ميشال شيحا مُلْهَمٌ في حالِ نِعمة
ميشال شيحا مُلْهَمٌ في حالِ نِعمة
موحِيَةٌ ''خواطرُه''، وطنيّتُه ''حضورٌ'' يتجاوزُ التخوم. إنسانٌ رمزٌ، مَجْمَعُ رجال.
لبنانُ شارل قرم جبلٌ مُلْهَم. لبنان ميشال شيحا دولةٌ حضارية. كلاهما قيمةٌ قائمة.
الأسلوب هو الرجل: بساطةٌ وعَفْوِيّة، لا تصنّع ولا تعجيز. سهولةٌ حتى الامتناع.
لفرطِ صفاءِ الروح، تقولُه في حالِ نعمةٍ دائمة. راسخُ ايمانٍ، موروثُه متعدّدُ الروافد، مضافًا إلى مواهبَ جمّةٍ صقلتها التجربة، فحوَّلَتِ الجدليةَ يقينًا.
قراءَتُه كَشْفٌ ثقافي، يشيلُ اللؤلؤَ منَ الغَوْرِ، ويضعُه في المتناوَل. خُلُقٌ وهّاج، جوّانيّةٌ طافيةٌ على المحيّا، متجلّيةٌ على الصحائف؛ نبلاً ورقيًّا
ملتزمٌ قضيةً، متنكّبٌ رسالةً، أداؤها أولويّته، لا حَرَجَ ولا خَشيَة.
ميشال شيحا كُلّيّ الانتماء، مُطْلَقُ الولاء. في الوطنيّةِ لا نسبيّةَ، وفي الإنسانية لا استنساب. إمّا أنك لبنانيّ،ٌ أولاً، قبل كل شيء وفوق أيّ شيء. أو أنّك خارجيّ.ٌ لكي تكونَ مِنْه يجب أن تكون له. الأصيلُ لا يحتاجُ تمويهَ نعوتٍ، ولا توريةَ ألفاظ. الرجالُ اكتمالٌ، الأنصافُ والأرباعُ ساقطةٌ منَ الحِسبان. في الهُوِيّةِ لا تسوية، لا عِداءَ مسبقًا ولا استعداء. اللبنانيّةُ تَسَعُ الشرقَ، تُقرّبُ أبعادَهُ القصيّةَ، تضفي على قَسوتِه سَيْماء الجماليّة، تستدعي الغرب، في يُسرِ جَوّال.
شاعرٌ يستشرفُ الرؤى، دَفْقَ أحساسيسَ، ونَضْحَ هنيهاتٍ مكوكبة.
كاتبٌ موضوعيّ النَهْج، بارعُ الأداء. أمينُ الخَبَرِ، دقيقُ المعلومةِ، عميقُ التحليل. فضيلةُ الصّحِافي أن يكون َقارئَ ذاتِه، وناقِدَها. "الحقيقةُ أن تُقال" المعرفةُ أن تُنْشر، تتكاثَرَ بنسبةِ ما توزّعُ. فيضُ النور لا يُنقصُ الشعاع. النورانيّ بطبيعتِه، لانهائيُّ الضوء. ثَمَّةَ المنيرُ والمُنار، المنبعُ والمصَبّ. ولن يوضعَ مصباحٌ تحت مكيال.
ميشال شيحا على قمّةِ الفكرِ السياسي، هادفٌ وهدّاف، له شهامةُ الموقف، صوابُ الطرحِ وشجاعةُ الجَهْر. هو النوعيّةُ المأثورةُ في الزمن الطيّب، الضائعةُ في عهودِ القِلّة.
رجلُ الدستور، انطلقَ من الحاليّةِ، استوحى التاريخَ، واستشرفَ المستقبل أبعادًا. إنّه أبو النَصّ التأسيسي ّللجمهوريةِ الأولى، والوحيدةِ، في شرق القَبلِيّة، رهينِ الرجعيّاتِ وتأبيدِ السلفيّات، المقموعِ بالتعسُّفِ والقهر..
منذ إحدى وعشرين سنة، عندما عَهِدَ اليّ مجلس الوزراء، صوغَ أحكام''وثيقةِ الوفاق الوطنيّ''، مشروعَ تعديلاتٍ دستورية، في خِضَمّ احداثٍ أمنيةٍّ قاتلة، وظروفِ حياةٍ مستحيلة، وحالاتِ تمرُّدٍ وانشقاق، إبّانَ احتلالاتٍ طاغية؛ يومذاك، تحت وابلٍ من قصفٍ وقنص، والأرضُ مضرّجةٌ بدمِ الشهداءِ والضحايا...انصرفتُ إلى أداءِ المهمّةِ الدقيقة، فوَجَدْتُني أستوحي ميشال شيحا ونخبةَ رفاقِه في إعداد الدستور(1926) لكي تبقى الجمهوريةُ في الخطّ الذي رسمَهُ آباؤها.
ولعلّ استذكارَ المؤسّسينَ الأعلام، الى تنشئةٍ مترهّبةٍ للمثُل، هي بعضُ ما جعلني أتشبّثَُ، حتى الاستماتة، بوضع نَصّ صريح في الدستور، يؤكّدُ التزامَ الإعلانِ العالميّ لحقوق إلانسان، الذي كان للفيلسوف شارل مالك فضلٌ اساسيّ في إخراجه. وسأظلُّ أُفاخِرُ بهذا الإنجاز من دونِ تبجّح، وقد أقرّه المجلس النيابي في هيئته العامة.
سمحتُ لنفسي بفتح هذين المزدوجين،إثباتًا للدور الذي كان لذكرى ميشال شيحا، بعد خمس وثلاثين سنة من وفاته، في الحفاظ على روح الجمهورية؛ وفي يقيني أنّ أيَّ لبنانيّ،ٍ في أيّ زمن ٍآتٍ، لا بدَّ أن يعودَ إلى فِكْر ميشال شيحا، كلّ مرّةٍ يُطرَحُ فيها الدستور للبحث.في مقدّمِةِ الطبعة الفرنسية الأصلية، الصادرة سنة 1984 لكتاب Visage et présence du Liban (المعرّب بديباجة خليل رامز سركيس، سنة 1962 تحت عنوان ''لبنان في شخصيته وحضوره'') أهدى ميشال أسمر، مؤسس ''الندوة اللبنانية'' التي مَهَرتْ عقودًا من القرن الماضي، مجموعةَ محاضرات ميشال شيحا على منبر الندوة، الى الرئيس شارل حلو. لذلك أودّ،ُ في نهاية هذه المداخلة، أن أُحيّي ذكرى العظماء الثلاثة، ميشال شيحا وشارل حلو وميشال أسمر، أرفعِ رموزِ الثقافةِ اللبنانية. ولئن كان ميشال أسمر قد بلغ في زمانِه أعلى درجات الاحتراف الثقافي، فإن ميشال شيحا وشارل حلو كانا رائدين فذّين للفكر الإنساني، ورمزين للثقافة في الصحافة والسياسة، ويكفي تذكّرُهما لمعرفة كم تبدّلت مقاييسُ القِيَم، وكم يبدو لبنان في أمسّ حاجةٍ إلى هذه النوعيّة من رجال الدولة.
لقد كان من حظّيِ، في حداثتي، أن ألقى ميشال شيحا، زميلَ أبي في الصحافة، وابنَ جيلِه، على اختلافِ لغةِ التعبير بين Le Jour و''الحديث'' بين ثم ''الروّاد''، ولكنّني لم أنعمْ بمعرفته إلاّ بعد قراءته؛ كما أُتيح لي أن أُعايش الرئيس الموسوعة شارل حلو، وأنهلَ من مَعينِه المعرفيّ والمناقبيّ.