التّدريب المستمرّ لأفراد الهيئة التعليمية: الواقع والمرتجى
التّدريب المستمرّ لأفراد الهيئة التعليمية: الواقع والمرتجى
لا يختلف اثنان على أنّ التّدريب المستمرّ للعاملين في شتى الحقول شرط أساسي من شروط النجاح في العمل والتقدم فيه، على قاعدة أن ما يتراءى لنا أنه كاف اليوم، ليس كذلك غداً، في ظل التنامي المضطرد للمعارف الإنسانية كافة، وتراكم الخبرات والتجارب، وتحت وطأة توسع الحاجات بمفاصلها وتفصيلاتها، بحيث إنّ اللحاق بركب التطّور يكاد يصبح لهاثاً، لشدّة ما يعانيه العاملون من جرّاء محاولاتهم تعميق المفاهيم العلمية والعملية المتصلة بشؤون أدائهم لأعمالهم من جهة، ومواكبة التطورات المتسارعة في هذا النطاق، ليكونوا على دراية بما يجري حولهم وأمامهم من جهة ثانية؛ هذا إذا أرادوا أن يحققوا الأهداف الموضوعة لمهماتهم بنجاح وتمّيز. وإذا كان هذا الأمر مطلوباً بصورة عامة، فإنّهيصبح أكثر إلحاحاً في مضمار التربية، حيث تتقدّم الأولويات المتصلة بها، على سائر الخطط والأهداف العامة الأخرى، لأن ما يبنى على أساس التربية يقوى عوده، وتنتصب قامته، في مواجهة الصعاب والأعاصير؛ ذلك أن المهم في البناء ليس فقط المستوى الأفقي، بل أيضاً وهذا هو الأهم، المستوى العمودي، مصداقاً لقول أحد المفكرين التربويين: ''ليس المهم فقط بناء كل إنسان، بل بناء كل الإنسان''.
من هنا يتخذ التّدريب المستمرّ لأفراد الهيئة التعليمية بعده المطلوب، في نطاق العمل على تحقيق جودة التعليم، وإن كان تحقيق هذه الغاية لا يتم فقط من هذه الطريق، بل بتوافر معطيات أخرى ترفد عمل المعلم بأسباب النجاح المرجوّ. وسنعرض في ما يأتي للتحدّيات التي يواجهها المعلمون في أعمالهم، ودور التّدريب المستمرّ في ذلك واقعاً ومرتجى.
مناهج التعليم الجديدة
فرض تطبيق المناهج الجديدة للتعليم، اعتباراً من العام ١٩٩٧ تحدّيات كبيرة على أفراد الهيئة التعليمية الخارجين لتوّهم من حرب دامت خمس عشرة سنة، طاولت نتائجها المدّمرة البشر والحجر على حدّ سواء. وها هم إزاء نظام تربوي جديد يطرح مناهج جديدة للتعليم، بأهدافها ومضامينها وطرائقها وأنشطتها، تتطلب مهارات عالية ومعارف مستجدّة، وتقف في خلفيتها أهداف عامة كثيرة تستبطن أجوبةً عن أسئلة كبيرة، من أهمها: أي مواطن نريد أن نبني؟
إنها مواجهة غير متكافئة، بين معلّم يشكو من جمود المنهج التعليمي لمدة تزيد على ثلاثين سنة (التعديل الأخير كان في العام ١٩٦٨)، معطوفاً عليه ما فعلته الحرب في البنية التربوية بكلّ مكوّناتها المادّية والفنّية والبشرية...، ومعلّم يقف إزاء منهج جديد، بأبعاده ومحتواه ونظام تقييمه... هو المعلّم نفسه بين الواقع والمرتجى، وبين القديم والجديد، لا يملك من أسلحة المواجهة إلاّ الإرادة والحيوية والقدرة على التكيّف، على قاعدة الإيمان بالدور المنوط به في عملية النهوض التربوي وبناء لبنان الجديد.
إنّ أعظم المناهج وأكثرها تقدماً واستشرافاً لآفاق المستقبل هي مجرّد بذور تكمن فيها معطيات النمو، ولا تخرج منها حياة جديدة، إن لم تعهد إلى المعلم الكفوء الذي يحسن رعايتها وتنميتها بالشكل المطلوب. وهذا يعني أن كل ما تفعله ورش العمل والاجتماعات وعصف الأفكار وشحذ الهمم وإعمال العقول والاستفادة من تجارب الآخرين، يصبح وديعة لدى هذا المعّلم، الذي إن أحسن تطبيق ما عهد به إليه تحققت الأهداف، وإلاّ تذهب كل الجهود سدىً، وتضيع سنوات من العمل، وتهدر أرصدة وقدرات مادية وبشرية على غير هدى.
تدريب المعلمين على المناهج الجديدة
استناداً إلى ما تقّدم، لم تتأخر المراجع المختصّة في إطلاق الدورات التدّريبية العامة والمتخصّصة لأفراد الهيئة التعليمية، قبيل . البدء بتطبيق المناهج الجديدة، وبعده (اعتباراً من صيف ١٩٩٧)
ومع أهمية الغاية التي من أجلها أقيمت هذه الدورات، وسعيها إلى نشر ثقافة المنهج الجديد، والعمل على تمثل أهدافه البعيدة والقريبة، العامة والخاصة، وتمكين المعلمين من القدرات والمهارات اللازمة لحسن التطبيق، فإنّ مسار هذه العملية اعترضته ثغرات وعثرات، من أهمها قصر مدة الدورة الواحدة، وعدم أهلية بعض المدرّبين للقيام بالمهام الموكولة إليهم، وعدم الالتزام أحياناً بأطر البحث والعمل الفريقي واستخدام الطرائق الناشطة، كأسس فنّية للتدريب، والخروج في أحيان أخرى عن برنامج التّدريب المقرر، وغلبة الجانب النظري على الجانب العملي، وتأخر إلحاق المديرين بهذه الدورات... فضلاً عن أخطاء الإدارة التربوية في نقل المعلم الذي خضع لدورة تدريبية في مادة معينة في حلقة دراسية أو أكثر، الى مدرسة لا تحتاج إلى خدمته في المضمار الذي تدرّب عليه، أو لجوء مدير المدرسة إلى إسناد مهمة الى هذا المعلّم لم يتدرب عليها. لقد تكشفت للمراجع المختصة الراعية لشؤون التّدريب (المركز التربوي والتفتيش التربوي والمديرية العامة للتربية) الشوائب الكثيرة التي رافقت عمليات التّدريب على المناهج الجديدة، وما ترك ذلك من أثر سلبي لدى جمهور المعلمين أدى أحياناً الى إطلاق أحكام قاصرة وغير موضوعية على المناهج برمّتها.
التّدريب المستمرّ
وجد مشروع التّدريب المستمرّ لأفراد الهيئة التعليمية إذاً طريقة ممهدة للانطلاق، في ضوء واقع الدورات التدّريبية ونتائجها غير المرضية، على المستويين النظري والتطبيقي. وأعدّت لهذه الغاية الكادرات اللازمة، وخصصت ست دور للمعلمين والمعلمات منتشرة في مختلف المحافظات، لتنفيذ المرحلة الأولى من المشروع بشكل نظامي، وعلى مدار العام الدراسي، ثم أضيفت دور جديدة في هذا النطاق بصورة جزئية مرتبطة بموضوعات محددة وآجال معينة. ورافق ذلك تدريب المسؤولين عن مراكز الموارد والمدرّبين المختارين لهذه المهمة في فرنسا، بمواكبة من التفتيش التربوي الذي يشارك في هذا المشروع من خلال لجنة المتابعة والإشراف المركزية، ولجان التوجيه المناطقية، والحضور الرقابي للمفتشين الذين يواكبون الدورات التدّريبية، وينظمون بشأنها التقارير المناسبة التي تستهدف تقييم الأداء التدريبي لكل من المدرّب والمتدرّب، واقتراح ما يلزم لتحسين شروط التّدريب، ورفع مستوى جاهزية العاملين فيه، ونتائجه، وتوسيع دائرة المستفيدين منه، وتظهير الحاجات الضرورية للمعلمين...
ومع أنّ جهوداً كثيرة بذلت من قبل المركز التربوي للبحوث والإنماء، والمديرية العامة للتربية، والتفتيش التربوي، بمشاركة فاعلة من الخبراء الفرنسيين، لتوفير السبل اللازمة لنجاح المشروع، وجعله علامة مميزة من علامات النهوض التربوي والسعي الحثيث لرفع مستوى الأداء التعليمي، فإن ثمة ثغرات ظهرت في نطاقي التخطيط والإعداد لا بدّ من التوقّف عندها، ومن بينها:
- إطلاق المشروع للتنفيذ من دون أن يسبقه أو يرافقه، في مراحله الأولى على الأقل، وضع نظام خاص بالتدريب المستمرّ، أو تجري إعادة النظر في النظام الداخلي لدور المعلمين والمعلمات، في ضوء الدور المنوط بها في الوقت الحالي، بحيث يتم تنظيم العلاقة بين مركز الموارد وإدارة الدار، وبين الدار والمنطقة التربوية والمدارس الرسمية، في الشؤون المتعلقة بالمتدربين وانخراطهم في برنامج التّدريب، وما يتصل بذلك من عمليات تسجيل، وإبلاغ، ومساءلة المتغيبين عن الدورات من دون عذر مشروع.
- توسيع دائرة الدور العاملة في نطاق المشروع، قبل أن يترسخ في الدور الست الأساسية مفهوماً وتطبيقاً وتحقيقاً لنجاحات معينة تلقى صداها في أوساط المعلمين، وتمثل عامل جذب لهم للانخراط في الدورات التدّريبية.
- عدم تضمين المعيارية الامتحانية للمرشحين لمهمة مدرّب شرط امتلاك كفايات معينة وخبرات محددة.
- ضعف التسويق والإعلام الترويجي للمشروع.
- عدم تخصيص الحلقة الأولى من المشروع لتدريب المديرين، باعتبارهم المسؤولين الذين سوف يتولون نشر ثقافة التّدريب المستمرّ في صفوف المعلمين، وحثّهم بالتالي على الانخراط في الدورات التدّريبية، في ظل مناخ من القناعات المشتركة بأهمية التثقيف المهني المتواصل. وبكلمة أخرى إن عدم اعتماد المديرين نقاط ارتكاز لانطلاق المشروع وتنفيذه بالشكل المطلوب، أدى إلى أن يقف بعض هؤلاء موقف المعارض أو المصعّب لمشاركة معلّم في دورة تدريبية من جهة، وإلى عدم حماسة معلّمين للمشاركة في هذا السبيل من جهة أخرى.
- عدم توفير الحوافز المعنوية والمادية لتشجيع المعلّمين على الانخراط في برنامج التّدريب المستمرّ.
- عدم موافقة العقود المبرمة مع المدرّبين للنصوص القانونية التي ترعى حدود الحصص التعاقدية للأساتذة والمعلمين خارج أوقات الدوام الرسمي، واحتساب الأجر التعاقدي للحصص غير المنفذة فعلياً.
أمّا الثغرات التي ظهرت في نطاق التطبيق، فمن أهمها:
- عدم إجراء تقييم دوري للمدرّبين، على أساس ''المرجع الخاص بكفايات المدرّب''، وإعادة النظر في أوضاعهم في ضوء ذلك. إن مدرّباً لا يقدر أن يكتسب ثقة المتدرّبين لديه، من خلال ما يختزن من قدرات ومؤهّلات، وعلى قاعدة ما توافر لهم من مكتسبات تستطيع أن ترسّخ فيهم سلوكيات تربوية معيّنة، وأن تعزّز لديهم مهارات فنّية تنعكس إيجاباً على أدائهم التعليمي، هو أوّل العاملين على هدم فكرة التّدريب المستمرّ وجدواها.
- غموض مفهوم المتابعة، واضطراب التوجّهات بشأن الجهات والآليات المعنية بتقييم مدى تحقق أهداف التّدريب ميدانياً. ففضلاً عن التفتيش التربوي الذي هو بحكم القانون سلطة الرّقابة على ''كفاءة أفراد الهيئة التعليمية''، لم تحسم الخيارات المتعلّقة بهذا الموضوع بين الجهتين اللّتين تتولّيان ''تعزيز كفاءة المعلّم التعليمية والتربوية''، وهما المركز التربوي والإرشاد والتوجيه؛ مع الأخذ بعين الاعتبار العمل المنوط بالجهة الأولى لهذه الناحية وفقاً لأحكام القانون، والإشكاليات التي ترافق عمل الجهة الثانية من الوجهة القانونية. وبذلك يبقى مفهوم المتابعة ملتبساً، ولا تتحقق إذاً الفائدة المتوخاة من التّدريب بصورة كلية، إلاّ إذا قُدّر للتفتيش التربوي أن يتابع المعلّمين المتدرّبين ميدانياً، وهو أمر يتعذّر تحقيقه بصورة نظاميّة وشاملة.
- رجرجة الآليات المعتمدة لدراسة حاجات المعلّمين التعليمية والتربويّة، ليتمّ في ضوئها تحديد مضامين الدورات التدّريبية. فلجان التوجيه المناطقية التي تضمّ رؤساء المناطق التربوية، وممثلين عن التفتيش التربوي، والإرشاد والتوجيه، ومديرية التعليم الثانوي، ومديري الدور ورؤساء مراكز الموارد فيها، هي التي تتولّى تعيين هذه الحاجات، في غياب الجهات المعنية أصلاً، وقبل أي جهة أخرى، بتحديد هذه الحاجات، بالنظر إلى طبيعة المقاربات التي تجريها بحكم المهام الموكولة إليها ميدانياً، وهي المعلّم نفسه، ومدير مدرسته، ومنسّق المادة التعليمية، فضلاً عن المفتش التربوي المختص.
- قطع التّدريب قبل انتهاء الأعمال التدريسية، وعدم الاستفادة من العطلة الصيفية في مواصلة أعماله، خصوصاً في الموضوعات التربوية العامة، على اعتبار أن التّدريب المستمرّ، بحسب فذلكته، يتم في أثناء العمل، وليس خارجه ( المواضيع التعليمية المتخصّصة).
- غياب التنسيق بين المدرّبين المعنيين في نطاق المادة الواحدة أو الموضوعات المتقاربة، على المستويين العمودي ( في الدار الواحدة)، والأفقي (بين مختلف الدور ).
- عدم مساءلة المعلّمين المدعويّن للدورات التدّريبية والغائبين عنها بدون عذر مشروع.
- عدم التدقيق في الأيام الفعلية التي تحتاج إليها بعض الدورات التدّريبية.
- عدم إقامة دورات خاصة بالمتعاقدين الذين دخلوا التعليم من دون إعداد مسبق؛ علماً أن الحاجات المتعلّقة بهؤلاء تبعاً لذلك مختلفة عن تلك العائدة لمعلّمي الملاك.
- عدم تنظيم انخراط المعلّمين في مشروع التّدريب المستمرّ: لم تحسم إلاّ مؤخّراً مسألة كيفية انخراط المعلمين بالتدريب المستمرّ، من خلال تعميم أصدره المدير العام للتربية قضى بإلزامية اختيار كل معلّم رسمي دورة تدريبية واحدة على الأقل في العام الدراسي الواحد. وعلى الرغم من أنّ القاعدة الذهبيّة في كل تدريب هي الإقدام الطوعي، في مناخ مؤاتٍ ومشجّع يقوم على نشر ثقافة التّدريب المستمرّ، ووعي أهدافه ومآله ودوره ومردوده على المستويين الفردي والجماعي، فإنّ الإلزام لا يمكن أن يجد سبيله إلاّ في نطاق العدد الإجمالي للأيام التدّريبية التي يجب أن يخضع لها العاملون في أثناء خدمتهم الفعلية، وفي تحديد التوقيت المناسب لإجرائها، وليس من خلال دورية التّدريب السنوية، بقطع النظر عن استحالة تدريب ما يقارب الأربعين ألفاً من الأساتذة والمعلمين في السنة الواحدة.
وبالإضافة إلى كلّ ذلك، لا بدّ أخيراً من إحاطة مسألة التّدريب المستمرّ بنظرة شمولية تأخذ بعين الاعتبار كل العوامل المساعدة، الآيلة إلى تحسين شروطه وتفعيل دوره، ليأخذ مكانه الطبيعي في مساحة البناء التربوي والخدمة العامة، متفاعلاً مع مسارات وأطر أخرى للعمل، من بينها:
- إعادة الاعتبار إلى الإعداد الدوري والمنتظم للأساتذة والمعلمين، بناءً على الدراسات الموضوعية التي تحدّد الحاجات الحقيقية لتشكيلات الجسم التعليمي، بحيث لا يلج سلك التعليم إلا من هو معدّ لهذه الغاية الإعداد التربوي والتعليمي والأكاديمي اللازم ، الذي يؤهله لممارسة دوره بصورة فاعلة وصحيحة؛ وعندئذٍ فقط تنتهي مشكلة التعاقد وتداعياتها، وتخرج من موقعها المفتوح في المسار العام للتعليم، لتعود إلى حجمها المناسب والمتلازم مع تلبية الحاجات المحدودة والاستثنائية.
- تشكيل هيئة ناظمة لشؤون تدريب المعلّمين وتعزيز كفاءاتهم المهنية، ينضوي تحت لوائها مراكز الموارد في دور المعلمين والمعلمات والمكلفون مهمات تربوية في الإرشاد والتوجيه، تعمل في كنف المركز التربوي للبحوث والإنماء، بمواكبة التفتيش التربوي وإشرافه، وتتولّى شؤون التّدريب المستمرّ لأفراد الهيئة التعليمية ومتابعته ميدانياً في المدارس، بحيث تتولّى مراكز الموارد مهمات التّدريب، ويتفرّغ المكلفون مهمات تربوية لشؤون المتابعة وتقييم المكتسبات. وبذلك نتخلص مرّة واحدة وأخيرة من الازدواجية في أعمال التأهيل والتّدريب من قبل جهتين منفصلتين لا تعملان تحت سقف واحد، أو بتنسيق واضح في حدّه الأدنى.
- تزويد المدارس بالتجهيزات والوسائل التربوية التي تسمح للمعلمين بتطبيق مكتسبات الدورات التدّريبية بفاعلية، وإغناء المكتبات المدرسية والمختبرات بما تحتاج إليه في هذا السبيل.
- إيلاء جانب التثاقف المهني الداخلي في نطاق المدرسة الواحدة الأهمية التي يستحقها، وتفعيل عمل لجان المواد والتنسيق، لتعميم فوائد التّدريب المستمرّ حيث يلزم.