تعليم اللّغة العربية في لبنان من الواقع المأزوم إلى النهضة المأمولة
ارتفعت الضجّة في الصيف الماضي بعد صدور نتائج الامتحانات الرسميّة للشهادتين المتوسطة والثانوية بفروعها كافّة، حول تدنّي مستوى التلامذة اللبنانيّين في اللّغة العربيّة، وبدأت الآراء والردود تتوالى في التعليق على هذه الظاهرة تفسيرًا وتعليلًا وإدانة، ُثمّ ما لبثت هذه الضجّة أن خمدت مفسحة في المجال، ربّما، لضجّة أقوى او أكثر إيلامًا، في يوميّاتنا المليئة بالمفآجات المفرحة والمحزنة في الوقت عينه. وقد وصل الأمر ببعضهم إلى القول أنّ لبنان رسب في اللّغة العربيّة، هادفين من وراء ذلك إثارة الهمم عند جميع اللبنانيّين للعودة إلى الحفاظ على اللّغة العربيّة، والإقبال على تعليمها وتعلّمَها بما يعيدها إلى المستوى الذي كانت تتبوّأه منذ سنوات مضت.
غير أنّ التفكير في موضوع نجاح لبنان أو رسوبه في اللّغة العربيّة في الامتحانات الرسميّة، بعد أن هدأت الضجّة الإعلاميّة المثارة حوله، يدفعنا الى دراسة متعمّقة لواقع تعليم اللّغة العربيّة في لبنان، ليس في سنوات الشهادات النهائيّة، إنّما في كل السنوات التعليميّة منذ دخول المتعلّمين إلى رياض الأطفال حتى نهاية المرحلة الثانويّة بفروعها كافّة. والحقيقة أنّ دراستنا لهذا الواقع سمحت لنا بتشخيصه بالواقع المأزوم الذّي نرغب في الخروج منه، عن طريق إحداث نهضة مأمولة نحاول رسم مستلزماتها، بعد اكتشاف الملامح التي تدلّنا على أزمة الواقع التربوي التعليمي للّغة العربيّة.
ملامح الواقع المأزوم:
انطلق تشخيصنا لواقع تعليم اللّغة العربيّة من مشاهداتنا الحيّة في المدارس الرسميّة والخاصّة على حدٍّ سواء، ومن تواصلنا المستمر مع طلاّبنا ومع خرّيجينا الّذين يقومون بتعليم اللّغة العربيّة في المراحل التعليميّة كافّة وفي المدارس الرسميّة والخاصّة، وقد بيّن لنا هذا التشخيص أنّ ملامح هذا الواقع المأزوم هي الآتية:
1 – لغة تعليم اللّغة العربيّة في المدارس.( العامية والفصيحة)
2 – متعلّمون لا يحبّون اللّغة العربيّة.
3 – إدارة تربويّة تعليميّة لامبالية.
4 – أهل غير معنيّين بأمر اللّغة العربيّة.
5 – الموقف من المطالعة.
6 – الكتاب المدرسيّ : شؤون وشجون.
7 – نظرة المعلّمين والأساتذة إلى مفهوم إتقان اللّغة العربيّة.
وسنعمد في هذه الدراسة إلى تفصيلها ملمحًا ملمحًا محاولين الاعتماد على الوقائع العلميّة المدروسة في تبيان رأينا وفي تسويغه.
- لغة تعليم اللّغة العربيّة في المدارس:( العامية والفصيحة). يُفاجأ بعضهم حين يسمع أنّ لغة تعليم اللّغة العربيّة الفصحى في المدارس الرسميّة والخاصّة على وجه العموم هي اللّغة العربيّة العاميّة اللبنانيّة؛ فقد بيّنت لنا دراسة أجريناها في أوائل التسعينيّات من القرن الفائت ،(صيّاح، 1991) أنّ المعلّمين يستخدمون اللّغة العربيّة العاميّة اللبنانيّة بنسبة تزيد على الخمسين بالمئة في تعليم اللّغة العربيّة، مفضّلين استعمالها في التشافه الصفّي ومقتصرين على اللّغة العربيّة الفصحى في المستوى المكتوب فقط، وكأنّي بهم يميّزون في الاستعمال اللّغويّ لغة شفهيّة مختلفة من اللّغة المكتوبة.
- متعلّمون لا يحبّون اللّغة العربيّة: ما هو موقف المتعلّمين من تعلّم اللّغة العربيّة في مدارسنا؟
في دراسة لإعداد شهادة المستر البحثي في كلّيّة التربية للعام الجامعي 2013 – 2014، وهي قيد المناقشة، قامت الطالبة ندى شاتيلا بإعداد استمارة طرحت فيها بعض الأسئلة على الطلاّب في الصف الأوّل الثانويّ في ثانويّة جميل الروّاس الرسميّة، مستكشفة مواقفهم من اللّغة العربيّة فتبيّن لها أنّ :
- 70% منهم يعتبرون أنّ اللّغة العربيّة لا تحظى باهتمام الأهل والمجتمع، وأنّ 60% منهم يعتبرون أنّ اللّغة العربيّة هي لغة عديمة الفائدة في عصر التكنولوجيا، وأنّ 80% منهم يعزون أسباب عدم تعلّمهم التعبير الشفهيّ والكتابيّ إلى نظرة الأهل إلى اللّغة العربيّة وعدم افتخارهم بها.
- إدارة تربويّة تعليميّة لامبالية: تُعامِل الإدارة التربويّة التعليميّة المركزيّة اللّغة العربيّة في الامتحانات الرسميّة معاملة تدلّ على قلّة الاهتمام، إذ تميّزها قليلاً من اللّغات الأجنبيّة في التثقيل، في حين تغيب العلامة اللاغية في اللّغة العربيّة، كشرط من شروط النجاح في الامتحانات الرسميّة. فيكفي ان ينال طالب من الطلاّب علامة واحدة من أربعين أو من خمسين كي ينجح إذا ما أمّن العلامات المطلوبة من خلال المواد الأخرى في أيّ امتحان. إضافة إلى أنّ علامة اللّغة العربيّة تشكّل 8،59% من مجموع علامات البكالوريا، في فرعي العلوم العامّة وعلوم الحياة، وتصل في البكالوريا الفرنسيّة إلى 10،25% في فرع العلوم العامّة و10،59% في فرع علوم الحياة، و12% من مجموع علامات فرع الاقتصاد والاجتماع.
- أهل غير معنيين بأمر اللّغة العربيّة: لا يعير الأهل ، على وجه العموم، اللّغة العربيّة ايّ اهتمام، فهي في نظرهم، ليست لغة العلوم ولا لغة الرياضيّات، وقد ظهر ذلك في رسالة ندى شاتيلا حين أجاب أهل طلاّب الصف الأوّل الثّانوي على الاستمارة التي دارت حول استكشاف مواقفهم من اللّغة العربيّة، إذ اعتبر90% منهم أنّ تعلّم اللّغة العربيّة هو من دون فائدة في المجتمع،كما يعتبر 60% منهم أنّ اللّغة العربيّة بعيدة عن إهتمامات العصر والتكنولوجيا. ولا يخفى على بصير أنّ رأي الطلاّب مأخوذ من رأي أهلهم خصوصًا عندما يدعو الأمر إلى التراخي وعدم بذل الجهد.
- الموقف من المطالعة : من يراقب مواقف المعلّمين والمتعلّمين من المطالعة، يدرك، بوضوحٍ لا لبس فيه، أنّ المطالعة هي النشاط الّذي يحظى بالاهتمام الأقلّ من المعلّمين والمتعلّمين على حدٍّ سواء؛ فالمتعلّمون لا يطالعون وذلك لأنّ تعليم المعلّمين للّغة العربيّة لا يقوم على استثمار المطالعة في التعلّم؛ والمناهج اللبنانيّة الصادرة في العام 1997 تعبّر أفضل تعبير عن هذا التوجّه عندما تطالب المتعلّم أن يقرأ كتابَي مطالعة فقط في كلّ سنة من سنوات الحلقة الثالثة من التعليم الأساسيّ وإعداد بيان مطالعة لكلٍّ منهما. فهل يكفيان لترسّخ المتعلّم في المطالعة؟
- الكتاب المدرسيّ: شؤون وشجون. تفتقر الكتب المدرسيّة الصادرة في لبنان الى الأسس العلميّة الضروريّة للكتاب المدرسي الفعّال، إن لناحية المعايير اللّغويّة أو لناحية ربط التعليم بالحياة،أو لناحية الأنشطة التعليميّة، أو لناحية تحفيز المتعلّمين على الإقبال على تعلّم اللّغة العربيّة، لغة حياة ولغة حضارة. وخيارات المدارس الخاصّة في اختيار الكتب تنطلق من اعتبارات غير علميّة في غالب الأحيان، والدليل على ذلك أنّ افضل وأحدث سلسلة لتعليم اللّغة العربيّة لتمتّعها بمواصفات علميّة عالية، لا تحظى إلا بـ5% من سوق الكتاب المدرسيّ الخاصّ في لبنان كما ظهر في أطروحة أعدّتها إحدى الطالبات في المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، وهي قيد المناقشة.
وبما أنه لا يجوز أن يقف الكتاب حين أن اللّغة تتحرّك من حوله، والمفاهيم التربويّة في صيرورة متجدّدة، فقد بدأ المركز التربوي للبحوث والإنماء بتطوير مناهج الحلقة الأولى من التعليم الأساسي، وتأليف كتب السنتين الأولى والثانية. وقد تمّ تجريب هذه الكتب في عيّنات من المدارس ويقوم المركز حاليًا بجمع الملاحظات القيّمة وتعديل الكتب على أساسها.
- نظرة المعلّمين والأساتذة إلى مفهوم إتقان اللّغة العربيّة: إن ملاحظاتنا على سلوكيّات معلّمي وأساتذة اللّغة العربيّة يشير بما لا يقبل الشكّ أنّه تسود عندهم نظرة متراخية إلى مفهوم إتقان اللّغة العربيّة، فيغيب عن التصحيح المدرسيّ والرسميّ، في الشهادات الرسميّة ، وفي سائر السنوات، الالتزام بمفهوم الإتقان اللّغويّ المتمثّل بالحفاظ على مستوى لغويّ متقن في التعبير الكتابيّ، على اعتبار أنّنا لا نهتم بالتعبير الشفهيّ لا في المدرسة ولا في الامتحان الرسميّ، كما لا نهتم بالتعبير المكتوب ممّا يجعل المتعلّمين يتراخون في إتقان اللّغة بمستوييها الشفهيّ والكتابي.
بعد كلّ هذه الملامح المقلقة هل يمكننا اعتبار الوضع التعليميّ للّغة العربيّة غير مأزوم؟ وكيف السبيل إلى الخروج من هذا الواقع المأزوم إلى النهضة المأمولة؟
إنّنا نعتبر أنّ للنهضة المأمولة مستلزمات عديدة نقتصر على إيراد الآتي منها:
1 – إعداد المعلّمين والأساتذة وتدريبهم.
2 – دَور المطالعة.
3 – الفصحى لغة التعليم.
4 – الموقف من اللّغة العربيّة في الامتحانات الرسميّة.
5 – تطبيق معايير الحدّ الأدنى للكتاب المدرسيّ.
6 – العمل على تغيير نظرة الأهل إلى اللّغة العربية.
7 – مصالحة العاميّة والفصحى.
1 – إعداد المعلّمين والأساتذة وتدريبهم: لا تغيير من دون معلّمين أكفّاء، ولا تكون البداية سوى في إعداد معلّمين وأساتذة متمكّنين من اللّغة العربيّة لتعليمها ولتعليم كل المواد التي تدرّس باللّغة العربيّة باستعمال لغة عربيّة فصحى ذات مستوى جيّد. ولا يكون ذلك إلاّ بإخضاع كل من يرغب في أن يعدّ لمهنة التعليم لامتحانيّ جدارة باللّغة العربيّة، الأوّل منهما يكون قبل مرحلة الإعداد، والثاني قبل الدخول إلى مهنة التعليم.
2 – دَور المطالعة: لا يمكن إتقان اللّغة العربية إلاّ إذا ترسّخ المتعلّم في المطالعة، لذلك علينا اعتماد المطالعة كنشاطٍ أساسيّ من أنشطة تعليم اللّغة العربيّة بما لا يقل عن ثلث الوقت المخصّص لتعليمها، مع ما يستلزمه ذلك من تغيير للكتب المدرسيّة، ومن تغيير لطريقة تعاطي المعلّمين والأساتذة مع هذا النشاط الّذي يجب أن يحتلّ المكانة التي يستحقّها بين سائر أنشطة تعليم اللّغة العربيّة في المراحل التعليميّة كافّة من رياض الأطفال حيث نقرأ للأطفال إلى نهاية المرحلة الثانويّة مرورًا بالتعليم الأساسيّ حيث يتمّ التعلّم بالمطالعة.
3 – الفصحى لغة التعليم: من الضرورة بمكان تأكيد الالتزام باعتماد اللّغة العربيّة الفصحى المبسّطة وحدها في تعليم اللّغة العربيّة، وفي تعليم سائر الموادّ التي تعلّم باللّغة العربيّة كالاجتماعيّات والعلوم والرياضيّات، ولا يكون اللجوء إلى اللّغة العربيّة العاميّة اللبنانيّة إلاّ إذا تعذّر على المتعلّمين الفهم ، فيكون استعمال العاميّة لمساعدة المتعلّم على فهم الفصحى وإتقانها.
4 – الموقف من اللّغة العربيّة في الامتحانات الرسميّة: لا يمكن إعطاء قيمة للّغة العربيّة في الامتحانات المدرسيّة والرسميّة على حدٍّ سواء إذا لم تغيّر الإدارة التربويّة المركزيّة الرسميّة نظرتها من مفهوم إتقان اللّغة العربيّة، وإذا لم تدخل علامة لاغية على مسابقة اللّغة العربيّة في كلّ الشهادات، كما هو معمول به في بلدان عربيّة أخرى.
5 – تطبيق معايير الحدّ الأدنى للكتاب المدرسيّ: لا يمكن النهوض باللّغة العربيّة في لبنان وفي أيّ بلدٍ عربيّ آخر إذا لم تفرض معايير علميّة لوضع الكتب المدرسيّة هي معايير الحدّ الأدنى، ومساعدة دور النشر ومؤلّفيّ الكتب على الالتزام بهذه المعايير، وعدم الترخيص لأيّ سلسلة لا تلتزم بالحدّ الأدنى من هذه المعايير العلميّة. كما نقترح في هذا الباب ربط رخصة النشر التي يسمح بها المركز التربويّ للبحوث والإنماء بتوافر شروط علميّة في السلسلة وعدم الاقتصار على المعايير الوطنيّة فقط في الرخصة الممنوحة.
6 – العمل على تغيير نظرة الأهل إلى اللّغة العربيّة: اللّغة العربيّة هي لغتنا الوطنيّة، إنّها حاملة تراثنا وثقافتنا، لذلك علي الأهل العودة عن موقف عدم التقدير الّذي يلصقونه باللّغَة العربيّة،لأنّ ذلك لا يتنافى مع تقدير اللّغات العلميّة الرائجة في العالم مع التأكيد على أنّ هذه اللّغات لا تحلّ محلّ اللّغة العربيّة، اللّغة الأمّ للناطقين بها. أضف إلى ذلك أنّ اللّغة هي رمز لهوّينتا التي تتجلّى فيها من خلال استعمالاتها الغنيّة التي تتجسّد في الشّعر والغناء والمسرح وفي سائر مواقع الحياة اليوميّة المفرحة والمحزنة.
7 – مصالحة العامّيّة والفصحى: إنّ استمرار الصراع في أذهان بعضهم بين الفصحى والعاميّة لن يفيد في إتقان اللّغة العربيّة الفصحى، والموقف العلميّ والواقعيّ يقوم في نظرنا على مصالحة الفصحى والعاميّة عن طريق استثمار الأنشطة الثقافيّة باللّغة العاميّة كالزجل والفولكلور والأغاني والمسرح وإدخالها في المناهج كأنشطة تثقيفيّة شفهيّة انطلاقًا من المبدا اللّغويّ القائل إنّ النشاط اللغويّ للإنسان تيّارٌ لغويّ متواصل من اللّغة الشفهيّة إلى اللّغة المكتوبة، ولا غنى لكلٍّ منهما عن الآخر، كما لا غنى لكلٍّ منّا عن اللّغة الشفهيّة ولا عن اللّغة المكتوبة شرط الرقيّ بكلٍّ منهما إلى مستويات الجودة والإتقان والإبداع.
إنّها مستلزمات نهضة مأمولة لن تأتي إلاّ إذا عملنا لها جميعًا، معلّمين وأساتذة وإدارة تربويّة، محلّيّة ومركزيّة، وأهل ومؤسّسات اجتماعيّة، للحفاظ على لغتنا وتراثنا وهوّيتنا من الاندثار في زمن العولمة الذي تصارع فيه لغات العالم أجمع للبقاء أمام اللّغة المعولمة المتفوّقة علميًّا محاولة بذلك فرض تفوّقها اللّغويّ.
_________________________________________
المراجع والمصادر:
1 – تطوير مناهج اللّغة العربيّة في لبنان،(2001). بيروت، النادي الثقافي العربيّ.
2 – حول تجديد تعليم اللّغة العربيّة وآدابها في المناهج التعليميّة الجديدة في لبنان، (2002). بيروت، جمعيّة المقاصد الخيريّة الإسلاميّة.
3 - في مناهج اللّغة العربيّة: بعض الملاحظات، في تعلّميّة اللّغة العربيّة في المرحلة الإبتدائيّة. بيروت، دار النهضة العربيّة. صيّاح أ. (2014).
4 –المنهاج التعلّمي والتدريس الفاعل. عمّان ، دار الشروق. الفتلاويّ س.م.ك. (2007).
5–بيروت، المركز التربويّ للبحوث والإنماء، مطبعة صادر. مناهج التعليم العام وأهدافها. (1997).