيب

تستوقفني عند جبران علامات مشتعلة، قد تكون هي أبرز ما يُنزل عليه هذا السحر وتلك الجاذبية.

أذكر بعض العلامات

وأولاها سيرته أو محيط حياته.

فقد صدف أن تمكّن جبران فجعل من ذاته ومن حواليه نورًا وضبابًا، فصار وكأنه بادٍ في الرؤيا، يتجلّى ثم يستتر، ثم يعود يتجلّى. يتداخل في الأزمنة تواكبه وجوه وأصوات. يقف على خطوط الآفاق ويشاهد ، وكثيرون وراءه لا يشاهدون.

لقد أحبّ كثيرًا واشتاق كثيرًا وقلق، ثم مات وقام، وغيره ينتظرون.

وأمستْ سيرته وكلمته توأمين

وأمسى كلّ أديب يتمنّى، لو يصدف، وتكون سيرته شبيهة بسيرة جبران.

 

علامة ثانية، وقد اختلفت حولها الآراء، فهل جبران أديب كبير، شاعر كبير،

فيلسوف؟... كلّ من يُدلي بدلوه.

قائل يقول: ليته لم يكتب "المواكب: أنها تركيب ضعيف. وآخر يسأل: وهل "الأجنحة المتكسرة" قصة تقدمت زمنها؟ كم نقرأ اليوم أجمل منها وأمتن، وأبهى صياغه، وأكثر تقنية وأبعد غورًا في الزمان؟

وثالث، وآخرون يتساءلون...

تقول: من الأفضل لنا ولجبران أنْ نُقصي عنه النعت بالكبير والضخم والعملاق. نقول فقط: انه سابق ومتفوّق.

كيف كان ذلك؟ إليكم العلامة الثالثة.

فجبران وقد اختزن ذلك النور العجيب، وساح بعيدًا في زمنه وفي ثقافة عصره، وروَّض نفسه لتمارسَ السحر، واشتعل طموحًا، وطار بجناحين قوييّن ليستشرق غرائب المشاهدة... ذلك كلّه مكّنه ليكون رائدًا في أكثر من جانب من جوانب الكلمة.

كان رائد قصيدة النثر في الأدب العربي جميعه. نشير هنا، بوجه خاص، إلى مقدمات "النبي" ونهاياته وبعض مقاطع خلاله، وإلى مختارات غير قليلة وردت في "المجنون" و "العواصف"...

وكان رائد القصة الإبداعية في الأدب العربي. فقيل "الأجنحة المتكسرة" لم نتعرّف إلى القصة الفنية المبتكرة.

نقول: اليوم تخطيناها مبروك.

وكان ثورة جامحة على اللغة العربية التي تحجّرت وتسجّعتْ وتلهّى معظمها ببلاغات ومبالغات جوفاء، وغدت مومياء، حتى جاء الساحر ونفخ في رمادها فتألقت، ولانت جذورها وسرتْ في ظلمة التراب، وامتدّت غصونها مورقة مزهرة، وكثر الفيء والضوء والأجنحة، وغدت اللغة الجديدةَ في اللغة العتيقة. وأفلتَ في أجوائها مركبة الخيال، فصهلتْ وجمحتْ، وحولها وخلفها مواكب ومهرجان تتمايل ألوانه في الفضاء.

وبعد هذا، كان جبران "النبي".

 

نعم، إنّ جبران رائد وعبقري.

تكتب اليوم شعرًا أو قصة أروع من شعره وأحدث من قصصه...

نرحّب بك لأنك ابنه أو حفيده، لكننا بعد لم نكتب أعظمّ من "نبيّه".

 

ذاكرة المجلة - النور العجيب

العدد الثاني (1981)

جبران - النّور العجيب

تستوقفني عند جبران علامات مشتعلة، قد تكون هي أبرز ما يُنزل عليه هذا السحر وتلك الجاذبية.

أذكر بعض العلامات

وأولاها سيرته أو محيط حياته.

فقد صدف أن تمكّن جبران فجعل من ذاته ومن حواليه نورًا وضبابًا، فصار وكأنه بادٍ في الرؤيا، يتجلّى ثم يستتر، ثم يعود يتجلّى. يتداخل في الأزمنة تواكبه وجوه وأصوات. يقف على خطوط الآفاق ويشاهد ، وكثيرون وراءه لا يشاهدون.

لقد أحبّ كثيرًا واشتاق كثيرًا وقلق، ثم مات وقام، وغيره ينتظرون.

وأمستْ سيرته وكلمته توأمين

وأمسى كلّ أديب يتمنّى، لو يصدف، وتكون سيرته شبيهة بسيرة جبران.

 

علامة ثانية، وقد اختلفت حولها الآراء، فهل جبران أديب كبير، شاعر كبير،

فيلسوف؟... كلّ من يُدلي بدلوه.

قائل يقول: ليته لم يكتب "المواكب: أنها تركيب ضعيف. وآخر يسأل: وهل "الأجنحة المتكسرة" قصة تقدمت زمنها؟ كم نقرأ اليوم أجمل منها وأمتن، وأبهى صياغه، وأكثر تقنية وأبعد غورًا في الزمان؟

وثالث، وآخرون يتساءلون...

تقول: من الأفضل لنا ولجبران أنْ نُقصي عنه النعت بالكبير والضخم والعملاق. نقول فقط: انه سابق ومتفوّق.

كيف كان ذلك؟ إليكم العلامة الثالثة.

فجبران وقد اختزن ذلك النور العجيب، وساح بعيدًا في زمنه وفي ثقافة عصره، وروَّض نفسه لتمارسَ السحر، واشتعل طموحًا، وطار بجناحين قوييّن ليستشرق غرائب المشاهدة... ذلك كلّه مكّنه ليكون رائدًا في أكثر من جانب من جوانب الكلمة.

كان رائد قصيدة النثر في الأدب العربي جميعه. نشير هنا، بوجه خاص، إلى مقدمات "النبي" ونهاياته وبعض مقاطع خلاله، وإلى مختارات غير قليلة وردت في "المجنون" و "العواصف"...

وكان رائد القصة الإبداعية في الأدب العربي. فقيل "الأجنحة المتكسرة" لم نتعرّف إلى القصة الفنية المبتكرة.

نقول: اليوم تخطيناها مبروك.

وكان ثورة جامحة على اللغة العربية التي تحجّرت وتسجّعتْ وتلهّى معظمها ببلاغات ومبالغات جوفاء، وغدت مومياء، حتى جاء الساحر ونفخ في رمادها فتألقت، ولانت جذورها وسرتْ في ظلمة التراب، وامتدّت غصونها مورقة مزهرة، وكثر الفيء والضوء والأجنحة، وغدت اللغة الجديدةَ في اللغة العتيقة. وأفلتَ في أجوائها مركبة الخيال، فصهلتْ وجمحتْ، وحولها وخلفها مواكب ومهرجان تتمايل ألوانه في الفضاء.

وبعد هذا، كان جبران "النبي".

 

نعم، إنّ جبران رائد وعبقري.

تكتب اليوم شعرًا أو قصة أروع من شعره وأحدث من قصصه...

نرحّب بك لأنك ابنه أو حفيده، لكننا بعد لم نكتب أعظمّ من "نبيّه".

 

ذاكرة المجلة - النور العجيب

العدد الثاني (1981)

جبران - النّور العجيب

تستوقفني عند جبران علامات مشتعلة، قد تكون هي أبرز ما يُنزل عليه هذا السحر وتلك الجاذبية.

أذكر بعض العلامات

وأولاها سيرته أو محيط حياته.

فقد صدف أن تمكّن جبران فجعل من ذاته ومن حواليه نورًا وضبابًا، فصار وكأنه بادٍ في الرؤيا، يتجلّى ثم يستتر، ثم يعود يتجلّى. يتداخل في الأزمنة تواكبه وجوه وأصوات. يقف على خطوط الآفاق ويشاهد ، وكثيرون وراءه لا يشاهدون.

لقد أحبّ كثيرًا واشتاق كثيرًا وقلق، ثم مات وقام، وغيره ينتظرون.

وأمستْ سيرته وكلمته توأمين

وأمسى كلّ أديب يتمنّى، لو يصدف، وتكون سيرته شبيهة بسيرة جبران.

 

علامة ثانية، وقد اختلفت حولها الآراء، فهل جبران أديب كبير، شاعر كبير،

فيلسوف؟... كلّ من يُدلي بدلوه.

قائل يقول: ليته لم يكتب "المواكب: أنها تركيب ضعيف. وآخر يسأل: وهل "الأجنحة المتكسرة" قصة تقدمت زمنها؟ كم نقرأ اليوم أجمل منها وأمتن، وأبهى صياغه، وأكثر تقنية وأبعد غورًا في الزمان؟

وثالث، وآخرون يتساءلون...

تقول: من الأفضل لنا ولجبران أنْ نُقصي عنه النعت بالكبير والضخم والعملاق. نقول فقط: انه سابق ومتفوّق.

كيف كان ذلك؟ إليكم العلامة الثالثة.

فجبران وقد اختزن ذلك النور العجيب، وساح بعيدًا في زمنه وفي ثقافة عصره، وروَّض نفسه لتمارسَ السحر، واشتعل طموحًا، وطار بجناحين قوييّن ليستشرق غرائب المشاهدة... ذلك كلّه مكّنه ليكون رائدًا في أكثر من جانب من جوانب الكلمة.

كان رائد قصيدة النثر في الأدب العربي جميعه. نشير هنا، بوجه خاص، إلى مقدمات "النبي" ونهاياته وبعض مقاطع خلاله، وإلى مختارات غير قليلة وردت في "المجنون" و "العواصف"...

وكان رائد القصة الإبداعية في الأدب العربي. فقيل "الأجنحة المتكسرة" لم نتعرّف إلى القصة الفنية المبتكرة.

نقول: اليوم تخطيناها مبروك.

وكان ثورة جامحة على اللغة العربية التي تحجّرت وتسجّعتْ وتلهّى معظمها ببلاغات ومبالغات جوفاء، وغدت مومياء، حتى جاء الساحر ونفخ في رمادها فتألقت، ولانت جذورها وسرتْ في ظلمة التراب، وامتدّت غصونها مورقة مزهرة، وكثر الفيء والضوء والأجنحة، وغدت اللغة الجديدةَ في اللغة العتيقة. وأفلتَ في أجوائها مركبة الخيال، فصهلتْ وجمحتْ، وحولها وخلفها مواكب ومهرجان تتمايل ألوانه في الفضاء.

وبعد هذا، كان جبران "النبي".

 

نعم، إنّ جبران رائد وعبقري.

تكتب اليوم شعرًا أو قصة أروع من شعره وأحدث من قصصه...

نرحّب بك لأنك ابنه أو حفيده، لكننا بعد لم نكتب أعظمّ من "نبيّه".