المتحف الوطني اللبناني وجه من التراث الانساني

رانية عبيد غنيم صحافية مندوبة المجلة التربويةالمتحف من الخارج
 

أمر لا يشك فيه اثنان أن آثار لبنان كانت وما تزال تشكل غنى تاريخيّاً وحضاريّاً مهمّاً أسهمت في إعطاء لبنان صفة هامة في الشرق أجمع. فعلى غرار بعلبك وعنجر وبيت الدين وجبيل ومواقع أثرية أخرى شكلت منذ القدم وحتى اليوم حلة لبنان الأثرية، نسلط الضوء على موقع يتميز بالقيمة ذاتها لا بل أكثر، إذ يعتبر حافظة التاريخ كونه يحتضن الآلاف من التحف والقطع الأثرية التي تواجدت في مختلف مناطق لبنان ساحلاً وجبلاً وصولاً إلى البقاع.
إننا نتكلم عن المتحف الوطني اللبناني في بيروت، هذا الموقع الذي يشكل ذاكرة التاريخ إذا صح التعبير، كونه يتضمن تحفاً وأثريات تغطي حقبات مختلفة بدءاً من العصر الحجري وصولاً إلى العصر المملوكي.

فور دخولك المتحف الوطني في بيروت، ينتابك شعور بالذهول والفخر، وإحساس ينتقل بين الرهبة والعظمة لرؤية التاريخ بمختلف عناصره يعود أدراجه عبر الأزمنة القديمة: أثريات تشع تحت الإضاءة تبدو وكأنها لوحات نقشت العصور عليها معالمها فأضحت تخبر عن ذاك الزمن ألف حكاية وحكاية.

يتألف المتحف من ثلاثة طوابق (سفلي، أرضي وأول) تتوزع في ما بينها القطع الأثرية بحسب العصور التي تنتمي إليها.

في الطابقين الأرضي والأول، تطالعك مقتنيات تعود إلى فترة ما قبل التاريخ، إلى العصر الحجري حيث تعرض أبرز ما استخدمه الإنسان الأول الذي عاش على شواطئ لبنان منذ أكثر من مئة ألف سنة، فصوّانيات نادرة من العصر الحجري الحديث (9000-4000 ق.م) كرأس حربة من صوّان كانت تستخدم للصيد وتترافق مع أدوات أخرى من العصر الكلكوليتي (4000-3200 ق.م.) كصنارة من النحاس والتي تعتبر من أولى الأدوات المعدنية التي استخدمها الإنسان الجبيلي لصيد الأسماك، تظهر حقائق عن طرق عيش الإنسان الأول واهتماماته.

        

والعصر البرونزي، بأقسامه الثلاثة (القديم والمتوسط والحديث)، عصر نشوء الحضارة المدينية، وظهور الكتابة، كتب عنه علماء الآثار الكثير. وقد كشفت الحفريات الأثرية أسواراً ومساكن ومعابد ومدافن لهذه المدن القديمة، حيث كان يرافقها عدد كبير من القطع ذات الطابع المدفني أو الديني سمحت بالتعرف إلى بعض جوانب حياة السكان اليومية وإلى معتقداتهم وصناعاتهم.

فالحلي وقلادة الملك إب شمو أبي مثلاً التي عثر عليها ضمن اللوازم التي دفنت معه والتي تعود للعصر البرونزي المتوسط (2000-1500 ق.م) تدل بوضوح على إتقان السكان فن صناعة الذهب والفضة، كما أن فرس البحر المصنوع من الخزف والتي تمثل القرابين تدل من جهة على إتقان صناعة الخزف ومن جهة أخرى تظهر التأثير المصري على سكان تلك المدن.

وبانت تحف العصر البرونزي  الحديث (1500-1200 ق.م) وبالأخص القطع العاجية المصنوعة من عاج فرس البحر، وأهمها علب التبرج (على شكل بط) المكتشفة في صيدا والتي أظهرت ذوقا مميّزاً وحرفية عالية لدى السكان. وتجدر الإشارة إلى أنها من النماذج القلائل المكتشفة في لبنان كون غالبية هذه القطع سلبها الملوك الأشوريين خلال غزوهم للبلاد.

أما ناووس أحيرام، ملك جبيل، فيعتبر من أهم القطع المعروضة في المتحف الوطني، إذ إنه يتميز بالنقوش والكتابات التي تغطي الجرن والغطاء مع بقايا دهان أحمر في بعض الأماكن وكونه الشاهد الأول على الأبجدية الفينيقية التي قام الفينيقيون بنشرها في الألف الأول ق.م.

لم تقتصر النماذج على المدن الساحلية بل تعدته إلى بلدة كامد اللوز البقاعية حيث تم اكتشاف تمثال الإلهة حتحور وتمثال آخر يمثل عازفاً على آلة موسيقية. وهذان النموذجان يظهران براعة الحرفيين المحليين في نحت العاج.

بلغت الحضارة الفينيقية أوجها في العصر الحديدي (1200-330ق.م)، من خلال الانتشار التجاري في محيط البحر الأبيض المتوسط ونشر الأبجدية إلى العالم بفضل قدموس الصوري. وينقسم هذا العصر إلى ثلاثة أقسام: العصر الحديدي الأول (القرن الثاني عشر - القرن العاشر ق.م) والحديدي الثاني (القرن التاسع - القرن السابع ق.م) والحديدي الثالث (القرن السادس - القرن الرابع ق.م).
وقد تنوعت الموجودات المكتشفة من ذهب وعقيق (كالقلادة والعقد الذي يزينه وجه، اللذين اكتشفا في مغارة طبلون قرب صيدا)، والفخار المستورد من اليونان وقبرص (بحسب ما دلت عليه النقوش والزخرفة التي وجدت على إناء بشكل رأس خنزير وآخر مزين بشكل بط). أما تماثيل الرخام التي اكتشفت في عين الحلوة وصيدا ومعبد اشمون (بستان الشيخ) فدلت على تأثر الفينيقيين بالحضارات الأخرى كالفارسية واليونانية وغيرها، وعلى الطقوس المتبعة آنذاك، هذا ما يظهره تمثال الطفل مع كتابة فينيقية والذي قدم إلى إله الشفاء أشمون عربون شكر لشفائه أطفالهم.

 أما الآثار المتبقية من العصر الهليني(333-64 ق.م) فقد غلب عليها الطابع اليوناني وذلك بعد ما فتحت المدن الساحلية أبوابها للإسكندر الكبير الذي انتصر على الفرس في سنة ٣٣٣ ق.م.
وقد تنوعت هذه الآثار بين منبر من رخام الذي وجد في معبد أشمون في (بستان الشيخ) قرب صيدا والذي يعتبر نموذجاً للمنتوجات اليونانية المصنوعة في فينيقيا إلى تماثيل الآلهة كتمثال فينوس من رخام (عثر عليه في بيروت) أو تمثال لإله الحب وتمثال للإله هيرمس من الفخار واللذين وجدا في منطقة الخرايب قرب صور، كلها تظهر الأثر اليوناني المباشر في الحياة اليومية آنذاك. هذا الأمر لم يمنع الفينيقيين من المحافظة على لغتهم وأبجديتهم وطقوسهم المحلية، ويتضح ذلك من خلال نصب بعلشمار الذي وجد في أم العامد مصنوعاً من حجر كلسي وقد نقشت عليه كتابات فينيقية.

يعتبر العصر الروماني(64 ق.م 395- م) عصر العمران بالنسبة لفينيقيا، حيث تميزت سياسة الرومان في المنطقة الساحلية بإحياء التطور المدني، وتمكنت المدن الفينيقية من توسيع رقعتها حيث شيدت أبنية دينية ومدنية (معابد، بازيليكا، أسواق تجارية، مسارح)، وتطورت الصناعات المحلية من الصياغة والزجاج والنسيج والفخار.

ومن التحف الأثرية المعروضة في المتحف الوطني، إناءات من الزجاج كانت تستخدم في الحياة اليومية وفي التجارة والطقوس وقد اكتشفت في صور. كما تم اكتشاف مدفن في منطقة البرج الشمالي قرب صور، على جدرانه مشاهد مقتبسة من الميتولوجيا مرتبطة بعالم الأموات، وقد أعيد تركيبه في مبنى المتحف. وكان للرخام حصة من خلال التماثيل الرائعة للآلهة كتمثال هيجيا إلهة الصحة (جبيل) ورأس الإله ديونيزوس ذو القرنين (صور) أو حتى ناووس أسطورة آخيل الذي اكتشف في صور. أما الفسيفساء فموجودة أيضاً، ولعل أشهرها تلك التي تمثل اختطاف الإلهة أوروبا ابنة ملك صور وقد خطفها "زفس" الذي تحول إلى ثور...

العصر البيزنطي ( ٣٩٥ م- ٦٣٥ م): انضمت المدن الساحلية اللبنانية إلى الأمبراطورية الشرقية. وقد اعتنقت هذه المدن الديانة المسيحية فهدمت المعابد، لاسيما بعد أن أصبحت المسيحية دين الدولة الرسمي. بالرغم من ذلك فقد بقيت بعض الطقوس الوثنية منتشرة كعبادة الإله أدونيس وجوبيتر وذلك لقرون عدة.

تميز هذا العصر ببناء الكنائس في جميع المدن الساحلية كبيروت وخلدة وشحيم والزهراني وصور ومدن أخرى جبلية كبيت مري والغينة في كسروان وبعلبك، وقد زينت أرضيتها بفسيفساء تمثل مواضيع دينية.

وتنوعت الآثار المعروضة من تماثيل خزفية كفرس البحر الذي اكتشف في جبيل، إلى الحلي على أنواعها (سوار مع رأس كبش، أقراط، خاتم) والمصنوعة من الذهب واللؤلؤ والأحجار نصف الكريمة والتي اكتشفت في بيروت.

أما النقوش على الرخام، فقد كثرت في تلك الحقبة، وغلب عليها الطابع الديني حيث كانت تمثل مواضيع توراتية (مبارزة داوود والأسد، أو ذبيحة ابن إبراهيم). واستخدمت الفسيفساء في المعابد والكنائس وعند مداخل بيوت الأثرياء كفسيفساء "'الحسد" التي اكتشفت في قلب مدينة بيروت البيزنطية.

من الفتح العربي حتى نهاية العصر المملوكي (٦٣٦ م ١٥١٦ -م) شعوب كثيرة مرت على لبنان عملت على نهضته خصوصاً بعد الزلزال الذي ضرب مدنه الساحلية. فتعاقب الأمويون والعباسيون والفاطميون والسلاجقة والأيوبيون والصليبيون والمماليك على احتلال البلد وترك كل منهم أثراً واضحا في العادات والبناء والصناعة وغيرها.

وهكذا نجد أن الحلي المتعددة الأصناف (عقد، سوار، خاتم، بكلة...) والمصنوعة من الذهب والأحجار نصف الكريمة والمينا التي تحمل نقوشاً عربية وأشكالاً هندسية ووجوهاً بشرية، تظهر بمجملها البراعة التي تميّز بها صاغة العصر المملوكي.

والفخاريات التي اكتشفت في صور (من نوع سجرافياتو) تميزت بتقنيات طلاء الإناء ومن ثم نقشه بطلاء ملون بمزيج من الخطوط والرسوم والنقوش والكتابات العربية التي ميزت تلك الحقبة.

وتجدر الإشارة إلى أنه على جانب بهو مدخل المتحف هنالك غرفة مخصصة لعرض الأفلام الوثائقية حول عملية إحياء المتحف الوطني، وغرفة أخرى مخصصة لبيع التذكارات.


تاريخ المتحف والأحداث اللبنانية

إذا كانت المعروضات في المتحف الوطني، التي تعكس تعاقب الحقبات أو العصور على مدى التاريخ جديرة بالتعرف إليها، فإن تاريخ نشأة المتحف هو أيضاً جدير بأن يكون معلوماً.

إن ولادة المتحف الوطني، بدأت بقطع أثرية جمعها الضابط الفرنسي ريمون ويل سنة ١٩١٤ ، والذي كان متمركزاً في بيروت آنذاك، وقد أودعت في البدء في قاعة في مبنى الراهبات الألمانيات في شارع بيكو بحيث أخذت القاعة صفة متحف مؤقت.

تم تدشين المتحف الوطني في موقعه الحالي في ٢٧ أيار ١٩٤٢ على يد السيد الفريد نقاش رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك، بعد أن استغرقت الأشغال لإتمامه مدة سبع سنوات من سنة ١٩٣٠ إلى سنة ١٩٣٧ . وقد تم الإقرار على أن يكون المتحف المكان الصالح لعرض الأثريات التي تكتشف على الأرض اللبنانية. وهكذا كان.

في غضون ثلاثين سنة، تدفقت القطع المستخرجة من الحفريات مضافة إلى تلك التي وجدت قبل بناء المتحف، واستمتع زوار المتحف بمشاهدة قطع ثمينة من عصور ما قبل التاريخ حتى أواخر القرن التاسع عشر وذلك حتى سنة ١٩٧٥ تاريخ بدء الحرب اللبنانية. شاء القدر أن يقف المتحف حاضن التاريخ، شاهداً على حقبة بشعة من تاريخ لبنان، ألا وهي فترة الاقتتال الداخلي على خطوط التماس، وأغلق المتحف أبوابه بسبب تدهور الأوضاع الأمنية.

إزاء هذه الأوضاع، اتخذت تدابير أولية لحماية محتويات المتحف، فالقطع الصغيرة المعروضة في الطابق الأول ضمن الواجهات التي كانت الأكثر تعرضاً للأذى، وضعت في مستودعات الطابق السفلي الذي أحيط بجدران مسلحة منعت من تعرضها للأذى. وكان على القيمين أن يحموا قطع الفسيفساء المرصوصة على أرض المتحف في الطابق الأرضي فعمدوا إلى تغطيتها بطبقة من الأسمنت، أما القطع الكبيرة المتعذر نقلها (النواويس والتماثيل) فقد حميت في البدء بأكياس رملية ومن ثم أحيطت بطبقة من الأسمنت المسلح.

وطوال فترة الأحداث، تعرض المتحف للكثير من الخراب والدمار، فبدأت المياه تتسرب إليه من الثغرات والفجوات في سقفه وجدرانه والنوافذ، هذا بالإضافة إلى الأثر المباشر للقذائف والرصاص.

أدت هذه الأوضاع إلى تلف بعض الصناديق التي تحتوي على قطع أثرية كما احترقت صور وخرائط ومستندات قيمة. وشروط الحفظ غير الصالحة (المستودعات المغلقة منذ فترة طويلة، نقص في التهوئة، ارتفاع في مستوى الرطوبة)، ما أدى إلى تكاثر جرثومي وكيميائي وظهور طبقات من الملح على قاعدة الصناديق وبالتالي تلف العديد من القطع، الأمر الذي استلزم جهوداً كبيرة وأموالاً طائلة لإعادة ترميمها وحفظها.


إعادة التأهيل ... الحفظ والترميم.

خلال الأعوام الخمسة الممتدة من ١٩٩٥ إلى سنة ٢٠٠٠، تركزت أعمال التأهيل على مبنى المتحف (الإضاءة، التكييف، نظام الحماية، تشييد المصاعد، الواجهات، تجفيف الطبقة الجوفية) كما سمحت الهبات الخاصة الآتية من مؤسسات عدة معنية بالتراث بترميم المختبر سنة ١٩٩١، وهو المكان المخول لإجراء عمليات الحفظ والترميم وبالتالي للمحافظة على هذا الإرث كأمانة تنقل إلى الأجيال الصاعدة.

إن عملية الترميم ليست بالأمر السهل كما يعتقد البعض، فالأساليب تتنوع لتتكيف مع أوضاع كل قطعة على حدة وفقاً لاحتياجاتها وأوضاعها. فمن عمليات التنظيف اليدوي الخفيف للقطعة تحت المجهر، إلى عمليات إعادة تركيب وملء الفراغات في القطعة وطلائها بمواد مانعة للتآكل، وهي كلها عمليات مدروسة تتم معالجة القطع بواسطتها مع الأخذ بالاعتبار التقنيات المناسبة واحترام المقاييس العالمية والتوصيات الصادرة عن الاتفاقيات الدولية بهذا الشأن.

وللتعرف أكثر إلى المتحف الوطني، كان لنا لقاء مع المشرفة عليه السيدة سوزي حاكيميان.

استهلت السيدة حاكيميان حديثها بأن رواد المتحف هم لبنانيّون وسيّاحٌ أجانب من أعمار وأجناس مختلفة، يأتون إليه السيدة سوزي حاكيميانبغرض التعرف إلى الآثار عن كثب، وإن نسبة كبيرة من زواره هي من طلاب المدارس خصوصاً، وأن إدارة المتحف قد خصصت لهم أسعاراً رمزية تشجيعية.

وأضافت أن هؤلاء الطلاب، من كل المستويات والصفوف، غالباً ما يأتون إلى المتحف بهدف إجراء زيارة استطلاعية يرافقهم فيها أساتذتهم أو مديرو مدارسهم. ومن الملاحظ أن معظم الطلاب زائري المتحف يأتون إليه ومن دون تحضير مسبق ومن دون هدف محدد يتعلق بحقبة محددة من حقبات التاريخ، ما يجعل زيارتهم التي قد تمتد إلى أكثر من ساعة ونصف، عبارة عن مشاهدات من هنا وهناك من دون أي ترابط بينها وحتى أنهم في غالب الأحيان يفقدون التركيز نظراً لوفرة المعروضات وتنوعها ما يعوق عملية إصغائهم إلى الأستاذ المرافق أو حتى إلى الدليل السياحي إذا ما توافر.

هذا ما يحصل خصوصاً مع التلاميذ في الصفوف الأولى من مرحلة التعليم الأساسي، إذ إنهم يعتبرون زيارة المتحف عبارة عن "رحلة استكشافية ترفيهية" فيحضرون معهم "الزوادة" بدلاً من القلم والدفتر لتدوين المعلومات الجديدة أو الأمور التي تثير فضولهم. هذا الأمر "مضحك ومؤسف على حد سواء". وتوضح حاكيميان "أن هذا الأمر لا ينطبق فقط على زيارة المتحف الوطني بل يتعداه إلى زيارة مختلف المتاحف والمواقع الأثرية".

وأوضحت السيدة حاكيميان أنه ولكي تكون الزيارة ناجحة ومثمرة، فمن الأفضل أن يتم إطلاع الطلاب إلى الهدف من الزيارة وما يمكن أن يشاهدوه فيها وذلك من خلال تعريفهم إلى أشكال القطع ومزاياها مسبقاً وبالتالي تأتي الزيارة لتؤكد هذه المعلومات وترسخها في ذهن الطلاب، كما أنه ينصح بحصر الزيارة بحقبة تاريخية واحدة أو اثنتين لكي يتمكّن الأستاذ من التعمّق في شرحهما. وأبدت حاكيميان قلقها من التباين بين زوار المتحف من اللبنانيين وخاصة الطلاب والتلاميذ منهم وبين زوار المتحف من السياح الأجانب. فاللبنانيون يزورون المتحف ''فيكتشفون ما فيه من آثار من خلال المعلومات المدونة تحتها" ويطالبون بتوفير دليل سياحي ''ليخبرهم'' عن هذه الأثريات. فهم يريدون أن "يعرفوا" كل شيء بأقصر مدة ممكنة.

أما السائح الأجنبي، فإنه يزور المتحف للتعرف عن كثب عما "قرأه" من معلومات و"شاهده" من صور عن القطع والتحف الأثرية، "ترونه يسير والدليل بين يديه، يطابق بين ما قرأه في الكتب وبين ما هو معروض".

وتمنت السيدة حاكيميان في نهاية حديثها أن يعطى موضوع الآثار والمتحف الوطني أهمية أكبر وذلك من خلال إدراج هذا الموضوع في المناهج ضمن محاور متخصصة بالآثار وكيفية المحافظة عليها.

المتحف الوطني
والآثار في المناهج اللبنانية

ورد موضوع الآثار اللبنانية في مواد التاريخ واللغات والتربية الوطنية والتنشئة المدنية. وقد تناول محور "القيم والتراث الثقافي الوطني" في منهج مادة التربية الوطنية والتنشئة المدنية للسنة الثامنة من مرحلة التعليم الأساسي، موضوع الآثار في درس "الآثار في لبنان" حيت أتى على ذكر دور المتحف الوطني في عملية الحفاظ على الآثار وعلى إبراز أهميتها.

عدد لا يحصى من الكتب والكتيبات والمجلات وحتى الأقراص المدمجة وصفحات ومواقع الإنترنت يمكن أن تطلعنا على معلومات عن تراثنا وآثارنا الوطنية. وإذا كان من المهم أن نعطي الطالب هذه المعلومات، فإن الأهم هو تربية الطلاب على وعي أهمية هذا التراث وكيفية المحافظة عليه من جهة والافتخار بتراثنا وتذوق غناه من جهة أخرى.

تاج عمود ذو رأسي ثور من رخام - صيدا )القرن الخامس ق.م.(  أبو الهول حجر كلسي - أم العابد القرن الثاني

 

مجموعة صور لآثار من حقبات مختلفة

         

  

كيف نقوم بزيارة ناجحة للمتحف الوطني؟

ثلاث مراحل تؤدي إلى استثمار ناجح لزيارة المتحف:
المرحلة الأولى: التحضير (ما قبل الزيارة)

  • قم بزيارة المتحف وحدّد الحقبة التي تتناسب مع ما تقوم بتدريسه.
  • حضّر حصة أو أكثر عن آثار الحقبة التاريخية المعينة وأطلع الطلاب على أهم ميزاتها وما يمكن مشاهدته خلال زيارة المتحف عن الموضوع.
  • قم بإبلاغ الأهل عن موعد الزيارة (من المستحسن أخذ موافقة خطية من الأهل).
  • حدّدِ تاريخ الزيارة وبلّغِ مسؤولي المتحف عنه وعن عدد الطلاب.
  • قسّم الطلاب إلى مجموعات صغيرة وقم بتحضير عدد من المهمات لكل مجموعة.

المرحلة الثانية: الزيارة (خلال الزيارة)

  • أكِّد على الطلاب ضرورة التقيّد بالقوانين والإرشادات المعمول بها في المتحف وخصوصاً بالنسبة إلى التصوير والصوت...
  • قم بمساندة الطلاب أثناء تنفيذهم المهام التي حددتها لهم سابقاً.
  • حدّدِ الوقت الأقصى للزيارة ومكان التجمع الأخير.

المرحلة الثالثة: تقييم الزيارة (بعد الزيارة)

  • اطلب من الطلاب تحضير ملخّص عن مشاهداتهم وانطباعاتهم.
  • حضِّر حصة لتركيز المعلومات التي تمّ تجميعها أو التعرف إليها خلال الزيارة.

 

المتحف الوطني اللبناني وجه من التراث الانساني

رانية عبيد غنيم صحافية مندوبة المجلة التربويةالمتحف من الخارج
 

أمر لا يشك فيه اثنان أن آثار لبنان كانت وما تزال تشكل غنى تاريخيّاً وحضاريّاً مهمّاً أسهمت في إعطاء لبنان صفة هامة في الشرق أجمع. فعلى غرار بعلبك وعنجر وبيت الدين وجبيل ومواقع أثرية أخرى شكلت منذ القدم وحتى اليوم حلة لبنان الأثرية، نسلط الضوء على موقع يتميز بالقيمة ذاتها لا بل أكثر، إذ يعتبر حافظة التاريخ كونه يحتضن الآلاف من التحف والقطع الأثرية التي تواجدت في مختلف مناطق لبنان ساحلاً وجبلاً وصولاً إلى البقاع.
إننا نتكلم عن المتحف الوطني اللبناني في بيروت، هذا الموقع الذي يشكل ذاكرة التاريخ إذا صح التعبير، كونه يتضمن تحفاً وأثريات تغطي حقبات مختلفة بدءاً من العصر الحجري وصولاً إلى العصر المملوكي.

فور دخولك المتحف الوطني في بيروت، ينتابك شعور بالذهول والفخر، وإحساس ينتقل بين الرهبة والعظمة لرؤية التاريخ بمختلف عناصره يعود أدراجه عبر الأزمنة القديمة: أثريات تشع تحت الإضاءة تبدو وكأنها لوحات نقشت العصور عليها معالمها فأضحت تخبر عن ذاك الزمن ألف حكاية وحكاية.

يتألف المتحف من ثلاثة طوابق (سفلي، أرضي وأول) تتوزع في ما بينها القطع الأثرية بحسب العصور التي تنتمي إليها.

في الطابقين الأرضي والأول، تطالعك مقتنيات تعود إلى فترة ما قبل التاريخ، إلى العصر الحجري حيث تعرض أبرز ما استخدمه الإنسان الأول الذي عاش على شواطئ لبنان منذ أكثر من مئة ألف سنة، فصوّانيات نادرة من العصر الحجري الحديث (9000-4000 ق.م) كرأس حربة من صوّان كانت تستخدم للصيد وتترافق مع أدوات أخرى من العصر الكلكوليتي (4000-3200 ق.م.) كصنارة من النحاس والتي تعتبر من أولى الأدوات المعدنية التي استخدمها الإنسان الجبيلي لصيد الأسماك، تظهر حقائق عن طرق عيش الإنسان الأول واهتماماته.

        

والعصر البرونزي، بأقسامه الثلاثة (القديم والمتوسط والحديث)، عصر نشوء الحضارة المدينية، وظهور الكتابة، كتب عنه علماء الآثار الكثير. وقد كشفت الحفريات الأثرية أسواراً ومساكن ومعابد ومدافن لهذه المدن القديمة، حيث كان يرافقها عدد كبير من القطع ذات الطابع المدفني أو الديني سمحت بالتعرف إلى بعض جوانب حياة السكان اليومية وإلى معتقداتهم وصناعاتهم.

فالحلي وقلادة الملك إب شمو أبي مثلاً التي عثر عليها ضمن اللوازم التي دفنت معه والتي تعود للعصر البرونزي المتوسط (2000-1500 ق.م) تدل بوضوح على إتقان السكان فن صناعة الذهب والفضة، كما أن فرس البحر المصنوع من الخزف والتي تمثل القرابين تدل من جهة على إتقان صناعة الخزف ومن جهة أخرى تظهر التأثير المصري على سكان تلك المدن.

وبانت تحف العصر البرونزي  الحديث (1500-1200 ق.م) وبالأخص القطع العاجية المصنوعة من عاج فرس البحر، وأهمها علب التبرج (على شكل بط) المكتشفة في صيدا والتي أظهرت ذوقا مميّزاً وحرفية عالية لدى السكان. وتجدر الإشارة إلى أنها من النماذج القلائل المكتشفة في لبنان كون غالبية هذه القطع سلبها الملوك الأشوريين خلال غزوهم للبلاد.

أما ناووس أحيرام، ملك جبيل، فيعتبر من أهم القطع المعروضة في المتحف الوطني، إذ إنه يتميز بالنقوش والكتابات التي تغطي الجرن والغطاء مع بقايا دهان أحمر في بعض الأماكن وكونه الشاهد الأول على الأبجدية الفينيقية التي قام الفينيقيون بنشرها في الألف الأول ق.م.

لم تقتصر النماذج على المدن الساحلية بل تعدته إلى بلدة كامد اللوز البقاعية حيث تم اكتشاف تمثال الإلهة حتحور وتمثال آخر يمثل عازفاً على آلة موسيقية. وهذان النموذجان يظهران براعة الحرفيين المحليين في نحت العاج.

بلغت الحضارة الفينيقية أوجها في العصر الحديدي (1200-330ق.م)، من خلال الانتشار التجاري في محيط البحر الأبيض المتوسط ونشر الأبجدية إلى العالم بفضل قدموس الصوري. وينقسم هذا العصر إلى ثلاثة أقسام: العصر الحديدي الأول (القرن الثاني عشر - القرن العاشر ق.م) والحديدي الثاني (القرن التاسع - القرن السابع ق.م) والحديدي الثالث (القرن السادس - القرن الرابع ق.م).
وقد تنوعت الموجودات المكتشفة من ذهب وعقيق (كالقلادة والعقد الذي يزينه وجه، اللذين اكتشفا في مغارة طبلون قرب صيدا)، والفخار المستورد من اليونان وقبرص (بحسب ما دلت عليه النقوش والزخرفة التي وجدت على إناء بشكل رأس خنزير وآخر مزين بشكل بط). أما تماثيل الرخام التي اكتشفت في عين الحلوة وصيدا ومعبد اشمون (بستان الشيخ) فدلت على تأثر الفينيقيين بالحضارات الأخرى كالفارسية واليونانية وغيرها، وعلى الطقوس المتبعة آنذاك، هذا ما يظهره تمثال الطفل مع كتابة فينيقية والذي قدم إلى إله الشفاء أشمون عربون شكر لشفائه أطفالهم.

 أما الآثار المتبقية من العصر الهليني(333-64 ق.م) فقد غلب عليها الطابع اليوناني وذلك بعد ما فتحت المدن الساحلية أبوابها للإسكندر الكبير الذي انتصر على الفرس في سنة ٣٣٣ ق.م.
وقد تنوعت هذه الآثار بين منبر من رخام الذي وجد في معبد أشمون في (بستان الشيخ) قرب صيدا والذي يعتبر نموذجاً للمنتوجات اليونانية المصنوعة في فينيقيا إلى تماثيل الآلهة كتمثال فينوس من رخام (عثر عليه في بيروت) أو تمثال لإله الحب وتمثال للإله هيرمس من الفخار واللذين وجدا في منطقة الخرايب قرب صور، كلها تظهر الأثر اليوناني المباشر في الحياة اليومية آنذاك. هذا الأمر لم يمنع الفينيقيين من المحافظة على لغتهم وأبجديتهم وطقوسهم المحلية، ويتضح ذلك من خلال نصب بعلشمار الذي وجد في أم العامد مصنوعاً من حجر كلسي وقد نقشت عليه كتابات فينيقية.

يعتبر العصر الروماني(64 ق.م 395- م) عصر العمران بالنسبة لفينيقيا، حيث تميزت سياسة الرومان في المنطقة الساحلية بإحياء التطور المدني، وتمكنت المدن الفينيقية من توسيع رقعتها حيث شيدت أبنية دينية ومدنية (معابد، بازيليكا، أسواق تجارية، مسارح)، وتطورت الصناعات المحلية من الصياغة والزجاج والنسيج والفخار.

ومن التحف الأثرية المعروضة في المتحف الوطني، إناءات من الزجاج كانت تستخدم في الحياة اليومية وفي التجارة والطقوس وقد اكتشفت في صور. كما تم اكتشاف مدفن في منطقة البرج الشمالي قرب صور، على جدرانه مشاهد مقتبسة من الميتولوجيا مرتبطة بعالم الأموات، وقد أعيد تركيبه في مبنى المتحف. وكان للرخام حصة من خلال التماثيل الرائعة للآلهة كتمثال هيجيا إلهة الصحة (جبيل) ورأس الإله ديونيزوس ذو القرنين (صور) أو حتى ناووس أسطورة آخيل الذي اكتشف في صور. أما الفسيفساء فموجودة أيضاً، ولعل أشهرها تلك التي تمثل اختطاف الإلهة أوروبا ابنة ملك صور وقد خطفها "زفس" الذي تحول إلى ثور...

العصر البيزنطي ( ٣٩٥ م- ٦٣٥ م): انضمت المدن الساحلية اللبنانية إلى الأمبراطورية الشرقية. وقد اعتنقت هذه المدن الديانة المسيحية فهدمت المعابد، لاسيما بعد أن أصبحت المسيحية دين الدولة الرسمي. بالرغم من ذلك فقد بقيت بعض الطقوس الوثنية منتشرة كعبادة الإله أدونيس وجوبيتر وذلك لقرون عدة.

تميز هذا العصر ببناء الكنائس في جميع المدن الساحلية كبيروت وخلدة وشحيم والزهراني وصور ومدن أخرى جبلية كبيت مري والغينة في كسروان وبعلبك، وقد زينت أرضيتها بفسيفساء تمثل مواضيع دينية.

وتنوعت الآثار المعروضة من تماثيل خزفية كفرس البحر الذي اكتشف في جبيل، إلى الحلي على أنواعها (سوار مع رأس كبش، أقراط، خاتم) والمصنوعة من الذهب واللؤلؤ والأحجار نصف الكريمة والتي اكتشفت في بيروت.

أما النقوش على الرخام، فقد كثرت في تلك الحقبة، وغلب عليها الطابع الديني حيث كانت تمثل مواضيع توراتية (مبارزة داوود والأسد، أو ذبيحة ابن إبراهيم). واستخدمت الفسيفساء في المعابد والكنائس وعند مداخل بيوت الأثرياء كفسيفساء "'الحسد" التي اكتشفت في قلب مدينة بيروت البيزنطية.

من الفتح العربي حتى نهاية العصر المملوكي (٦٣٦ م ١٥١٦ -م) شعوب كثيرة مرت على لبنان عملت على نهضته خصوصاً بعد الزلزال الذي ضرب مدنه الساحلية. فتعاقب الأمويون والعباسيون والفاطميون والسلاجقة والأيوبيون والصليبيون والمماليك على احتلال البلد وترك كل منهم أثراً واضحا في العادات والبناء والصناعة وغيرها.

وهكذا نجد أن الحلي المتعددة الأصناف (عقد، سوار، خاتم، بكلة...) والمصنوعة من الذهب والأحجار نصف الكريمة والمينا التي تحمل نقوشاً عربية وأشكالاً هندسية ووجوهاً بشرية، تظهر بمجملها البراعة التي تميّز بها صاغة العصر المملوكي.

والفخاريات التي اكتشفت في صور (من نوع سجرافياتو) تميزت بتقنيات طلاء الإناء ومن ثم نقشه بطلاء ملون بمزيج من الخطوط والرسوم والنقوش والكتابات العربية التي ميزت تلك الحقبة.

وتجدر الإشارة إلى أنه على جانب بهو مدخل المتحف هنالك غرفة مخصصة لعرض الأفلام الوثائقية حول عملية إحياء المتحف الوطني، وغرفة أخرى مخصصة لبيع التذكارات.


تاريخ المتحف والأحداث اللبنانية

إذا كانت المعروضات في المتحف الوطني، التي تعكس تعاقب الحقبات أو العصور على مدى التاريخ جديرة بالتعرف إليها، فإن تاريخ نشأة المتحف هو أيضاً جدير بأن يكون معلوماً.

إن ولادة المتحف الوطني، بدأت بقطع أثرية جمعها الضابط الفرنسي ريمون ويل سنة ١٩١٤ ، والذي كان متمركزاً في بيروت آنذاك، وقد أودعت في البدء في قاعة في مبنى الراهبات الألمانيات في شارع بيكو بحيث أخذت القاعة صفة متحف مؤقت.

تم تدشين المتحف الوطني في موقعه الحالي في ٢٧ أيار ١٩٤٢ على يد السيد الفريد نقاش رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك، بعد أن استغرقت الأشغال لإتمامه مدة سبع سنوات من سنة ١٩٣٠ إلى سنة ١٩٣٧ . وقد تم الإقرار على أن يكون المتحف المكان الصالح لعرض الأثريات التي تكتشف على الأرض اللبنانية. وهكذا كان.

في غضون ثلاثين سنة، تدفقت القطع المستخرجة من الحفريات مضافة إلى تلك التي وجدت قبل بناء المتحف، واستمتع زوار المتحف بمشاهدة قطع ثمينة من عصور ما قبل التاريخ حتى أواخر القرن التاسع عشر وذلك حتى سنة ١٩٧٥ تاريخ بدء الحرب اللبنانية. شاء القدر أن يقف المتحف حاضن التاريخ، شاهداً على حقبة بشعة من تاريخ لبنان، ألا وهي فترة الاقتتال الداخلي على خطوط التماس، وأغلق المتحف أبوابه بسبب تدهور الأوضاع الأمنية.

إزاء هذه الأوضاع، اتخذت تدابير أولية لحماية محتويات المتحف، فالقطع الصغيرة المعروضة في الطابق الأول ضمن الواجهات التي كانت الأكثر تعرضاً للأذى، وضعت في مستودعات الطابق السفلي الذي أحيط بجدران مسلحة منعت من تعرضها للأذى. وكان على القيمين أن يحموا قطع الفسيفساء المرصوصة على أرض المتحف في الطابق الأرضي فعمدوا إلى تغطيتها بطبقة من الأسمنت، أما القطع الكبيرة المتعذر نقلها (النواويس والتماثيل) فقد حميت في البدء بأكياس رملية ومن ثم أحيطت بطبقة من الأسمنت المسلح.

وطوال فترة الأحداث، تعرض المتحف للكثير من الخراب والدمار، فبدأت المياه تتسرب إليه من الثغرات والفجوات في سقفه وجدرانه والنوافذ، هذا بالإضافة إلى الأثر المباشر للقذائف والرصاص.

أدت هذه الأوضاع إلى تلف بعض الصناديق التي تحتوي على قطع أثرية كما احترقت صور وخرائط ومستندات قيمة. وشروط الحفظ غير الصالحة (المستودعات المغلقة منذ فترة طويلة، نقص في التهوئة، ارتفاع في مستوى الرطوبة)، ما أدى إلى تكاثر جرثومي وكيميائي وظهور طبقات من الملح على قاعدة الصناديق وبالتالي تلف العديد من القطع، الأمر الذي استلزم جهوداً كبيرة وأموالاً طائلة لإعادة ترميمها وحفظها.


إعادة التأهيل ... الحفظ والترميم.

خلال الأعوام الخمسة الممتدة من ١٩٩٥ إلى سنة ٢٠٠٠، تركزت أعمال التأهيل على مبنى المتحف (الإضاءة، التكييف، نظام الحماية، تشييد المصاعد، الواجهات، تجفيف الطبقة الجوفية) كما سمحت الهبات الخاصة الآتية من مؤسسات عدة معنية بالتراث بترميم المختبر سنة ١٩٩١، وهو المكان المخول لإجراء عمليات الحفظ والترميم وبالتالي للمحافظة على هذا الإرث كأمانة تنقل إلى الأجيال الصاعدة.

إن عملية الترميم ليست بالأمر السهل كما يعتقد البعض، فالأساليب تتنوع لتتكيف مع أوضاع كل قطعة على حدة وفقاً لاحتياجاتها وأوضاعها. فمن عمليات التنظيف اليدوي الخفيف للقطعة تحت المجهر، إلى عمليات إعادة تركيب وملء الفراغات في القطعة وطلائها بمواد مانعة للتآكل، وهي كلها عمليات مدروسة تتم معالجة القطع بواسطتها مع الأخذ بالاعتبار التقنيات المناسبة واحترام المقاييس العالمية والتوصيات الصادرة عن الاتفاقيات الدولية بهذا الشأن.

وللتعرف أكثر إلى المتحف الوطني، كان لنا لقاء مع المشرفة عليه السيدة سوزي حاكيميان.

استهلت السيدة حاكيميان حديثها بأن رواد المتحف هم لبنانيّون وسيّاحٌ أجانب من أعمار وأجناس مختلفة، يأتون إليه السيدة سوزي حاكيميانبغرض التعرف إلى الآثار عن كثب، وإن نسبة كبيرة من زواره هي من طلاب المدارس خصوصاً، وأن إدارة المتحف قد خصصت لهم أسعاراً رمزية تشجيعية.

وأضافت أن هؤلاء الطلاب، من كل المستويات والصفوف، غالباً ما يأتون إلى المتحف بهدف إجراء زيارة استطلاعية يرافقهم فيها أساتذتهم أو مديرو مدارسهم. ومن الملاحظ أن معظم الطلاب زائري المتحف يأتون إليه ومن دون تحضير مسبق ومن دون هدف محدد يتعلق بحقبة محددة من حقبات التاريخ، ما يجعل زيارتهم التي قد تمتد إلى أكثر من ساعة ونصف، عبارة عن مشاهدات من هنا وهناك من دون أي ترابط بينها وحتى أنهم في غالب الأحيان يفقدون التركيز نظراً لوفرة المعروضات وتنوعها ما يعوق عملية إصغائهم إلى الأستاذ المرافق أو حتى إلى الدليل السياحي إذا ما توافر.

هذا ما يحصل خصوصاً مع التلاميذ في الصفوف الأولى من مرحلة التعليم الأساسي، إذ إنهم يعتبرون زيارة المتحف عبارة عن "رحلة استكشافية ترفيهية" فيحضرون معهم "الزوادة" بدلاً من القلم والدفتر لتدوين المعلومات الجديدة أو الأمور التي تثير فضولهم. هذا الأمر "مضحك ومؤسف على حد سواء". وتوضح حاكيميان "أن هذا الأمر لا ينطبق فقط على زيارة المتحف الوطني بل يتعداه إلى زيارة مختلف المتاحف والمواقع الأثرية".

وأوضحت السيدة حاكيميان أنه ولكي تكون الزيارة ناجحة ومثمرة، فمن الأفضل أن يتم إطلاع الطلاب إلى الهدف من الزيارة وما يمكن أن يشاهدوه فيها وذلك من خلال تعريفهم إلى أشكال القطع ومزاياها مسبقاً وبالتالي تأتي الزيارة لتؤكد هذه المعلومات وترسخها في ذهن الطلاب، كما أنه ينصح بحصر الزيارة بحقبة تاريخية واحدة أو اثنتين لكي يتمكّن الأستاذ من التعمّق في شرحهما. وأبدت حاكيميان قلقها من التباين بين زوار المتحف من اللبنانيين وخاصة الطلاب والتلاميذ منهم وبين زوار المتحف من السياح الأجانب. فاللبنانيون يزورون المتحف ''فيكتشفون ما فيه من آثار من خلال المعلومات المدونة تحتها" ويطالبون بتوفير دليل سياحي ''ليخبرهم'' عن هذه الأثريات. فهم يريدون أن "يعرفوا" كل شيء بأقصر مدة ممكنة.

أما السائح الأجنبي، فإنه يزور المتحف للتعرف عن كثب عما "قرأه" من معلومات و"شاهده" من صور عن القطع والتحف الأثرية، "ترونه يسير والدليل بين يديه، يطابق بين ما قرأه في الكتب وبين ما هو معروض".

وتمنت السيدة حاكيميان في نهاية حديثها أن يعطى موضوع الآثار والمتحف الوطني أهمية أكبر وذلك من خلال إدراج هذا الموضوع في المناهج ضمن محاور متخصصة بالآثار وكيفية المحافظة عليها.

المتحف الوطني
والآثار في المناهج اللبنانية

ورد موضوع الآثار اللبنانية في مواد التاريخ واللغات والتربية الوطنية والتنشئة المدنية. وقد تناول محور "القيم والتراث الثقافي الوطني" في منهج مادة التربية الوطنية والتنشئة المدنية للسنة الثامنة من مرحلة التعليم الأساسي، موضوع الآثار في درس "الآثار في لبنان" حيت أتى على ذكر دور المتحف الوطني في عملية الحفاظ على الآثار وعلى إبراز أهميتها.

عدد لا يحصى من الكتب والكتيبات والمجلات وحتى الأقراص المدمجة وصفحات ومواقع الإنترنت يمكن أن تطلعنا على معلومات عن تراثنا وآثارنا الوطنية. وإذا كان من المهم أن نعطي الطالب هذه المعلومات، فإن الأهم هو تربية الطلاب على وعي أهمية هذا التراث وكيفية المحافظة عليه من جهة والافتخار بتراثنا وتذوق غناه من جهة أخرى.

تاج عمود ذو رأسي ثور من رخام - صيدا )القرن الخامس ق.م.(  أبو الهول حجر كلسي - أم العابد القرن الثاني

 

مجموعة صور لآثار من حقبات مختلفة

         

  

كيف نقوم بزيارة ناجحة للمتحف الوطني؟

ثلاث مراحل تؤدي إلى استثمار ناجح لزيارة المتحف:
المرحلة الأولى: التحضير (ما قبل الزيارة)

  • قم بزيارة المتحف وحدّد الحقبة التي تتناسب مع ما تقوم بتدريسه.
  • حضّر حصة أو أكثر عن آثار الحقبة التاريخية المعينة وأطلع الطلاب على أهم ميزاتها وما يمكن مشاهدته خلال زيارة المتحف عن الموضوع.
  • قم بإبلاغ الأهل عن موعد الزيارة (من المستحسن أخذ موافقة خطية من الأهل).
  • حدّدِ تاريخ الزيارة وبلّغِ مسؤولي المتحف عنه وعن عدد الطلاب.
  • قسّم الطلاب إلى مجموعات صغيرة وقم بتحضير عدد من المهمات لكل مجموعة.

المرحلة الثانية: الزيارة (خلال الزيارة)

  • أكِّد على الطلاب ضرورة التقيّد بالقوانين والإرشادات المعمول بها في المتحف وخصوصاً بالنسبة إلى التصوير والصوت...
  • قم بمساندة الطلاب أثناء تنفيذهم المهام التي حددتها لهم سابقاً.
  • حدّدِ الوقت الأقصى للزيارة ومكان التجمع الأخير.

المرحلة الثالثة: تقييم الزيارة (بعد الزيارة)

  • اطلب من الطلاب تحضير ملخّص عن مشاهداتهم وانطباعاتهم.
  • حضِّر حصة لتركيز المعلومات التي تمّ تجميعها أو التعرف إليها خلال الزيارة.

 

المتحف الوطني اللبناني وجه من التراث الانساني

رانية عبيد غنيم صحافية مندوبة المجلة التربويةالمتحف من الخارج
 

أمر لا يشك فيه اثنان أن آثار لبنان كانت وما تزال تشكل غنى تاريخيّاً وحضاريّاً مهمّاً أسهمت في إعطاء لبنان صفة هامة في الشرق أجمع. فعلى غرار بعلبك وعنجر وبيت الدين وجبيل ومواقع أثرية أخرى شكلت منذ القدم وحتى اليوم حلة لبنان الأثرية، نسلط الضوء على موقع يتميز بالقيمة ذاتها لا بل أكثر، إذ يعتبر حافظة التاريخ كونه يحتضن الآلاف من التحف والقطع الأثرية التي تواجدت في مختلف مناطق لبنان ساحلاً وجبلاً وصولاً إلى البقاع.
إننا نتكلم عن المتحف الوطني اللبناني في بيروت، هذا الموقع الذي يشكل ذاكرة التاريخ إذا صح التعبير، كونه يتضمن تحفاً وأثريات تغطي حقبات مختلفة بدءاً من العصر الحجري وصولاً إلى العصر المملوكي.

فور دخولك المتحف الوطني في بيروت، ينتابك شعور بالذهول والفخر، وإحساس ينتقل بين الرهبة والعظمة لرؤية التاريخ بمختلف عناصره يعود أدراجه عبر الأزمنة القديمة: أثريات تشع تحت الإضاءة تبدو وكأنها لوحات نقشت العصور عليها معالمها فأضحت تخبر عن ذاك الزمن ألف حكاية وحكاية.

يتألف المتحف من ثلاثة طوابق (سفلي، أرضي وأول) تتوزع في ما بينها القطع الأثرية بحسب العصور التي تنتمي إليها.

في الطابقين الأرضي والأول، تطالعك مقتنيات تعود إلى فترة ما قبل التاريخ، إلى العصر الحجري حيث تعرض أبرز ما استخدمه الإنسان الأول الذي عاش على شواطئ لبنان منذ أكثر من مئة ألف سنة، فصوّانيات نادرة من العصر الحجري الحديث (9000-4000 ق.م) كرأس حربة من صوّان كانت تستخدم للصيد وتترافق مع أدوات أخرى من العصر الكلكوليتي (4000-3200 ق.م.) كصنارة من النحاس والتي تعتبر من أولى الأدوات المعدنية التي استخدمها الإنسان الجبيلي لصيد الأسماك، تظهر حقائق عن طرق عيش الإنسان الأول واهتماماته.

        

والعصر البرونزي، بأقسامه الثلاثة (القديم والمتوسط والحديث)، عصر نشوء الحضارة المدينية، وظهور الكتابة، كتب عنه علماء الآثار الكثير. وقد كشفت الحفريات الأثرية أسواراً ومساكن ومعابد ومدافن لهذه المدن القديمة، حيث كان يرافقها عدد كبير من القطع ذات الطابع المدفني أو الديني سمحت بالتعرف إلى بعض جوانب حياة السكان اليومية وإلى معتقداتهم وصناعاتهم.

فالحلي وقلادة الملك إب شمو أبي مثلاً التي عثر عليها ضمن اللوازم التي دفنت معه والتي تعود للعصر البرونزي المتوسط (2000-1500 ق.م) تدل بوضوح على إتقان السكان فن صناعة الذهب والفضة، كما أن فرس البحر المصنوع من الخزف والتي تمثل القرابين تدل من جهة على إتقان صناعة الخزف ومن جهة أخرى تظهر التأثير المصري على سكان تلك المدن.

وبانت تحف العصر البرونزي  الحديث (1500-1200 ق.م) وبالأخص القطع العاجية المصنوعة من عاج فرس البحر، وأهمها علب التبرج (على شكل بط) المكتشفة في صيدا والتي أظهرت ذوقا مميّزاً وحرفية عالية لدى السكان. وتجدر الإشارة إلى أنها من النماذج القلائل المكتشفة في لبنان كون غالبية هذه القطع سلبها الملوك الأشوريين خلال غزوهم للبلاد.

أما ناووس أحيرام، ملك جبيل، فيعتبر من أهم القطع المعروضة في المتحف الوطني، إذ إنه يتميز بالنقوش والكتابات التي تغطي الجرن والغطاء مع بقايا دهان أحمر في بعض الأماكن وكونه الشاهد الأول على الأبجدية الفينيقية التي قام الفينيقيون بنشرها في الألف الأول ق.م.

لم تقتصر النماذج على المدن الساحلية بل تعدته إلى بلدة كامد اللوز البقاعية حيث تم اكتشاف تمثال الإلهة حتحور وتمثال آخر يمثل عازفاً على آلة موسيقية. وهذان النموذجان يظهران براعة الحرفيين المحليين في نحت العاج.

بلغت الحضارة الفينيقية أوجها في العصر الحديدي (1200-330ق.م)، من خلال الانتشار التجاري في محيط البحر الأبيض المتوسط ونشر الأبجدية إلى العالم بفضل قدموس الصوري. وينقسم هذا العصر إلى ثلاثة أقسام: العصر الحديدي الأول (القرن الثاني عشر - القرن العاشر ق.م) والحديدي الثاني (القرن التاسع - القرن السابع ق.م) والحديدي الثالث (القرن السادس - القرن الرابع ق.م).
وقد تنوعت الموجودات المكتشفة من ذهب وعقيق (كالقلادة والعقد الذي يزينه وجه، اللذين اكتشفا في مغارة طبلون قرب صيدا)، والفخار المستورد من اليونان وقبرص (بحسب ما دلت عليه النقوش والزخرفة التي وجدت على إناء بشكل رأس خنزير وآخر مزين بشكل بط). أما تماثيل الرخام التي اكتشفت في عين الحلوة وصيدا ومعبد اشمون (بستان الشيخ) فدلت على تأثر الفينيقيين بالحضارات الأخرى كالفارسية واليونانية وغيرها، وعلى الطقوس المتبعة آنذاك، هذا ما يظهره تمثال الطفل مع كتابة فينيقية والذي قدم إلى إله الشفاء أشمون عربون شكر لشفائه أطفالهم.

 أما الآثار المتبقية من العصر الهليني(333-64 ق.م) فقد غلب عليها الطابع اليوناني وذلك بعد ما فتحت المدن الساحلية أبوابها للإسكندر الكبير الذي انتصر على الفرس في سنة ٣٣٣ ق.م.
وقد تنوعت هذه الآثار بين منبر من رخام الذي وجد في معبد أشمون في (بستان الشيخ) قرب صيدا والذي يعتبر نموذجاً للمنتوجات اليونانية المصنوعة في فينيقيا إلى تماثيل الآلهة كتمثال فينوس من رخام (عثر عليه في بيروت) أو تمثال لإله الحب وتمثال للإله هيرمس من الفخار واللذين وجدا في منطقة الخرايب قرب صور، كلها تظهر الأثر اليوناني المباشر في الحياة اليومية آنذاك. هذا الأمر لم يمنع الفينيقيين من المحافظة على لغتهم وأبجديتهم وطقوسهم المحلية، ويتضح ذلك من خلال نصب بعلشمار الذي وجد في أم العامد مصنوعاً من حجر كلسي وقد نقشت عليه كتابات فينيقية.

يعتبر العصر الروماني(64 ق.م 395- م) عصر العمران بالنسبة لفينيقيا، حيث تميزت سياسة الرومان في المنطقة الساحلية بإحياء التطور المدني، وتمكنت المدن الفينيقية من توسيع رقعتها حيث شيدت أبنية دينية ومدنية (معابد، بازيليكا، أسواق تجارية، مسارح)، وتطورت الصناعات المحلية من الصياغة والزجاج والنسيج والفخار.

ومن التحف الأثرية المعروضة في المتحف الوطني، إناءات من الزجاج كانت تستخدم في الحياة اليومية وفي التجارة والطقوس وقد اكتشفت في صور. كما تم اكتشاف مدفن في منطقة البرج الشمالي قرب صور، على جدرانه مشاهد مقتبسة من الميتولوجيا مرتبطة بعالم الأموات، وقد أعيد تركيبه في مبنى المتحف. وكان للرخام حصة من خلال التماثيل الرائعة للآلهة كتمثال هيجيا إلهة الصحة (جبيل) ورأس الإله ديونيزوس ذو القرنين (صور) أو حتى ناووس أسطورة آخيل الذي اكتشف في صور. أما الفسيفساء فموجودة أيضاً، ولعل أشهرها تلك التي تمثل اختطاف الإلهة أوروبا ابنة ملك صور وقد خطفها "زفس" الذي تحول إلى ثور...

العصر البيزنطي ( ٣٩٥ م- ٦٣٥ م): انضمت المدن الساحلية اللبنانية إلى الأمبراطورية الشرقية. وقد اعتنقت هذه المدن الديانة المسيحية فهدمت المعابد، لاسيما بعد أن أصبحت المسيحية دين الدولة الرسمي. بالرغم من ذلك فقد بقيت بعض الطقوس الوثنية منتشرة كعبادة الإله أدونيس وجوبيتر وذلك لقرون عدة.

تميز هذا العصر ببناء الكنائس في جميع المدن الساحلية كبيروت وخلدة وشحيم والزهراني وصور ومدن أخرى جبلية كبيت مري والغينة في كسروان وبعلبك، وقد زينت أرضيتها بفسيفساء تمثل مواضيع دينية.

وتنوعت الآثار المعروضة من تماثيل خزفية كفرس البحر الذي اكتشف في جبيل، إلى الحلي على أنواعها (سوار مع رأس كبش، أقراط، خاتم) والمصنوعة من الذهب واللؤلؤ والأحجار نصف الكريمة والتي اكتشفت في بيروت.

أما النقوش على الرخام، فقد كثرت في تلك الحقبة، وغلب عليها الطابع الديني حيث كانت تمثل مواضيع توراتية (مبارزة داوود والأسد، أو ذبيحة ابن إبراهيم). واستخدمت الفسيفساء في المعابد والكنائس وعند مداخل بيوت الأثرياء كفسيفساء "'الحسد" التي اكتشفت في قلب مدينة بيروت البيزنطية.

من الفتح العربي حتى نهاية العصر المملوكي (٦٣٦ م ١٥١٦ -م) شعوب كثيرة مرت على لبنان عملت على نهضته خصوصاً بعد الزلزال الذي ضرب مدنه الساحلية. فتعاقب الأمويون والعباسيون والفاطميون والسلاجقة والأيوبيون والصليبيون والمماليك على احتلال البلد وترك كل منهم أثراً واضحا في العادات والبناء والصناعة وغيرها.

وهكذا نجد أن الحلي المتعددة الأصناف (عقد، سوار، خاتم، بكلة...) والمصنوعة من الذهب والأحجار نصف الكريمة والمينا التي تحمل نقوشاً عربية وأشكالاً هندسية ووجوهاً بشرية، تظهر بمجملها البراعة التي تميّز بها صاغة العصر المملوكي.

والفخاريات التي اكتشفت في صور (من نوع سجرافياتو) تميزت بتقنيات طلاء الإناء ومن ثم نقشه بطلاء ملون بمزيج من الخطوط والرسوم والنقوش والكتابات العربية التي ميزت تلك الحقبة.

وتجدر الإشارة إلى أنه على جانب بهو مدخل المتحف هنالك غرفة مخصصة لعرض الأفلام الوثائقية حول عملية إحياء المتحف الوطني، وغرفة أخرى مخصصة لبيع التذكارات.


تاريخ المتحف والأحداث اللبنانية

إذا كانت المعروضات في المتحف الوطني، التي تعكس تعاقب الحقبات أو العصور على مدى التاريخ جديرة بالتعرف إليها، فإن تاريخ نشأة المتحف هو أيضاً جدير بأن يكون معلوماً.

إن ولادة المتحف الوطني، بدأت بقطع أثرية جمعها الضابط الفرنسي ريمون ويل سنة ١٩١٤ ، والذي كان متمركزاً في بيروت آنذاك، وقد أودعت في البدء في قاعة في مبنى الراهبات الألمانيات في شارع بيكو بحيث أخذت القاعة صفة متحف مؤقت.

تم تدشين المتحف الوطني في موقعه الحالي في ٢٧ أيار ١٩٤٢ على يد السيد الفريد نقاش رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك، بعد أن استغرقت الأشغال لإتمامه مدة سبع سنوات من سنة ١٩٣٠ إلى سنة ١٩٣٧ . وقد تم الإقرار على أن يكون المتحف المكان الصالح لعرض الأثريات التي تكتشف على الأرض اللبنانية. وهكذا كان.

في غضون ثلاثين سنة، تدفقت القطع المستخرجة من الحفريات مضافة إلى تلك التي وجدت قبل بناء المتحف، واستمتع زوار المتحف بمشاهدة قطع ثمينة من عصور ما قبل التاريخ حتى أواخر القرن التاسع عشر وذلك حتى سنة ١٩٧٥ تاريخ بدء الحرب اللبنانية. شاء القدر أن يقف المتحف حاضن التاريخ، شاهداً على حقبة بشعة من تاريخ لبنان، ألا وهي فترة الاقتتال الداخلي على خطوط التماس، وأغلق المتحف أبوابه بسبب تدهور الأوضاع الأمنية.

إزاء هذه الأوضاع، اتخذت تدابير أولية لحماية محتويات المتحف، فالقطع الصغيرة المعروضة في الطابق الأول ضمن الواجهات التي كانت الأكثر تعرضاً للأذى، وضعت في مستودعات الطابق السفلي الذي أحيط بجدران مسلحة منعت من تعرضها للأذى. وكان على القيمين أن يحموا قطع الفسيفساء المرصوصة على أرض المتحف في الطابق الأرضي فعمدوا إلى تغطيتها بطبقة من الأسمنت، أما القطع الكبيرة المتعذر نقلها (النواويس والتماثيل) فقد حميت في البدء بأكياس رملية ومن ثم أحيطت بطبقة من الأسمنت المسلح.

وطوال فترة الأحداث، تعرض المتحف للكثير من الخراب والدمار، فبدأت المياه تتسرب إليه من الثغرات والفجوات في سقفه وجدرانه والنوافذ، هذا بالإضافة إلى الأثر المباشر للقذائف والرصاص.

أدت هذه الأوضاع إلى تلف بعض الصناديق التي تحتوي على قطع أثرية كما احترقت صور وخرائط ومستندات قيمة. وشروط الحفظ غير الصالحة (المستودعات المغلقة منذ فترة طويلة، نقص في التهوئة، ارتفاع في مستوى الرطوبة)، ما أدى إلى تكاثر جرثومي وكيميائي وظهور طبقات من الملح على قاعدة الصناديق وبالتالي تلف العديد من القطع، الأمر الذي استلزم جهوداً كبيرة وأموالاً طائلة لإعادة ترميمها وحفظها.


إعادة التأهيل ... الحفظ والترميم.

خلال الأعوام الخمسة الممتدة من ١٩٩٥ إلى سنة ٢٠٠٠، تركزت أعمال التأهيل على مبنى المتحف (الإضاءة، التكييف، نظام الحماية، تشييد المصاعد، الواجهات، تجفيف الطبقة الجوفية) كما سمحت الهبات الخاصة الآتية من مؤسسات عدة معنية بالتراث بترميم المختبر سنة ١٩٩١، وهو المكان المخول لإجراء عمليات الحفظ والترميم وبالتالي للمحافظة على هذا الإرث كأمانة تنقل إلى الأجيال الصاعدة.

إن عملية الترميم ليست بالأمر السهل كما يعتقد البعض، فالأساليب تتنوع لتتكيف مع أوضاع كل قطعة على حدة وفقاً لاحتياجاتها وأوضاعها. فمن عمليات التنظيف اليدوي الخفيف للقطعة تحت المجهر، إلى عمليات إعادة تركيب وملء الفراغات في القطعة وطلائها بمواد مانعة للتآكل، وهي كلها عمليات مدروسة تتم معالجة القطع بواسطتها مع الأخذ بالاعتبار التقنيات المناسبة واحترام المقاييس العالمية والتوصيات الصادرة عن الاتفاقيات الدولية بهذا الشأن.

وللتعرف أكثر إلى المتحف الوطني، كان لنا لقاء مع المشرفة عليه السيدة سوزي حاكيميان.

استهلت السيدة حاكيميان حديثها بأن رواد المتحف هم لبنانيّون وسيّاحٌ أجانب من أعمار وأجناس مختلفة، يأتون إليه السيدة سوزي حاكيميانبغرض التعرف إلى الآثار عن كثب، وإن نسبة كبيرة من زواره هي من طلاب المدارس خصوصاً، وأن إدارة المتحف قد خصصت لهم أسعاراً رمزية تشجيعية.

وأضافت أن هؤلاء الطلاب، من كل المستويات والصفوف، غالباً ما يأتون إلى المتحف بهدف إجراء زيارة استطلاعية يرافقهم فيها أساتذتهم أو مديرو مدارسهم. ومن الملاحظ أن معظم الطلاب زائري المتحف يأتون إليه ومن دون تحضير مسبق ومن دون هدف محدد يتعلق بحقبة محددة من حقبات التاريخ، ما يجعل زيارتهم التي قد تمتد إلى أكثر من ساعة ونصف، عبارة عن مشاهدات من هنا وهناك من دون أي ترابط بينها وحتى أنهم في غالب الأحيان يفقدون التركيز نظراً لوفرة المعروضات وتنوعها ما يعوق عملية إصغائهم إلى الأستاذ المرافق أو حتى إلى الدليل السياحي إذا ما توافر.

هذا ما يحصل خصوصاً مع التلاميذ في الصفوف الأولى من مرحلة التعليم الأساسي، إذ إنهم يعتبرون زيارة المتحف عبارة عن "رحلة استكشافية ترفيهية" فيحضرون معهم "الزوادة" بدلاً من القلم والدفتر لتدوين المعلومات الجديدة أو الأمور التي تثير فضولهم. هذا الأمر "مضحك ومؤسف على حد سواء". وتوضح حاكيميان "أن هذا الأمر لا ينطبق فقط على زيارة المتحف الوطني بل يتعداه إلى زيارة مختلف المتاحف والمواقع الأثرية".

وأوضحت السيدة حاكيميان أنه ولكي تكون الزيارة ناجحة ومثمرة، فمن الأفضل أن يتم إطلاع الطلاب إلى الهدف من الزيارة وما يمكن أن يشاهدوه فيها وذلك من خلال تعريفهم إلى أشكال القطع ومزاياها مسبقاً وبالتالي تأتي الزيارة لتؤكد هذه المعلومات وترسخها في ذهن الطلاب، كما أنه ينصح بحصر الزيارة بحقبة تاريخية واحدة أو اثنتين لكي يتمكّن الأستاذ من التعمّق في شرحهما. وأبدت حاكيميان قلقها من التباين بين زوار المتحف من اللبنانيين وخاصة الطلاب والتلاميذ منهم وبين زوار المتحف من السياح الأجانب. فاللبنانيون يزورون المتحف ''فيكتشفون ما فيه من آثار من خلال المعلومات المدونة تحتها" ويطالبون بتوفير دليل سياحي ''ليخبرهم'' عن هذه الأثريات. فهم يريدون أن "يعرفوا" كل شيء بأقصر مدة ممكنة.

أما السائح الأجنبي، فإنه يزور المتحف للتعرف عن كثب عما "قرأه" من معلومات و"شاهده" من صور عن القطع والتحف الأثرية، "ترونه يسير والدليل بين يديه، يطابق بين ما قرأه في الكتب وبين ما هو معروض".

وتمنت السيدة حاكيميان في نهاية حديثها أن يعطى موضوع الآثار والمتحف الوطني أهمية أكبر وذلك من خلال إدراج هذا الموضوع في المناهج ضمن محاور متخصصة بالآثار وكيفية المحافظة عليها.

المتحف الوطني
والآثار في المناهج اللبنانية

ورد موضوع الآثار اللبنانية في مواد التاريخ واللغات والتربية الوطنية والتنشئة المدنية. وقد تناول محور "القيم والتراث الثقافي الوطني" في منهج مادة التربية الوطنية والتنشئة المدنية للسنة الثامنة من مرحلة التعليم الأساسي، موضوع الآثار في درس "الآثار في لبنان" حيت أتى على ذكر دور المتحف الوطني في عملية الحفاظ على الآثار وعلى إبراز أهميتها.

عدد لا يحصى من الكتب والكتيبات والمجلات وحتى الأقراص المدمجة وصفحات ومواقع الإنترنت يمكن أن تطلعنا على معلومات عن تراثنا وآثارنا الوطنية. وإذا كان من المهم أن نعطي الطالب هذه المعلومات، فإن الأهم هو تربية الطلاب على وعي أهمية هذا التراث وكيفية المحافظة عليه من جهة والافتخار بتراثنا وتذوق غناه من جهة أخرى.

تاج عمود ذو رأسي ثور من رخام - صيدا )القرن الخامس ق.م.(  أبو الهول حجر كلسي - أم العابد القرن الثاني

 

مجموعة صور لآثار من حقبات مختلفة

         

  

كيف نقوم بزيارة ناجحة للمتحف الوطني؟

ثلاث مراحل تؤدي إلى استثمار ناجح لزيارة المتحف:
المرحلة الأولى: التحضير (ما قبل الزيارة)

  • قم بزيارة المتحف وحدّد الحقبة التي تتناسب مع ما تقوم بتدريسه.
  • حضّر حصة أو أكثر عن آثار الحقبة التاريخية المعينة وأطلع الطلاب على أهم ميزاتها وما يمكن مشاهدته خلال زيارة المتحف عن الموضوع.
  • قم بإبلاغ الأهل عن موعد الزيارة (من المستحسن أخذ موافقة خطية من الأهل).
  • حدّدِ تاريخ الزيارة وبلّغِ مسؤولي المتحف عنه وعن عدد الطلاب.
  • قسّم الطلاب إلى مجموعات صغيرة وقم بتحضير عدد من المهمات لكل مجموعة.

المرحلة الثانية: الزيارة (خلال الزيارة)

  • أكِّد على الطلاب ضرورة التقيّد بالقوانين والإرشادات المعمول بها في المتحف وخصوصاً بالنسبة إلى التصوير والصوت...
  • قم بمساندة الطلاب أثناء تنفيذهم المهام التي حددتها لهم سابقاً.
  • حدّدِ الوقت الأقصى للزيارة ومكان التجمع الأخير.

المرحلة الثالثة: تقييم الزيارة (بعد الزيارة)

  • اطلب من الطلاب تحضير ملخّص عن مشاهداتهم وانطباعاتهم.
  • حضِّر حصة لتركيز المعلومات التي تمّ تجميعها أو التعرف إليها خلال الزيارة.