المسرح في المدرسة: في قلب التربية والتعليم !
المسرح في المدرسة : في قلب التربية والتعليم !
منذ ثماني سنوات بدأت تدريس مادة المسرح وكنت لم أزل طالباً في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانيّة، كنت عندها مؤمناً بديناميّة المسرح وفعاليّته ضمن الإطار المدرسي، على الأقل في وجه المسرح الفني على صعيد إنتاج عروض مسرحيّة مع الطلاب وتنمية الذوق الفني والطاقات.... ولكن الإختبار وضعني في مشهد مختلف منذ الحصّة الأولى.وجدت نفسي أكثر من مجرّد أستاذ "ساعة مسرح يتيمة" في الأسبوع، وجدت حولي تلاميذ أتوا إلى الحصّة مع مشاعرهم وخيالهم وأجسادهم وخوفهم ولهَوهم وأحلامهم و"شيطنتهم" وأصبحوا "مادة" الحصّة وأصبحت معهم أقرب إلى "المربّي والمعلّم" من الأستاذ وبدأت المسؤوليّة الكبرى تقول لي:" إنتبه! أنت تمتلك سحر المسرح فاستخدمه في تنمية هؤلاء الصغار حسّاً وجسداً ومعرفة!".
لن أدّعي الطوباويّة وأصرّح أنني نجحت دائماً في عيش هذه المقاربة للمسرح في المدرسة لكنني على الأقلّ أدركت مدى قوّة وقدرة المسرح في التربية وأبعد – إذا ما تأمّن الإطار المناسب له.
مادّة المسرح في المدرسة: "إختبار الحياة"
إن "سحر" مادة المسرح في المدرسة – كحصّة مستقلّة – يعمل على مستويات عدّة تتلخّص أوّلاً في "إختبار الحياة" وفي تنمية قدرات المتعلّم الحسيّة والذهنيّة والجسديّة، فتظهر الفاعليّة والنتائج في نقاط عدّة:
1. تعزيز الثقة بالنفس وتعلّم القيام بالمبادرة.
2. الإنفتاح على الحياة والآخر.
3. تعزيزالتواصل الشفهي والحسّي والجسدي.
4. تشجيع واستثارة الخلق والإبداع.
5. تغذية الخيال.
6. إنضاج الحس الإنساني من خلال الإستماع للآخر والتفاعل معه.
7. إختبار الفعل وردود الفعل المناسبة.
8. تقوية التركيز والملاحظة.
9. تنمية الذوق الفني والحس النقدي.
10. إكتساب ثقافة فنيّة.
11. إبراز مواهب فنيّة (قد تُستَثمر فيما بعد في تخصّص فني وأعمال فنيّة).
من "الخشبة" إلى التربية: التعلّم عبر المسرح
أشرنا إلى أهميّة المسرح كمادة مستقلّة ضمن المنهج التعليمي، لكن المسرح يستطيع الذهاب أبعد من خشبة المسرح (أي حصص مادة المسرح) ليلعب دوراً بارزاً في مجمل عمليّة التعليم والتربية في الصف ومن خلال كافة مواد المنهج التعليمي وهذا ما يُعرف باستخدام المسرح في التعليم أو التعلّم عبر المسرح أو بمصطلحات أخرى لمناهج وأساليب تتقاطع في النقطة ذاتها:
مَسرحة المناهج Dramatisation / الدراما في التربية /....
- Learning Through Drama
- Teaching through Drama
- Drama in Education
لن ندخل هنا في تشريح لهذه النظريات والمناهج بل سنكتفي بالإضاءة على خطوطها الرئيسيّة وذلك عبر سؤال رئيس:
"لماذا إستخدام المسرح أو الدراما في التعليم والتربية؟"
1. المسرح يخلق لنا عالماً وإطاراً بمجرّد التخيّل "فلنتخيّل أننا الآن في المستشفى!..."
2. المسرح يتيح لنا أن نعيش الأفعال والمواقف الآن أي في اللحظة الآنيّة وبالتالي المسرح يتيح للمواقف أن تحدث من جديد (بشكل شبيه بالحقيقة).
3. المسرح يتيح لنا أن نعيش شخصيات ونجسّدها كأدوار (Rôles) وبالتالي كجسد وصوت ومشاعر وأفكار "حقيقيّة" وملموسة.
4. المسرح مرتبط بمفهوم اللعب الذي يشكّل عند الطفل خاصّةً وسيلة لإكتشاف الذات والآخر والحياة، واللعب وسيلة تعلّم حيويّة "بدون ضجر" Jeux Dramatiques
5. المسرح يتيح لنا الإرتجال Improvisation، إرتجال المواقف والأفعال وهذا يغذّي عند المتعلّم سرعة البديهة والحضور والخيال.
6. المسرح حَيويّ وديناميّ بجوهره إذ يخلق جواً تفاعلياً بين المعلم والمتعلّمين وبين المتعلّمين أنفسهم كلمة "دراما" تأتي من اللغة اليونانيّة وتعني "الفعل" Action والفعل أقوى من الكلمة!
نحو جيل يعيش التواصل الحضاري
من الضروري تفعيل المسرح في المدرسة الرسمية – والمركز التربوي للبحوث والإنماء وضع دليلاً تربوياً لمادة المسرح - تفعيل المسرح كمادة متكاملة من ناحية وكمنهج تربوي ووسيلة تعليميّة من ناحية أخرى. المسرح يساهم بالتأكيد في تربية جيل منفتح، واثق وخلاّق، والأهمّ جيل يعيش التواصل الإنساني الحضاري.
تجربة التدريب المستمرّ: دورات المسرح
في إنتظار تكريس المسرح مادة ضمن المنهج التعليمي نستطيع إدخال النشاط المسرحي إلى المدرسة الرسميّة مع المعلّمين المهتميّن بالشأن الفني كما يستطيع المعلّمون إستعمال بعض تقنيات المسرح كوسائل تعليميّة وتربويّة مُساعِدة تحت عنوان "التعلّم عبر المسرح".
إنطلاقاً من المقاربة التربويّة للمسرح، ومن ضمن مشروع التّدريب المستمرّ في مركز الموارد جونيه بدأتُ دوراتي منذ 2006/2005 وأولها "المسرح في المدرسة: بين الخشبة والصف!".
هذه الدورة تسير في تصميمها بشكل متوازٍ نحو هدفين: الأول هو كيفية إعداد عمل مسرحي متكامل ضمن الاطر المدرسية والثاني هو كيفية استخدام بعض الاشكال والتقنيات المسرحية في مقاربة مواضيع من المنهج (وهذا ما يُعرف بمَسرَحة المناهج):
إعداد العمل المسرحي تربويًا
إن مسرحة المناهج واي استعمال للاشكال المسرحية كوسيلة تربوية وتعليمية يستوجب في المبدأ فهم للفن المسرحي وعناصره، من هنا يتتخلل هذه الدورة تقييم وتحليل لعروض مسرحية، تحديد وتفصيل لعناصر العرض المسرحي (النص، الممثل،السينوغرافيا،الجمهور والاخراج المسرحي) ومراحل العرض المسرحي.
- تقييم العروض المسرحية وتحليلها: يتم عبر مشاهدة مقتطفات مسرحية عبر الفيديو معظمها من اعمال مسرحية طلابية ضمن الاطر المدرسية.هنا نقترب من "دراسة الحالة" التي تبدأ بتقييم فردي حرّ يعتمد على مشاهدة المتدرب وما قد يملك من ثقافة فنية معينة، ثم يأتي التقييم المحكّي الذي يعتمد على معايير محددة وهي عناصر العرض المسرحي.
- عناصر العرض المسرحي: من المهم لمن يريد استخدام المسرح كأداة تربوية او لغاية فنية ان يفهم تكوين الفعل المسرحي بشكل خاص والعرض المسرحي بشكل عام.
النص: النص الدرامي، النص المقتبس، نص الابداع الجماعي، سيناريو الارتجال.. والنص غير المنطوق كالتعبير الجسماني والايماء.
الممثل: ركيزة اي عرض او فعل مسرحي وهو يؤدي بصوته وجسده وتعابيره واحساسه وحركته، وهنا نتكلم عن الشخصية المسرحية والاداء ومؤشرات الاداء من الشعور والتمكن من الحركة واللفظ وغيرها...
السينوغرافيا: هي تشكيل فضاء العرض والصورة المشهدية وهي تشمل العمارة المسرحية،البناء الحركي، الديكور، الاضاءة، الصوت، الاكسسوار، الملابس والماكياج.
الجمهور: مُكمّل فعل المسرح حيث يحدث اللقاء الحي بين الممثلين والمشاهد (مع اي نشاط مسرحي في الصف يتحول قسم من التلاميذ الى ممثلين وقسم الى جمهور)
الاخراج: هو تنظيم مجمل مكونات العرض وتقديم رؤية فنية متكاملة (يلعب فيها مدرب المدرسة دور المخرج من حيث يدري او لا يدري!)
- مراحل تحضير العرض المسرحي: لا ننسى اننا نقوم بالنشاط المسرحي ضمن اطار المدرسة مما يستدعي منهجية عمل ملائمة تمكننا من الوصول ال عرض مسرحي متكامل انطلاقا من اختيار النص الى توزيع الادوار الى التمارين الى توزيع المسؤوليات الى الاهنمام بالسينوغرافيا الى الفريق التقني...
مسرحة المناهج
أما "المسرحة" فتتم مقاربتها عبر تمارين وتقنيات مسرحية متنوعة تحديداً عبر الارتجال ، التعبير الجسماني ، لعب الادوار، الالعاب التمثيلية .
هذه التمارين والتقنيات المسرحية تعمل على عدة مستويات : استثارة الخيال والخلق، تعزيز التواصل الشفهي والحسي والجسدي، تقوية التركيز، تعزيز الثقة بالنفس...
- الارتجال improvisation : تقنية مسرحية مهمة تقوم على مبدأ اساسي وهو اداء فعل ما دون تحضير مسبق، وقد ينطلق من فكرة او حادثة او شخصية او مكان...
- التعبير الجسماني expression corporelle: شكل مسرحي يعتمد على التعبير باستعمال الحركة والوضعيات الجسدية بدون الاستعانة بالكلمة المنطوقة والحوارات.
- لعب الادوار jeu de roles : تقنية مسرحية تعتمد على وضع التلميذ في اطار شخصية محددة ينطلق منها في افعاله وردات الافعال.
- الالعاب التمثيلية jeux dramatiques : مجموعة كبيرة ومتنوعة من الالعاب التي تعتمد على عناصر المسرح والتمثيل خاصة عند الصغار.
ان اكثر ما يميز هذه الدورات الاعتماد المباشر على نصوص ومواد من المنهج التعليمي ومسرحتها ضمن ورش عمل بين المعلمين المتدربين وصولاً الى انتاج نماذج لانشطة مسرحية صفية أو عروض مسرحية.
ان دورة مسرح واحدة غير كافية لتقديم اعداد كامل للمتدرب/المعلم بحيث يصبح خبيرا بالنشاط المسرحي التربوي لكنها – وكما اقولها للمتدربين دائما- تقدّم لهم مفاتيح اساسية تمكنهم من الاقتراب من هذا العالم بشيء من المعرفة والاهم بشيء من الاختبار الحسي الملموس الذي يختبره المتدرب، اذ ان دورات المسرح هي دورات تطبيقية عملانية وليست نظرية وهي قابلة للتطبيق ضمن الاطر المدرسية.
المتدربون ودورات السرح:
ان دورات المسرح التي نفذتها على مدى ثلاث سنوات ضمن مشروع التدريب المستمر والتي توزعت بين دار المعلمين جونية وبين منطقة عاليه تأثرت ايجابا وسلبا بعدة عوامل اهمها:
ان قسم من المتدربين يختار الدورات وفق ما قد يتناسب مع توزيع وقته او مع رغبة ادارة المدرسة او غيرها من الاسباب.. وليس رغبة بموضوع الدورة نفسها واكتساب معارف جديدة وهذا ما يؤثر سلبا على اداء الدورة العام. ومع هذا فان خصوصية وفرادة دورات المسرح تجعلها تخلق جواً حيويا تفاعليا وايجابيا واني مؤمن بان "من المهم كيف يأتي المتدرب الى الدورة ولكن الاهم بكثيركيف يخرج منها!"
من ناحية اخرى، يشكّل تنوع اختصاصات المتدربين غِنى للعمل بحيث تلتقي العلوم بالآداب والاجتماعيات بالفنون.. لذلك فأن "مَسرحة الناهج" واستخدام الانشطة المسرحية في التعّلم قادرة على خدمة كل الاختصاصات ولو بنسب متفاوتة.
متابعة الدورات:
تأخذ متابعة دورات المسرح أهمية كبرى اذ يجتمع المتدربون في يوم متابعة بعد حوالى ثلاثة اشهر من ورشة التدريب وذلك في جلسة تقييم لما تم اعتماده او اختباره ضمن المدرسة والصف.
يقدّم المتدربون عرضاً شفهياً او حيّا او مصوّرا حول المشاريع التي نفذوها مع التلاميذ ان لناحية النشاطات المسرحية التربوية او النشاطات الفنية.
لقد انتج بعض المتدربين نشاطات فنية مسرحية وانشطة صفية كانت نتاجاً لورشات التدريب وهذا ما يؤكد ان استخدام المسرح في المدرسة الرسمية عملية ممكنة وقابلة للحياة.
في الخلاصة وقبل بداية جديدة..
ان مشروع التدريب المستمر كمشروع "حاجة" وليس مشروع "رفاهية" يؤكد اهميته رغم ثغرات في التجربة هنا او هناك.
كما ان دعم المسرح بشقيه الفني والتربوي "حاجة" في المدرسة الرسمية في وقت يحتل المسرح مكاناً مهماً في المناهج التربوية العالمية المتقدمة ليستحق فعلا ان يكون في قلب التربية والتعليم!